قراءة في رواية حجر الألف لمؤلفها عمر سعيد/ محمود شباط



بأسلوبه السائغ المتمكن المتماسك، استطاع الروائي أن يهزم رتابة إنشائية السرد عبر إشباع النَصِّ بالفكرة، كما يشبع الفلاح المحترف التربة بالمخصبات الطبيعية. وفي الكثير من المقاطع تتبرعم وتزهر خمائل النثر الشعري الجميل. 

عبرالأمية الحديثة، حسب المؤلف، يمكنك أن تقنع الكثيرين بوجود فصيلة من البقر تتكاثر بالبيوض، وفصيلة من الذباب تتكاثر بالولادة. ص 12

الكتابة الممتعة أشبه بملامح أبي. ص 19، ما أجمل التشبيه.

ما أفصح عمر سعيد وما أصدقه حين يخبرنا أن : "الكتابة الممتعة هي ألا تكتب بكلك، وألا تفقد مهارة التنقل بين وعيك ولاوعيك خلال رحلة الغوص في الذاكرة والوجدان. ص 20

مذ غادرتني وصوتي يخذلني إلا في غناء الحزن. ص 28، يكاد القارىء يسمع موسيقاها.

يخبرنا الكاتب في الصفحة 28 بأن الدوري هو العصفور الوحيد الذي لا يهاجر، نعرف هنا بأن القيمة ليست فقط كمعلومة ، بل كعبرة، قلت: ليتني كنت دوريا ولم أسافر لمدة تجاوزت الـ 41 عاماً. 

في ذروة ألقٍ عقليٍّ إنسانوي يعبر بنا قلم الكاتب إلى غدير نقي شفاف الحروف في الصفحة 53:" بين هذين المهمين ، يستطيع العاقل ؛ أن يعرف لِـمَ تحصل كل هذه المتغيرت في هذا الكوكب؟ ولـِمَ باتت المسافات هائلة بين عقلية تحاول السير وفوق أكتافها ألف وأربعمئة سنة من الموروث، وبين عقلية متخففة لا تحمل فوق أكتافها إلا عقلاً متحررا ، لا يبالي بما بعد الموت ولا بما هو قبله، بل يبالي بأخيه الإنسان، وعلى أي رصيف من أرصفة كوكب الأرض كله".

يردف الكاتب مسلطا الضوء على تعسف السلاح وسيادة شريعة الغاب في الصفحة 65 :" في مثل تلك الحرب، تغدو البندقية أهم وسائل تحقيق الرغبات، تلك الرغبات التي لن تتحقق بسهولة في السلم تحت سقف قيم الإنسان؛ من جنسٍ، وقتل وقهر وقوة وامتلاك.


"نحن البشر نعيش على أخبارنا بعضنا البعض، مهما بدت تافهة"، وذلك في مقاربة الكاتب لمحادثته مع العجوز الليبي. ص 88.

بنكهة أدبٍ مهجري سائغ حلو المذاق يزركش الكاتب بشرة روايته الجميلة، وفيها يشتم الغربة، ويشتم الأوطان :"التي تضطر أبناءها لمثل هذا التيه" ص 94.

تتعدد المقاربات والمعالجات الإجتماعية؛ زواج الحفيدة من الجد، التعبير هنا مجازي عن فارق العمر. ص 107.

لن يفوت الكاتب الإضاءة على ما ينال اللاجئين من قسط وافرمن الظلم المزدوج والتعسف على إجحافهم حتى في ترجمة شهاداتهم للمنظمات الدولية حين تلجأ إدارة المخيم عمداً إلى مترجمين مزيفين ينقلون كلاما لا علاقة له بما يقوله اللاجئون. ص 125.

يلفتنا نص الكاتب إلى أن :" أجمل العقول  تلك التي لا تقبل بالأفكار المقززة المعلبة".

ومن أشد غرائب اللغة ، حسب المؤلف، أنها :" تنصب، وترفع، وتكسر، وتجر، وتمنع، وتقدِّم، وتؤخِّر، وتحذف، وتنفي، وتؤكد، وتبني، وتعرب، وتعرِّف، وتنكر، وتنشيء، وتخبر، وتستفهِم، وتتعجَّب، وتستنكر، وتنادي، وتحصر، وتفرد، وتثنِّي، وتجمع، وتُذكِّر، وتُؤنِّث، والكثير الكثير من الوظائف التي تنصف كل رغبة أو حاجة أو مزاج" . ص 143.

"فيها (في اللغة)، يحضر كل شيءٍ، وبها ينبعث الخيال شطاحاً، فتستحدث المادة فكرة، تتخذ أبعاداً ما كانت لتتحقق لولا انسكابات اللغة في اللاوعي" ص 144.

عن مسايرة اللغة وتشذيبها من قبل الكاتب، أي كاتب، يقول عمر سعيد في الصفحة 178: " هناك.. يستحضر الكاتب المواربات، ما استطاع منها، للنجاة بأقل القليل من (تمرير) النص، الذي يتحول إلى مسخ، لا يشبه بتاتا ذلك المدهش، الذي تشكل في عوالمه الداخلية، إذ تبدأ التنازلات، التي تتكفَّل اقتطاعات (تشوبه) بتشويه النص". ص 179.

عن مغاور ومطبات النص التي يعانيها القارىء والناقد على السواء يقول الكاتب :"النص شيطان لا يرحم"، وعلى الأخص في الـ "لو" التي تشكل أداة الناقد لتكييف النص مع نزعاته، بينما تدخل الـ "ليت" والـ "لعل" في عدة القارىء (...). ص 179.

في قول الكاتب في الصفحة 217 : "السماء لا تمطر ذهباً... نعم، إلا أنها تمطر عمائم تسبب قحطاً في العقول". كَـمّاً من رجم المُحرَّمات التي لا يجرؤ الكثيرين على المسِّ بها. 

كما لو كان عمر سعيد يرسم تجريداتٍ بكل ألوان الطيف ومتفرعاته حول قيمة العمل الإبداعي حين يقول:" فما قيمة النص، أو القطعة الموسيقية، أو العمل اللوني، أو المنحوتة، أو الرقصة إن لم تتحقق من خلالها مساحات واضحة من التساؤلات، والتحليلات، والاستنتاجات، والاستذكارات، وغيرها".

وكم ينطبق تسليط ضوء كاتبنا في الصفحة 230 على كثيرين ممن يدّعون قرض الشعر والكتابة حين يقترب من تخوم غربلة الكم والنوع :" وقيمة الشاعر ليست بعدد دواوينه" هنا يتبادر إلى ذهن القارىء قول الشاعر:

الناس كالشِّعرِ كم منهم / بألفٍ وكم بيتٍ بديوان. 

دون أن نغمط حق الذين أسهموا في التغيير؛ علوما وآدابا وإبداعاً بكل الحقول، لا يمكننا غض الطرف عن اقترافات مُدَّعين ينطبق عليهم قول عمر سعيد:" فالتغيير قبل أن يكون إرادة عامة هو طروحات وإنذارات مبكرة لما ينبغي أن يكون الحال عليه" ص 230. 

قراءة النص في الصفحة 232 ، يدعو إلى معالجة تمكين المبدع والمتلقي من فهم بعضهما البعض ترجع بي عشرات السنين إلى الوراء، حين سألني صاحب الشركة ومديرها في بداية عملي لديهم في الخليج:  ما هي طبيعة عملك لدينا ؟ 

- مترجم وشؤون موظفين.

- مترجم ؟ همهمها بتناعس ثم قال : على المترجم أن يفهم الموضوع كي يعالجه ويوصله بوضوح إلى من يعنيه الأمر. فوراً تبادر لذهني ما درسته عن البرمجة في الحاسب الآلي ؛ In-put-process-output. (إدخال المعلومة-معالجتها-إخراجها).

في الصفحتين 252 و253 ما يضغط على غدد الدموع بقوة كي تجود بأحر العبرات حين يتكلم عمر سعيد عن البنوة والأبوة (بلسان أب مغترب) مخاطباً ولده حين يصبح أباً :" وستكتشف وأنت تقف في باب المطعم، وقد اشتهيت سندويتشا، أنك ترتكب الخيانة، وأنت تحاول الأكل وحيداً، فتجري حساباتك السريعة لتغادر، وقد أجَّلتَ ما اشتهيت إلى راتب آخر". 

عبر موجة تشوقٍ لما بعد، تتلوها موجة تشوق لما هو أبعد يستمر إبحار قلم عمر سعيد. بسرد سلس أقل ما في أقله ينبىء القارىء بأن رواية "حجر الألف" تستحق القراءة ثلاث مرات على الأقل.

تخال نفسك في هذه الرواية تقرأ "شـثـرا" ، وذلك في نحت تلك الكلمة من مفردتي الشعر الشهدي المحلى بسكرالنثر. 

محمود شباط

عيحا في 19/02/2022

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق