هناك رؤيتان الآن لما يحدث في بعض البلدان العربية من صراعات دموية. الرؤية الأولى، تضع هذه الصراعات وتفاعلاتها في خانة مواجهة جماعات إرهابية فقط، والرؤية الثانية تعتبر أنّ الجماعات الإرهابية تستغلّ الصراع القائم بين حكومات ومعارضين لها، وبالتالي لا يجوز وقف "الثورة المسلّحة من أجل التغيير" مهما علا صوت الإرهاب بالمنطقة.
فهي إذن مشكلة غياب التوافق على فهم وتوصيف حقائق الصراعات الحاصلة رغم وجود قاسم مشترك بين أصحاب الرؤيتن، وهو استخدام وسيلة العنف المسلّح ضد الآخر.
وما زال الكثير من الإعلام العالمي يُحمّل الإسلام كدين مسؤولية وجود جماعات التطرّف العنفي التي تعمل بأسماء مختلفة؛ منها "القاعدة" المنتشرة عالمياً، و"بوكو حرام" في نيجيريا، وحركة "الشباب" في الصومال، وصولاً الآن إلى جماعات "داعش" و"النصرة"، وغيرها العديد من الأسماء العاملة تحت رايات "إسلامية" في آسيا وإفريقيا، وبعضها يتحرّك في نطاق محلّي فقط، لكن البعض الآخر له امتدادات دولية تصل إلى أماكن مختلفة في "العالم الإسلامي"، وفي القارّتين الأوروبية والأميركية.
فخطر جماعات التطرّف العنفي بأسماء "إسلامية" موجودٌ فعلاً ولا مجال لنكرانه، ولا يصحّ القول فقط إنّ هذه الجماعات هي "صناعة خارجية" يتمّ الآن توظيفها. فالمشكلة الأساس هي بوجود بيئة فكرية مناسبة لنموّ مثل هذه الجماعات في الدول العربية والإسلامية، بغضّ النّظر عمّن يبدأ بالزرع وعمّن يحصد "الثمرات" لاحقاً. إذ لو كانت "الأرض الفكرية" لهذه الجماعات قاحلةً ويابسة وغير مرويّة محلّياً، لما أمكن لأيّ زرعٍ خارجي أن ينجح أو أن يحصد ثمار شرّ ما يزرع!.
إنّ جماعات "داعش" الآن، ومعها "النصرة"، وقبلها "القاعدة"، استطاعت استقطاب قطاعاتٍ واسعة من أجيال شابّة في دول عربية وإسلامية بسبب غياب فعالية الفكر الديني السليم، الذي يُحرّم أصلاً ما تقوم به هذه الجماعات من أساليب قتل بشعة وجرائم إنسانية بحقّ كلّ من يختلف معها، حتّى من داخل الوطن أو الدين نفسه. فلو لم يكن هناك فراغ فكري للمفهوم الصحيح للدين لما أمكن استقطاب هذا الحجم من أتباع هذه الجماعات.
إنّ تنظيم "داعش" مثلاً ينتعش ويستفيد الآن، حتّى من قِبَل بعض من يتحدّثون ضدّه شكلاً، ويدعمون ضمناً مبرّرات وجوده، حينما يتّجهون بحديثهم إلى "عدوّهم" الآخر، وهو هنا قد يكون من طائفة أخرى أو مذهب آخر أو من دولة أخرى. فكثيرٌ ممّن يظهرون الآن على الفضائيات العربية يبدأون حديثهم ضدّ "داعش"، لكنّهم فوراً ينتقلون إلى الحديث عن "الحالة الطائفية والمذهبية"، وعن وجود "الخطر الآخر" في داخل الوطن أو من دولة مجاورة، ممّا يساهم في إعطاء الأعذار لوجود "داعش" ولممارساتها باسم الإسلام، الذي هو كدين براءٌ من فكر هذه الجماعات وأساليبها.
وطبعاً، فإنّ هذا النوع من الأحاديث يزيد الآن الشروخ الدينية والوطنية ولا يبني سدوداً منيعة أمام جماعات التطرّف، بل على العكس، يرفدها بمزيدٍ من المؤيّدين. فالمواجهة مع جماعات "التطرّف العنفي" تحتاج الآن إلى وقف كل الصراعات والخلافات داخل المجتمعات العربية والإسلامية، وإلى تحقيق أقصى درجات التوافق الوطني والديني حتّى يمكن محاصرة هذه الجماعات وتجفيف كل منابع الدعم المادي والبشري لها.
إضافةً لكلّ ذلك، نجد الآن أنّ هناك سعياً محموماً لتدويل الأزمات الداخلية في المنطقة العربية، ممّا يُعيد معظم أوطانها إلى حال الوصاية الأجنبية التي كانت سائدة في النصف الأول من القرن الماضي. ويترافق مع تزايد الوصاية الأجنبية على الأزمات الداخلية العربية، وجود واقع عربي مؤلم من حيث انتشار وباء الانقسامات الطائفية والمذهبية والإثنية والذي يتزامن أيضاً مع السعي الإسرائيلي، المتواصل منذ عقودٍ من الزمن، لدعم وجود "دويلات" طائفية وإثنية في المنطقة العربية.
هناك بلا شك مسؤولية "غربية" وإسرائيلية عن بروز ظاهرة "الإرهاب" بأسماء "إسلامية"، لكنْ هذا هو عنصرٌ واحد من جملة عناصر أسهمت في تكوين وانتشار هذه الظاهرة. ولعلّ العنصر الأهمّ والأساس هو العامل الفكري/العَقَدي، حيث تتوارث أجيال في المنطقة العربية وفي العالم الإسلامي مجموعةً من المفاهيم التي يتعارض بعضها مع أصول الدعوة الإسلامية، وحيث ازدهرت الآن ظاهرة فتاوى "جاهلي الدين" في قضايا عديدة، من ضمنها مسألة استخدام العنف ضدّ الأبرياء أو التحريض على القتل والاقتتال الداخلي.
وتظهر هذه الأزمة الفكرية أيضاً في مسبّبات ظاهرة التطرّف المسلّح باسم الدين، من خلال ضعف الانتماءات الوطنية وما ساد بدلاً عنها من "هويّات دينية"، جامعة في الشكل لكنّها طائفية ومذهبية في المضمون والواقع. إضافةً إلى الفراغ الحاصل نتيجة غياب المرجعية العربية الصالحة التي كانت عليها مصر ومؤسساتها الدينية والسياسية قبل أربعة عقود.
ويتزامن مع وجود ونمو دور الجماعات الإرهابية، ما نراه يحدث من عنفٍ مسلّح في المجتمعات العربية التي تسعى للتغيير الآن في أنظمة حكوماتها بينما تسير أمور هذه المجتمعات من سيءٍ إلى أسوأ. فالتغيير القائم على العنف المسلّح والقتل العشوائي للناس يؤدّي حتماً إلى تفكّك المجتمع، وإلى صراعات أهلية دموية، وإلى مبرّرات لتدخّلٍ إقليمي ودولي.
إنّ قتل النفس البريئة هو جريمة بكلِّ المعايير، مهما ارتدى الفاعل المجرم من عباءاتٍ دينية أو طائفية أو وطنية. فلا تغيير المجتمعات يصحّ بالعنف الدموي، ولا تحرير الأوطان ومواجهة "الإرهابيين" يبرّر قتل الأبرياء.
إنّ مواجهة الاستبداد الداخلي من خلال العنف المسلح المدعوم خارجياً، جلب ويجلب الويلات على البلدان التي حدث فيها ذلك، حيث تغلب حتماً أولويات مصالح القوى الخارجية على المصلحة الوطنية، ويكون هذا العنف المسلح نذير شرٍّ بصراعاتٍ وحروبٍ أهلية، وباستيلاءٍ أجنبيٍّ على الثروات الوطنية، وبنزعٍ للهويّة الثقافية والحضارية الخاصّة في هذه البلدان. لكن أيضاً فإنّ السكوت على الاستبداد من أجل مواجهة الخطر الخارجي، أو تغليب الحلول الأمنية على الحلول السياسية، يدعم كلَّ المبرّرات والحجج التي تسمح بهذا التدخّل الأجنبي المباشر أو غير المباشر. لذلك من المهمّ استيعابُ دروس تجارب شعوب العالم كلّه، بأنّ الفهم الصحيح لمعنى "الحرّية" هو في التلازم المطلوب دائماً بين "حرّية المواطن" و"حرّية الوطن"، وبأنّ إسقاط أيٍّ منهما يُسقط الآخر حتماً.
إنّ وجود تدخّل وتأثير خارجي في مسارات التحوّلات الداخلية في عدّة بلدان عربية يزيد من مسؤولية القائمين على هذه التحوّلات. فنعم هناك حاجة قصوى لإحداث تغيير في واقع عربي قائم على الاستبداد والفساد والتبعية للخارج، لكن الأسئلة المشروعة هي: من يقوم بالتغيير، وكيف، وبدعمٍ ممّن، ولصالح أيِّ برنامج أو رؤى بديلة للواقع المرفوض، وماهيّة آثاره على الوحدات الوطنية الشعبية؟.
إنّ معيار دعم أي حراك شعبي عربي، أينما وُجِد، هي مقدار نجاحه بتثبيت وحدة الأوطان في كياناتها وشعوبها، وبالوصول إلى حكومات وطنية منتخبة وعادلة ونظيفة، وبالحفاظ على المجتمعات القائمة على التنوّع الطائفي والإثني، وبتوفير دستور يساوي بين المواطنين ويضمن الفصل بين السلطات ويؤكّد مفهوم "المواطنة". هذا كلّه في الإطار الداخلي، الذي لا يمكن الاكتفاء به كشعارات فقط للتغيير العربي المنشود. فالديمقراطية لا يمكن فصلها عربياً عن مسألتيْ التحرّر الوطني والهويّة العربية. ولعلّ في التجارب "الديمقراطية"، التي حصلت عربياً حتى الآن، ما يؤكّد هذه الخلاصة عن أهمّية التلازم المطلوب بين ثلاثية: الديمقراطية، والتحرّر الوطني، والهويّة العربية.
إنّ الواقع العربي الراهن يستدعي وقفةً مع النفس العربية عموماً، للتساؤل عمَّ حدث ويحدث منذ عقد ونيف في المنطقة العربية من عنف داخلي عربي مسلّح، بعضه سبّبته قوى دولية كبرى، عبر الاحتلال أو التدخل العسكري، فأفرز إرهاباً، وبعضه الآخر استخدمته أنظمة أو معارضات، فصبّ لصالح الجماعات الإرهابية وغاياتها في تقسيم الشعوب والأوطان. بالمحصلة: فشلت الحكومات والثورات المسلّحة.. ونجح الإرهاب!.
*مدير "مركز الحوار العربي" في واشنطن
Sobhi@alhewar.com
0 comments:
إرسال تعليق