نسماتٌ صوفيّةٌ عميقة: قراءة في ديوان الشاعر اللبناني محمد وهبه – نسماتٌ عميقة/ كريم عبدالله


( الشعر حياة أزلية تجري في وجودنا كي نعرفها معرفة أثيرية ظريفة كمعرفة الأم للأبن , أو العاشق للمعشوق , فهو ابتسامة قبل أن يكون معرفة , وصمت قبل أن يكون كلاماً , والشاعر هو ذلك الذي يحبس نَفَسه في صدره ولا يتحول لمدة طويلة من الزمن إلى أي شخص آخر – كريستيان بوبن ) .

مادام الأنسان منهمكاً بشهواته ورغباته , يظلّ في مرحلة النفس , ولكن حينما يجتاز الشهوات ويرتقي إلى مرحلة أعلى , ويصل إلى عالم العقل , وحينها يزداد رقياً , يصل إلى مقامات القلب والروح والسرّ . الشاعر يشبه الناي الذي ينفخ فيه الحبيب , فتخرج أجمل الألحان والكلمات , هكذا هو الشاعر اللبناني : محمد وهبه , يشبه الناي , وهكذا هي نصوصه الشعرية في هذا الديوان التي تشبهُ أنغام الناي .

هذا الديوان ( نسمات عميقة ) يحتوي على ( 58 نصّ شعري ) , وحين قراءتها بتمعن , نجد بأنّ جميع نصوصه احتوت على المفردات / الحبّ / القلب / العشق / ماعدا ثلاثة نصوص خلت من هذه المفردات الثلاثة , فمثلاً مفردة / الحبّ / ترددت في هذا الديوان ( 95 ) مرّة , ومفردة / القلب ترددت ( 85 ) مرّة , ومفردة / العشق ترددت ( 32 ) مرّة . في فاتحة الديوان ( الإهداء ) ترددت مفردات / القلب / الحبّ / اثنا عشر مرّة ,  بواقع ( 6 مرّات لمفردة – القلب , و6 مرّات لمفردة – الحبّ / مما يدلّ على كمية الحبّ الذي يكتنزه الشاعر في قلبه النابض بالحيوية والعشق والمحبة والسلام / أهدي كتابي هذا إلى زوجتي وحبيبتي وأم أولادي على دعمها المستمر وقلبها النابض بالحبّ والعطاء وصبرها ووقوفها بجانبي وتحملها مرّ الحياة وصعوبتها معي / . ونقرأ للشاعر في نصّ / أبجدية بالية / .. سيجتها بخفقان قلبي / وهمس حبّي / تبقى الحروف متواضعة / أمام جبال عشقي / تُجاه قلب حبيبتي . ونقرأ له ايضاً في نصّ / إحساسي لحبيبتي ثوبٌ / .. إحساسي أشجار حبّ / أسقيها حروف قلبي / كلماتها خطوات درب / ثمارها لوحات عشق . وايضاً نقرأ له في نصّ / أركان الحياة / .. الحبّ جامعٌ / وكنيسةٌ / الحبّ دير وكنيس / الحبّ معبد ومزار / الحبّ ملاك . وفي نصّ / أضغاث أحلام / أخذتها إلى قلبي / غير مصدق ما حصل / كانت مشاعري تغلي / ودقات قلبي / اسرع من الصوت . وفي نصّ / الزمن والقدر / نقرأ له / حبيبتي سأطرد الوقت / وأجعل حبّي / يمكث في قلبك . وكذلك نقرأ للشاعر في نصّ / تنكّر الحزن / أمعن في حصاد حبّي / أخفى ابتسامتي / خلف كل بعيد / مع أنني أحترمه وأحيانا أحبّه / كما أحبّ الحبّ . نرى هنا بأنّ الشاعر يصرّ أنْ كان يدري أو لا شعورياً على استعمال هذه المفردات والألفاظ في نسيجه الشعري / الحبّ / العشق / القلب / وكما هو معلوم فأنّ لكل لفظ أو كلمة يقولها الشاعر معنى واحد بحسب العرف الاجتماعي , ولا تدلّ على أكثر من معنى معين , غير أنّ انفتاح باب المجازات واتساع دائرة الاستعارات يمهد الطريق لاكتشاف معان جديدة ,  ولكن لابدّ من الانتباه إلى الأمر التالي وهو إنّ المفردات ذات المعنى الواحد حينما تقع متلاحقة في نظام خاص متسق , يمكن أن توفر فرصة لظهور معان جديدة كثيرة , ولهذا السبب باستطاعة الشاعر أن يصل من خلال الالفاظ المحدودة والكلمات المعينة الى معان غير محدودة ولا متناهية , فنقرأ للشاعر في نصّ / جلسة مع أفكاري / .. كانت ! / من بطولة حبيبتي / أنظر اليها من بعيد / بعيون كلّ الدنيا / بقوة الحبّ / في أثيث العشق / مع الحنين والخيال . وفي نصّ / جنوني العاشق / في عالمنا / وحيدين / مع عشقنا وجسمنا / متحدين الى الابد . وفي نصّ آخر بعنوان / حبّك مزيّف / نقرأ للشاعر .. اعتكفت أحاسيسي / في مضاجعها / اعتزلت الغرام / تقاعد قلبي / قدّم استقالته . وفي نصّ اخر بعنوان / حروف متحررة / نقرأ .. كلّما زاد / إحساسي تكاثرت / في أعشاش عشّاقها / في نظرات قارئيها / من قلبي عبر قلمي / تولد ثم ترسل / ثم ترقد / في خير القلوب .

أن هذا الديوان عبارة عن نسمات ينبض بها القلب مسرعاً , ويجعلنا نحلّق عالياً في عالم نقيّ جميل , نسمات قوية قد تصل الى حدّ الألم والشكوى , فنقرأ للشاعر في نصّ / دموع سريّة / مزيفة على الوجوه / آهات أقصى صداها / داخل القلوب / مداها يتشتت بالروح / يجري مع الدماء / تنبعث منه رائحة الحزن . هذا الديوان يجعلنا نبتسم , وكأننا أطفال صغار نحلم كثراً بعالم من النقاء والصفاء , أنه عبارة عن عاطفة كبيرة , عميقة , ثابتة في سويداء قلب الشاعر , تفيض حناناً استطاع الشاعر أن يعبّر عنها اصدق تعبير , والبوح بها دون تردد أو خوف أو خجل أو تحفظ , لأنها صادقة وجارفة , فنقرأ للشاعر في نصّ / سيّدة حبّي هي / .. سيّدتي / أنت نكهة حبّ / في قلبي / أنت قلم وحرف / على جداري / أنت روح راقية / أنت فهرست حبّ / في كتاب عمري / أنت رحيق زهر / في أعماقي . لقد استطاع الشاعر أن يعبّر عن مشاعره بـ / نسمات ـ همسات / عميقة / للحبيبة بلغة هادئة متزنة عذبة , جعلها تخترق القلوب وتدخلها دون استئذان , أنها همسات حلوة , ومشاعر رقيقة رسمها الشاعر : محمد وهبه , دون تلغيز أو تكلّف .

كلّ نصّ في هذا الديوان عبارة عن خفقة قلب / حذبة صوفية , وكأنّ قلب / الشاعر ـ درويش / تنبض في جميع قصائده إلّا في ثلاثة نصوص , ربما لا شعورياً طلب قلب الشاعر أن يتركه ليستريح قليلاً , لقد كان قلب الشاعر يلهث ويدقّ بقوة في جميع نسيجه الشعري .

أنّ الحبيبة حاضرة في جميع النصوص وبقوة , فنحن أمام دفقات حبّ مستمرة , ودعوة يطلب من خلالها الشاعر الى نشر ثقافة الحبّ والاحتكام الى لغة القلب , اننا أمام رقّة المفردة وجمال الكلمة التي طرحها الشاعر في قالب الشعر , فظهرت في أجمل صورة وأعظم شكل , أننا أمام صوت الروح وصرخة المشاعر الروحانية , أنّ هذا الديوان جرعة خمر تُسكر القلوب بشوقها , أنه ابتسامة العاشق للمعشوق وللحياة والامل والجمال , أنه لغة مبتسمة , أن نسمات الشاعر المخزونة في أعماق نفسه والحبيسة في قلبه , تندلق عفوية , رهيفة , عميقة , جيّاشة من الصفحة الاولى للديوان الى آخره , أنه حديث الذات الشاعرة المسكونة بالشعر والحياة والامل , أنه الصمت الناطق .

لقد كان الشاعر : محمد وهبه في ديوانه هذا / نسمات عميقة / كالدرويش , يدور ويدور ويدور حول الحبيب ـ المعشوق , ان الحقيقة العظمى تتبلور في الكلام , والكلام العميق يكشف عن تعالي الانسان وعمقه , هكذا كان الشاعر في ديوانه هذا , أنه حديث الشوق والمشاعر العميقة المحمّلة بالاحاسيس الرقيقة .

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق