
كان من المقرر هذا العام أن يقضي معنا جزءاً من إجازته في رمضان. حجز له مكانا على الطائرة بما يتناسب مع موعد امتحاناته. لم يكن يفصلنا عن حضوره غير أسبوع واحد من موعد الحجز. حادثني والفرحة تشع من عينيه، ويضيء جبينه بأمل اللقاء المنتظر، وكنت أعلل نفسي برؤياه وأنسج حوله وشاح لهفتي واشتياقي وآملي.
أتى يوم آخر كنت أعده ليمضي ويُقرب اللقاء، لكنه لم يكن كذلك، أعلنت حالة الطوارئ،، دولة إثر دولة فلسطين فالأردن فمصر، أغلق المجال الجوي، للحد من زحف الوباء، حاصروا الوباء وبقي ابني عالقاً هناك، مرّ شهر وكم أوجعني الأمل المتأرجح بمراسلات الداخلية والسفارة، ضجر المناشدات وردود التسويف وضعني في برزخ الأمل، أيشفع الأمل للمدى ويجمع شتاتنا؟ أم نطيل المكوث في ذلك البرزخ الذي تاه عن جمع ارضي بأرضه؟
ظمئت والماء بيدي، هو الأمل المرّ، آوي إلى فراشي، أقول لنفسي: قد يعود غداَ، أغمض جفوني وأغفو لأراه يناديني وقد مللت الانتظار، أمدّ يدي إلى هاتفي الذي يلازمني طيلة الوقت ، أكلمه:
ـ ابني
ـ نعم أمي
ـ كيف حالك؟
ـ بخير وأنتم؟
ـ بخير الحمد لله.
ـ هل أفطرت؟
ـ ليس بعد يا أمي، فقد صحوت على محادثتك، سأنتظر إلى أن يستيقظ زميلي ونفطر سوياً، لا تقلقي يا أمي .
تعلق في حلقي عبارة " لا تخرج يا أمي من البيت" لقد مل تعليماتي، وقلقي وتوصياتي، التي تزيد قلقنا كل ثانية من الوقت. .
أنهي حروفي، بينما تستمر دموعي في الكتابة على وجنتي: استودعك الله ابني الغالي.
ليس بيننا إلا كلمات اعتيادية، وكم جميل أن تبقى حياتنا العادية كما هي، أمنيتنا الوحيدة فقط أن يكون الغد كاليوم.
يوم إثر يوم يتحول الأمل إلى رجاء، ثم إلى أمنية، افقد الأمل الذي يؤرق المسافات فيما بيننا رويداً رويداً، ولكني لا أرتاح، شيء آخر يوخز السكينة في روحي لعله الخوف من المجهول، لعله الفراغ في حيز الأمل المفقود، تؤلمني يداي التي تتوق للمس وجهه، يؤلمني صوتي الذي يناديه ليل نهار، وتؤلمني الأخبار التي تنقل الأخبار والإشاعات .
أتصور لو عاد للسماء مجدها، وعادت الطائرات تشقّ عباب الفضاء وتصعد وتهبط محملة بمن ننتظر ، لو عاد للسماء مجدها وانقشع السحاب المتراكم على نور الله، وبزخ سَنى رحمته وأشرق الضياء وامتد لأرواحنا المنهكة من الوهم والقلق.
لمسة، " كن فيكون " تنهض بنا من عمق الوجع إلى مجد الرحمن وعز الإنسان.
أستصرخ الوجع الكامن في تلك الكلمات، أستصرخ الفضاء الذي يقطع صوتي... أين الطيور التي تجوب أطراف المسافات على الأقل لترسل الأشواق؟ كل شيء في كورونا يتحور ويتغير، لكن قلبي لا يهدأ ولهفتي لا تتغير.
كل مرة أحادثه فيها أطيل النظر في عينيه، أريد أن اختزل نظراته في قلبي، فإن مرضت أستخرج وميض عينيه ليبلسم روحي وأقوى به. أخاف أن يصيبني الوباء، وهو ليس إلى جانبي، أخاف أن يرغمني الوجع لأنقطع عن مكالمته ليل نهار، أحتاجه جسداً وروحاً وقلباً، لكنه في قارة أخرى، وكأنه في الجانب الآخر للكون البعيد البعيد، وكأني موصولة لأجهزة الحياة ، ولا أدري متى سيعلن الطبيب سحب الأجهزة؟ وينفذ بي حكم الإعدام، أريد أن ألمس وجهه، آخر أمنية لي، أستجدي رؤيته، بينما يستجدي العالم اللقاح، وقد امتدت يد الوباء لتسحق طرقات المدينة، وأبوابها ومساجدها، وسفن البحر الجاثية على شواطئها.
فلسطين
0 comments:
إرسال تعليق