ثلاثة ملفات سيطرت على انتخابات 2019 الاندونيسية/ د. عبدالله المدني

أعلنت مؤخرا نتائج انتخابات عام 2019  الرئاسية الإندونيسية والتي فاز بها ــ كما كان متوقعا ــ الرئيس الحالي جوكو ويدودو (57 عاما) بنسبة 55.5% من أصوات 193 مليون ناخب، مقابل نسبة 44.5% لمنافسه جنرال الشرطة السابق "برباوو سوبيانتو" (67 عاما) الذي كان متزوجا من إحدى بنات الديكتاتور سوهارتو، والمتهم جماهيريا بالضلوع في القمع وخروقات حقوق الإنسان خلال السنوات الثلاثين من الحقبة السوهارتية السوداء. غير أن الأمر لم يمر بهدوء، إذ سرعان ما اندلعت مظاهرات عنيفة في شوارع جاكرتا، خصوصا بعدما رفض سوبيانتو النتيجة ولمح إلى حدوث عمليات غش وتزوير وظلم وكذب، علما بأن هذه هي المرة الثانية التي ينافس فيها سوبيانتو الرئيس ويدودو ويخسر الإنتخابات ومن المتوقع أن يخسر أيضا عملية إعتراضه عليها أمام القضاء كما المرة السابقة. 

صحيح أن إندونسيا دولة شاسعة، يسكنها نحو 264 مليون نسمة، وتحتوي على مصادر طبيعية متنوعة، ويتجاوز إجمالي ناتجها المحلي تريليون دولار، وتمتلك مجتمعا متعلما يموج بالحراك في ظل نظام ديمقراطي وليد، إلا أن ما أعاق ويعيق لحاقها ببعض جاراتها الآسيويات الصاعدات عاملان على وجه التحديد هما: الفساد المستشري في مفاصل الدولة والمجتمع وهو آفة كرسها نظام الجنرال سوهارتو وبطانته العسكرية ورموز حزبه السياسي (حزب جولكار). أما العامل الثاني فهو الخلافات التي برزت على السطح بمجرد وضع البلاد على سكة الديمقراطية بين المتمسكين بعلمانية الدولة كوسيلة لتحقيق العدالة والمساواة بين أطياف المجتمع المتباينة عرقيا وثقافيا ودينيا وبين أولئك المتمسكين بأسلمة مظاهر الحياة بحجة أن الغالبية العظمى من سكان البلاد مسلمون.  ومن المعروف أن هذه الخلافات تسببت طويلا في إستشراء العنف والعنف المضاد، وظهرت على هامشه جماعات دينية متطرفة ومسلحة سواء من المسلمين أو غيرهم.

وعليه فإن الحملات التي انطلقت لإنتخاب رئيس جديد منذ 17 أبريل الماضي ركزت على ثلاثة ملفات رئيسية هي: حالة الإقتصاد، وموقع الإسلام الذي لا ينص عليه الدستور كدين رسمي للدولة، وكيفية القضاء على أوجه الفساد المستشري. 

فعلى الصعيد الاقتصادي حاولت حكومة ويدودو ضبط سعر صرف الروبية الاندونيسية كوسيلة لمنع تدهور مستويات المعيشية، بعدما هوت أسعارها في أكتوبر الماضي إلى حدود لم تصلها منذ 20 عاما أي منذ أزمة 1998 النقدية الآسيوية. وسواء أكان هذا بسبب ضغوط صندوق الدولي أو كنتيجة لسياسات حكومية خاطئة، فإن أثرها كان مدمرا على الإندونيسيين. وقد استغل سوبيانتو هذا، فراح يكرر أمام أنصاره أن البلاد لو استمرت على هذا الوضع فإنها ستفلس بحلول  2030، خصوصا وأن الديون الخارجية المستحقة عليها تضاعفت بنسبة 48%  خلال عهد ويدودو الذي وعد بجلب الاستثمارات الأجنبية وبالتالي خلق المزيد من فرص العمل، مع تأميم مصادر الثروة الطبيعية، وضبط أسعار الوقود، فلم يقم إلا بفتح الباب أمام الاستثمارات الصينية التي ارتفعت من 600 مليون دولار إلى 3.36 بليون دولار في عام 2017 ، علما بأن للإستثمارات الصينية حساسية تاريخية لدى المواطن الأندونيسي. 

أما على صعيد تحديد دور الإسلام في الحياة العامة، وتحقيق قدر أكبر من العدالة والمساواة في الوظائف والمناصب والحقوق، فقد عمل على كبح جماح وسائل التواصل الاجتماعي المتهمة بزرع الفتنة وإطلاق الشائعات المؤججة للتطرف الديني وشق صف الوحدة الوطنية لكنه لم ينجح تماما، وأتهم بالتضييق على الحريات. ومن الجدير بالذكر الإشارة إلى أن ويدودو واجه منذ وصوله إلى السلطة سنة 2014  الكثير من الإنتقادات حول مصداقية توجهاته الإسلامية. ففي السنوات الأخيرة حصل الإسلام السياسي في إندونيسيا على زخم معتبر كنتيجة لسعي جماعات إسلاموية لتعزيز مكاسبها ومواقعها من خلال إستغلال القنوات الديمقراطية بدليل أنها تمكنت من الإطاحة بحليف الرئيس وخياره لمنصب حاكم جاكرتا لصالح الحاكم الحالي المنحدر من أصول حضرمية "أنس باسويدان". وهنا أيضا استغل سوبيانتو وحزبه السياسي (حزب جيريندرا) الموضوع ببراعة ضده، خصوصا في أوساط الأندونيسيين خارج العاصمة. أما لدى سكان العاصمة وضواحيها من النخب التجارية المتعلمة فإن ويدودو ظل الخيار المفضل لقيادة اندونيسيا في السنوات الخمس المقبلة، بسبب شخصيته المتواضعة والقريبة من الجماهير. 

وفي محاولة منه لتعزيز صورته هذه، ولاسيما في صفوف الإسلاميين المحافظين، إختار الرجل زعيم جماعة نهضة العلماء "أمين معروف" كنائب للرئيس على بطاقته الانتخابية، حيث أن نهضة العلماء هو التنظيم الإسلامي الأوسع انتشارا في البلاد. فيما عمد سوبيانتو بالمقابل إلى إختيار رجل الأعمال "ساندياغا أونو"، علما بأن هذا ترك منصبه كنائب لحاكم جاكرتا كي يترشح لمنصب نائب الرئيس. كما عمد سوبيانتو إلى جذب أصوات الإندونيسيين من خلال إبراز صورته كقائد أمني حازم قادر على إنتشال البلاد من الفوضى، وتحقيق إستقرار طويل المدى.

د. عبدالله المدني
* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي
تاريخ المادة: مايو 2019
البريد الإلكتروني: Elmadani@batelco.com.bh 


CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق