القضاء التايلاندي ينتصر للعسكر .. لماذا؟/ د. عبدالله المدني


قلنا في مقال سابق عن تايلاند أنها قد تعود إلى الفوضى وعدم الإستقرار إذا أجبر قادتها العسكريون على التخلي عن السلطة، وذلك على ضوء قرار أصدرته محكمتها الدستورية في 24 أغسطس الماضي  أمرت فيه رئيس الحكومة الجنرال "برايوت تشان أوتشا" بالتنحي عن منصبه مؤقتا إلى حين تأكيد شرعية ولايته من عدمها. وجاء القرار إستجابة لطعن تقدمت به المعارضة أمام المحكمة بعدم دستورية بقاء الجنرال في السلطة بدعوى أنه تجاوز المدة القانونية المقررة وهي 8 سنوات، فيما تحجج الفريق المؤيد للعسكر قائلا أن الجنرال برايوت لم يتجاوز في السلطة المدة المقررة، بمعنى أنه يجب احتساب وجوده في الحكم من تاريخ الانتخابات التي أجريت سنة 2019 بموجب الدستور الحالي، وليس من تاريخ قيادته لإنقلاب سنة 2014م

غير أن ما حدث في الثلاثين من سبتمبر المنصرم حسم الجدل ومنح جنرال تايلاند القوي فرصة أخرى للبقاء في السلطة، على الأقل إلى حين الإنتخابات المقرر إجراؤها العام المقبل. حيث أصدر قضاة المحكمة الدستورية حكما يسمح للجنرال باستئناف عمله كزعيم للبلاد من بعد تعليق مهامه لمدة خمسة أسابيع. وهذا بطبيعة الحال يتيح له ترؤوس قمة التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ (APEC) التي ستعقد في منتصف نوفمبر المقبل في بانكوك بحضور قادة العالم، أما حجة المحكمة فكانت ــ كما قلنا في مقالنا السباق ــ تفادي انحدار البلاد مجددا إلى الفوضى، ونزع فتيل أي توترات سياسية قد تلحق الضرر بالأمة التي بدأت بالكاد تتعافى من معاناتها الاقتصادية والسياحية بسبب جائحة كورونا.

ولا يُعرف حتى الآن إنْ كان الجنرال برايوت سوف يستثمر هذا الحكم القضائي ومبرراته في خوض معركة الانتخابات القادمة (بعد عام) على رأس حزبه السياسي المعروف باسم "بالانغ براتشارات"، او أنه سيرضخ لرغبة القوى السياسية التقليدية المحافظة من تلك التي ارتبطت بالبلاط الملكي السابق زمن العاهل التايلاندي الراحل الملك بوميبول أدولياديت (راما التاسع) الذي كان صاحب كاريزما وشعبية طاغية ومكانة سامية في قلوب الغالبية العظمى من مواطنيه على مدى سبعة عقود من الزمن، علما بأن تسريبا صدر عن هذه القوى المحافظة يفيد برغبتها في طرح اسم بديل لقيادة تايلاند، معتبرة أن برايوت أدى دوره كاملا لجهة حفظ أمن واستقرار البلاد، وصيانة العرش في مواجهة القوى المناوئة للملكية، وأنه آن الأوان أن يستعد لدور جديد، يُحتمل أن يكون إدارة الهيئة الاستشارية للبلاط الملكي، أي على نحو ما حدث مع رئيس وزراء عسكري سابق هو الجنرال الراحل "بريم تينسولانوندا" الذي كلف بقيادة تلك الهيئة زمن الملك الراحل من بعد ثماني سنوات قضاها في السلطة كرئيس للوزراء ما بين عامي 1980 و 1988، علما بأن الهيئة الإستشارية للبلاط فقدت الكثير من الهيبة والنفوذ والتأثير بعد رحيل الجنرال بريم ومن بعده الملك راما التاسع، ومجيء الملك الحالي "ماها فاجيرالونغورن".

أما السؤال حول الشخصية البديلة التي قد تراهن هذه القوى المحافظة عليها في الانتخابات فلن يكون بالتأكيد الذراع الأيمن للجنرال برايوت في الحكومة العسكرية الحالية والرجل التالي في الترتيب الهرمي للجيش وهو الجنرال "براويت وونغسوان" الذي تولى قيادة تايلاند مؤقتا خلال الأسابيع الخمسة الماضية. نقول هذا لأن الأخير لا يحظى بشعبية كافية تؤهله للفوز على مرشح المعارضة المحتمل وهو إبنة رئيس الوزراء الأسبق المثير للجدل والأزمات "تاكسين شيناواترا"، الذي بامكانه ضخ ثروته الضخمة للعودة إلى المشهد السياسي من خلال حزبه (بيوا تاي) وشخصية إبنته "باتونغتارن شيناواترا" أو من خلال شخصية شقيقته رئيسة الحكومة الأسبق "ينغلوك شيناواترا" (تولت الزعامة على إثر انتخابات 2011، وأقيلت بقرار من المحكمة الدستورية في عام 2014 بتهمة سوء استخدام السلطة). ومن دلائل عدم شعبية الجنرال "براويت وونغسوان" اكتظاظ وسائل التواصل الإجتماعي بصورة له وهو مستغرق في النوم خلال حدث رسمي في مقاطعة كرابي الجنوبية مع تعليقات ساخرة.

وعلى الرغم من أن الإنتخابات التايلاندية القادمة لن تجري قبل سبتمبر 2023، إلا إذا حدثت مفاجأة ثقيلة كحدوث إنقلاب عسكري جديد، فإن الأوساط السياسية والشعبية ومعها وسائل الإعلام التقليدية والحديثة تتداول من الآن أسماء كثيرة كأصحاب حظوظ في الفوز بقيادة البلاد مستقبلا. من بين هذه الأسماء: قطب العقارات "سانسيري سريتها تافيسين" الذي يتمتع بعلاقات قوية مع عائلة شيناواترا، والرئيس التنفيذي لشركة Gulf Energy "ساراث راتانافادي"، المعروف بثرائه وعلاقاته الشخصية مع الملك ماها فاجيرالونغكورن، ومحافظ بانكوك "تشادشارت سيتيبونت" الذي يتمتع بشعبية كبيرة وله صلات بأسرة شيناواترا من ناحية وعلاقات وثيقة مع البلاط الملكي الذي خدمه حتى العام 2016 من ناحية أخرى.


د.عبدالله المدني

* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي

تاريخ المادة: أكتوبر 2022م


CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق