بغداد حقبة حضارية مُضيئة في ليل المعرفة الإنسانية/ الأب يوسف جزراوي
بغداد عاصمة العراق، مدينة السلام، حبّاها الله باثار ومعالم رائعة. كانت محطّ أنظار وأعجاب الكثيرين مِن سواح ورحالة ومكتشفين. مرت بفترة مظلمة وبحقبات ازدهار وبنيان. لعبت دورها في التّاريخ، لأنّها منبع العلم والحرف.
كانت ولم تزلْ أمّ الدنيا رغم كلّ ما شهدته مِن ظروفٍ قاسية وأوقاتٍ عصيبة، لهذه الاسباب ولغيرها ارتايت تدبيج هذا المقال عن عاصمتي بغداد تاج العواصم وعروس الشرق، بغية التعريف بها وتسطير بعض المعلومات التّاريخيّة للقرّاء، سبق وأن نشرَ في بغداد قبيل عام 2003 وبعده ونشر مجددًا في صحفٍ عراقيّة ومجلات في المهجر وبعض المواقع، ويطيب لي إعادة نشره اليوم في هذا الموقع الأغر، فعلّنا نوفق، ومِن الله التوفيق.
عندما عزمأبو جعفر المنصور ثاني خلفاء العباس(ت 775 م) على بناء مدينة جديدة لتكون قاعدة الدولة العباسيّة الفتية ارادها ان تكون بعيدة عن معقل المعارضة واعدائه، اذ كان المنصور ودولته مهددين من قبل العلويين في الحجاز وغيرهم. ويمككنا القول أنّ المنصور أختار هذا الموقع (موقع بغداد ) لكونه حصينًا يحميه نهر دجلة من العجم ونهر الفرات من العرب، وكانت في الموقع قرية في عهد الساسانيين تدعى باسم بغداد أيّ "عطية الله". لم يكن تحديد الموقع واختياره من قبل المنصور امرًا عشوائيًا بل جاءت عملية الاختيار بشكلٍ مدروس، اذ ارسل الخليفة المنصور أُناسًا يبحثون عن الموقع يفي بهذه الغاية، ثمَّ خرج بنفسه لارتياد الاماكن المختلفة واختار الموقع من الناحيتين الجغرافيّة والاقتصاديّة، حيث تجمع معظم المصادر على ما يلي:
لم تنشأ المدينة إلا بعد فحص موضعها وموقعها وأهميتها من النواحي العسكرية والسياسية والادارية والاقتصادية (تجارية وزراعية ) وملائمة المناخ وامكانية التوسع العمراني المستقبلي فيها، كلّ ذلك بدون تجاهل سهولة وسعة العلاقة مع العالم المعروف آنذاك. كما كتب ابن الطقطقي عن كيفية خروج المنصور للبحث عن مكان ملائم ليبني فيه مدينته الجديدة فيقول : "خرج المنصور بنفسه يرتاد له موضعا يسكنه ويبني فيه مدينة له ولاهله ولجنده فانحدر الى جرجرايا واصعد إلى الموصل ثمَّ ارسل جماعة من الحكماء ذوي اللب والعقل وامرهم بارتياد موضع، فاختاروا له مدينته التي تسمى مدينة المنصور وهي بجانب الغربي من مشهد موسى والجواد عليهما السلام، فحضر الى هناك واعتبر المكان ليلا ونهارا فاستطابه وبنى به المدينة".
شرع المنصور بانشاء المدينة سنة 762 م على الضفة اليمنى من نهر دجلة في الزاوية المنحصرة بين مجرى دجلة ومجرى السراة شمالاً، وفي المنطقة التي كانت تقوم عليها المزرعة المباركة. لقد اقسم الخليفة بالله تعالى ليبني مدينته، وما ادراكم كم كان عظيمًا اندفاع المنصور في تحقيق مشروعه ذاك! فقد وظف كلّ طاقات الدولة العباسيّة لبناء مدينة السلام وكان يتتبع عملية البناء بحرص شديد وبفارغ الصبر. وتجمع المصادر على انه شرع بالبناء سنة 762 م وفرغ منه سنة 766 م .
البناء:
استغرق بناء بغداد اربع سنوات، انفق عليها نحو 400,883,000 درهم وقيل 18 مليون دينار واستخدم نحو مائة الف من المهندسين واهل المعرفة بالبناء والفعلة من شتى ارجاء الدولة وسمى هذه العاصمة بالاضافة الى اسمها الاصلي مدينة السلام. كما سميت ايضًا بالمدينة المدورة، عقب أن جعل بناءها على شكل مستدير، علمًا أنّ اكثر الحجارة التي دخلت في بناء بغداد نزعت من انقاض طاق كسرى في المدائن، أما اللبن فاصطنعه البناءون.
-تسمية بغداد
ذكر بعض الباحثين أنّ اصل تسمية بغداد من ( بغ داد ) أيّ "الصنم اعطاني". (بغ) يعني اسم الصنم. وبالفارسي (بغ) تعني البستان و (داد) تعني "اعطى"، فيكون المعنى عطية البستان. بينما ذهب البعض الاخر ليرجع اسم بغداد الى الملك صيني اسمه بغ !!، فهنالك قصّة مفادها: كان تجار الصين اذا انصرفوا الى بلادهم بارباحهم الطائلة من اسواق بغداد قالوا "بغ داد" أيّ هذا الربح ما هو الا عطية الملك .
لقد اجتهد العديد من الباحثين في شرح وتحليل اسم بغداد، لكننا نرجح أنّ اسم بغداد يرتقي الى عهد الملك حمورابي نحو القرن 18 قبل الميلاد، حيث ذكر في لوح وجد في سبار ( يطلق عليه اليوم حبة ) مدينة باسم (بكدادا) ولا أعلم ما حملته من معنى.
وأذكر هنا أنّ البحّاثة العراقي الأب بطرس حدّاد – رحمه الله- ذكر لي يومًا ما يلي: وقد سمعت البطريرك بولس شيخو ( ت 1989 ) أكثر من مرة يشرح أسم بغداد شرحًا لم اطالعه في المصادر العربية أو الارامية فكان يقول:
إنَّ المنصورَ ورّجاله عند زيارتهم الدير قبل بناء بغداد راوا رِجالاً عند دجلة يجدلون الخيوط وينسجون الخيام فسالوا الديراني مِن هؤلاءِ وما أسم المكان ؟. فاجابهم (بكذاذا) أيّ _بيث كذاذا_ التي تعني موضع النسيج وإعداد الخيام، فقال الخليفة ساسمي مدينتي باسم هؤلاء الفقراء
( حدّاد كتاب كنائس بغداد ودياراتها).
سمُيت بغداد عبر التّاريخ بتسميات عدة والشائع منها مدينة السّلام، ونقرا في كتاب المسكوكات وكتابة التّاريخ ما يلي: "ان اختيار تسميتها مدينة السلام جاء للعديد من الاسباب منها لمقاربتها لنهر دجلة وكانت دجلة تسمى قصر السلام". ويوصفها أو يسميها ياقوت الحموي بـ " أمّ الدنيا وسيدة البلاد" ويزيد فيقول عنها: "مدينة السلام جنة الارض ...عين العراق".
ومِن اسماءها الشائعة أيضًا الزوراء. وينقل لنا الحميري بأنّها سميت بالزوراء لانعطافها بانعطاف دجلة، ويضيف قائلاً: "بعضهم يسميها الصيادة لانها تصيد القلوب" .
وفي ظني وفق قرائتي للمراجع أنّها سميت الزوراء، نسبة لتقاطر الزوار إليها. فمن يطلع على كتب الرحلات والرحالة المستشرقين الذين قصدوا العراق وعلى وجه الخصوص بغداد سيوافقنا الرأي إن قلنا : إنَّ بغدادَ مِن أكثر المدن والعواصم التي تقاطر عليها السوّاح والرحالة على مدى العصور وأكثروا في وصفها.
ومِنَ الجديرِ بالذكّر أنّ سبب تسمية بغداد بـ "مدينة السلام" هو قربها من نهر دجلة، الذي كانَ يقال لهُ: وادي السلام؛ فقيل مدينة السلام، وليس لاسباب أخرى.
تلك هي بغداد السّلام ، أحرسها يا ربّ السّلام. الّلهمّ آمين.
وليس مِن قبيل المغالاة أو الغرو إذا قلت: إنّ العبد لله- كاتب هذه السطور- هو أوّل مَن أطلق تسمية " عروس الشرق " على مدينته بغداد وعاصمة بلده، في كتاب أدبي، صدرَ عن دار تموزميموزي عام 2018.
_ البدايات والانقتاح الحضاري
لا غرو ان قلت : إنَّ بغدادَ كانت الحجر الاساس للحضارة العربية ولغيرها من الثقافات ففي عصرها الذهبي ابان العصر العباسي عهد ازدهار والاستقرار عهد اتسم بانفتاح خلفاء بني عباس باتت فيه بغداد ملتقى لمحبي الثقافة والعلم والحكمة , ومن يتتبع تاريخ هذه المرحلة سيرى ان كل شي كان يبدو مهيئا لاقتتاح عهد حضاري جديد فانفتحت الابواب على مصراعيها أمام اصحاب الفكر والعلم والادب فتمكنوا من اضهار مواهبهم وتطوير علومهم بفضل احتضان خلفاء بني العباس لهم , ويشهد التاريخ بان العلم اجمع مدين لبغداد التي اصبحت بهذه الفترة ام الدنيا وام العلوم ومحط الانظار فقد كانت جسر الصلة بين ثقافات عدة منها اليونانية والسريانية والعربية ..... وهنا نود تعميم حقيقة جليلة مفادها : ان كل تقدم وازدهار حصل في تلك الفترة لهو بفضل الجهود الجبارة التي بذلت من قبل ابناء بغداد من علماء عللى اختلاف مللهم ونحلهم ومذاهبهم , من خلال حقيقتين مرت بها بغداد في العهد العباسي كملت احداهما الاخرى فلحقبة الاولى كانت عصر الغرس وبذر البذور فجاءت الحقبة الثانية للحصاد وجني الثمار فكانت بغداد في هذه الفترة اشبه ب البوفيه المفتوح في عرض حضارتها وثقافتها للعالم اجمع , وكان العلماء والطلبة يتقاطرون اليها بين الفينة والاخرى لينهلون منها العلم والثقافة والحضارة هكذا كانت بغداد السّلام ولا تزال.
مسكُ الختامِ
صدق مَن قال : بغداد حاضرة الدنيا وماعداها بادية
وأقول بدوري : سلامٌ على بغداد مِن كلّ مكانٍ وفي أيّ زمان..
لم أرَ مثلها وإلى الآن لم أفطم مِن عشقها..
تلك هي بغداد السّلام أحرسها يا ربّ السّلام وأرسي بها الأمان.









0 comments:
إرسال تعليق