اتحاد الادباء والكتاب السريان
الحلقة الاولى
من القرن اللتاسع قبل الميلاد وحتى نهاية القرن السادس الميلادي
ان كانت الثقافة السريانية (التي يسميها البعض بالارامية) ولدت وازدهرت على اعقاب حضارات وادي الرافدين ، واخذت عصارة الحضارات القديمة لتصنع منها حضارة جديدة مدونة بحرف جديد تبنتها وطورتها امارة الرها لتصبح لغة التبشير المسيحي ولغة الطقوس في كنائسنا المشرقية ...
ويطلعنا التاريخ (كما يقول الاب البير ابونا ) على مدى انتشار هذه اللغة وادابها في الامبراطوريتين الاشورية ثم الفارسية . فلغة التجارة والادارة لم تكن الاكدية بل الارامية (السريانية) حيث حلت الابجدية الارامية محل الكتابة المسمارية نظرا لسهولتها ، كثيرا ما كانت اللوحات المكتوبة باللغة الاكادية تحمل ترجمات لها باللغة الارامية لفائدة التجار. حيث صارت لغة التداول والكتابة بين الامبراطوريتين الاشورية والفارسية والدويلات الدائرة في فلكها ، وكانت اللغة الرسمية للبلاط البابلي الى نهاية العهد الفارسي . ويعتقد الاب لامنس اليسوعي بانها (الارامية) قد تفوقت حتى على اليونانية في الانتشار . ومهما يكن من امر لا نعرف عن هذه الحقبة الا القليل عن طريق شواهد عثر عليها في دورها الانتقالي بعضها تستمد جذورها من القرن التاسع قبل الميلاد كالكتابات التي ظهرت في اعالي سوريا وما بين النهرين والتي تعود الى نهاية القرن العاشر حتى اواخر القرن الثامن قبل الميلاد والاخرى تعود الى القرن السابع قبل الميلاد وما بعده الى بداية المسيحية كحكمة احيقار والوثائق التي اكتشفت قبل اكتشاف قصة احيقار وبعده من بينها الرسائل الارامية (السريانية) المنشورة في الوثائق الارامية نشرها دريفر، وتتالف من عشر رسائل كتبت على جلد (ربما رق) وجدت في محفظة جلدية ومصدرها بابل وشوشان ، وهي موجهة الى عامل الامبراطور الفارسي في مصر وهي فارسية بلغتها الارامية، واكتشفت بعد اكتشاف اوراق البردي (احيقار) . جميعها يرتقي تاريخها الى مطلع القرن الخامس قبل الميلاد (495-408ق م ) ويمتد الى حوالي سنة 300 ق م . واللغة المستخدمة في هذه الوثائق هي الارامية المنتشرة في تلك الفترة في البلاد الفارسية . وكتابات يسيرة منقوشة على اضرحة الملوك في مدينة الرها وكتابات اخرى ضمتها دار المخطوطات الملكية في الرها وقسم من نبوءة دانيال وسفر عزرا وطوبيا .. وهناك نصوص ارامية تعود الى القرنين الاول والثاني الميلاديين ، حيث تجد تطورا واضحا طرأ على هذه اللغة منذ مطلع العصر المسيحي او قبله بقليل . كالنصوص التي اكتشفتها دائرة الاثار العراقية في مدينة الحضر التاريخية سنة 1951 قرأها وعربها وكتب فيها بحوثا قيمة جدا الاستاذ فؤاد سفر في مجلة سومر ج1م11 سنة 1955 . بلغ عددها اكثر من 416 نصا حضريا ( من مدينة الحضر) . يعود تاريخها الى القرن الاول والثاني الميلادي ، وهناك نصوص اخرى مكتشفة في مدينتي تدمر والحضر تعود الى القرون الثلاثة الاولى للمسيحية نشرها الاستاذ جافير تيكسيدور ، وهي حلقة وصل بين ارامية ما بين النهرين العليا وارامية بابل ، وهي اقرب كثيرا الى الاولى منها الى الثانية .
وبينما كانت الدولة الرومانية تلقن الكنيسة المسيحية اضطهادات قاسية بدأت باضطهاد نيرون سنة 64م انتهاء" باضطهاد ديوقلطيانس ( 303- 313) الذي اصدر منشوره في 14 شباط سنة 303 بابادة الكنائس وحرق الكتب المسيحية وحرمان المسيحيين من حقوقهم واستباحة دمائهم . وكذلك في الامبراطورية الفارسية وخصوصا في زمن شابور الثاني الذي انزل بمسيحيي بلاده ما بين سنة (340-379) اضطهادات واسعة النطاق سميت بالاضطهاد الاربعيني (دامت اربعين سنة ) يقال راح ضحيتها اكثر من 160000 شخص بسبب عدائه للرومان وفشله في استعادة نصيبين من الملك الروماني قسطنطين الذي كان يدين بالمسيحية ، فأمر شابور بهدم الكنائس وقتل المسيحيين .. رغم كل ذلك كانت الاديرة ودور العلم تنتشر في كل مكان لترفع اعلامها عالية وتضئ منائرها بالعلم .
واول عمل وصلنا لهذه الفترة هو كتاب الدياطسرون (الانجيل الموحد) الذي كتبه ططيانس الحديابي سنة 172م فضلا عن كتب اخرى للمؤلف سواء اكانت باليونانية ام بالسريانية ككتابه مجموعة مقالات في الحيوانات ورسالة الى اليونانيين ، فيها يناقش الفكر المسيحي اليوناني . وكتاب في الحكمة وفي حياة المسيح كما وصلتنا مزامير سليمان (42 مزمور) وقصة فيضان نهر ديصان الذي اجتاح مدينة الرها في تشرين الثاني 201 ويعتبر برديصان (154- 222م) من صدور الكتاب البلغاء عبقريا صنف بالسريانية كتبا شتى في العلوم والطبيعة ويذكر ابن النديم في الفهرست " ان ابن ديصان له من الكتب كتاب النور والظلمة وكتاب روحانية الحق وكتاب المتحرك والجماد وله كتب كثيرة " ومن اشهر كتبه الذي وصل الينا جزء منه ، كتاب شرائع البلدان الذي يتناول فيه عن القدر ، وله اكثر من 150 قصيدة على طريقة مزامير داود وقد وقعها على الحان شتى، ويغلب الاعتقاد عند البعض بان مزامير سليمان تعود اليه ، ويعتبر بحق ابا الشعر السرياني ويعود له الفضل في اخضاع الشعر الى الوزن . كما وصلنا عقد (أمة سين) وهو اقدم كتابة سريانية مكتوبة على الرق ، وجدت في انقاض مدينة مطمورة تدعى دورايوربولس (حاليا اسمها الصالحية ) قرب مدينة القائم . تعود لسنة 243م وهو عقد بيع امة اسمها (امة سين ) أي أمة القمر . كما وصلتنا سبعة كتب من مؤلفات ماني (216-276) التي تتناول عقيدته ككتاب اونجليون المقسم الى 22 قسما حسب الحروف الابجدية ومجموعة من المراسلات والمنشورات ومجموعة اسرار وادعية وغير ذلك .
الا ان القرن الرابع اطل علينا بعصر ذهبي زاهر بالعلماء والانتاجات وفي شتى المجالات الادبية والفلسفية واللاهوتية واتخذ الادب السرياني طابعا جديدا اذ شهد الجدالات اللاهوتية فكتب الفيلسوف يعقوب الملقب بافراهاط الحكيم (توفي سنة 346 م ) كتبا كثيرة وصل منها ثلاث مخطوطات تحوي على ثلاث وعشرين بينة تطرق فيها الى مواضيع دينية واخلاقية شتى ومار شمعون برصباعي (استشهد سنة 343) له العديد من المؤلفات في تاريخ الاباء لكنيسة المشرق وفي الليتورجيا والقوانين الكنسية وكتب اخرى في اللاهوت ومار اسحق الانطاكي (توفي سنة 460) له العديد من الكتب الدينية وقصائد شعرية وله كتاب في دمار مدينة انطاكيا بالزلزال سنة 459 ، اكثر مؤلفاته شعرية ، كان له نفس طويل في كتابة القصائد الطوال كقصيدته (في الببغاء) التي تحوي 2136 بيت شعر ، كما برز في هذه الفترة الكثير من الادباء والفلاسفة امثال بابا الحراني واسونا وقورلونا وربولا وبروبا ومعنى ومار ابا وعشرات الاسماء التي تركت بصماتها على التاريخ ، ويعتبر مار افرام (المولود سنة 306) من شعراء الطبقة الاولى لما في شعره من قوة من حيث المعنى والبناء واللغة ، وحفلت اشعاره بالاستعارات والصور البارعة والرموز الجميلة ، تعتبر كتاباته في نظر الكثيرين من النقاد قمة الادب السرياني، ويقول عنه المؤرخ اليوناني سوزومين المولود سنة 423 م : ان مار افرام فاق الكتاب اليونانيين بحكمته ورونق كلامه واصالة رأيه وسداد برهانه . اما يعقوب السروجي فيصفه في قصيدته (مادحا بها مار افرام) " انه مؤلف فصيح بليغ فاق ائمة اليونان بتصانيفه اذ حصر في عبارات وجيزة معاني كثيرة " ولقب مار افرام بعملاق الادب السرياني ، له مؤلفات عدة وقصائد شعرية ومداريش وميامر واغلب قصائده على البحر السباعي ، ويعتقد ابن العبري في كتابه الهدايات ان عدد قصائد مار افرام التي كتبت في خدمة الدين وحدها هي 214 قصيدة وله ما يزيد عن 500 انشودة ، اما المؤرخ فوسيبوس فيقول ان مار افرام كتب 1500 قصيدة ومقالة ، اما المؤرخ اليوناني سوزومين (المولود سنة 423م) يقول نظم نحو 3000000 ثلاثة ملايين بيت شعر وكذلك ايرونيموس ( المولود سنة 420) في كتابه (الكتبة الكنسيون فصل 115) ويقول عنه اوكين منا : تربو مؤلفاته على مئتي مجلد . بالحقيقة هناك مبالغة فيما كتب عن مار افرام فلو اخذنا قول سوزومين وقارناه مع قول ابن العبري وفوسيبوس سنجد هناك فارقا شاسعا بينهما ، لذا علينا اعادة النظر في ذلك ، علينا دراسة قصائد مار افرام مع الاخذ بنظر الاعتبار تنسيب قصائد لشعراء اخرين اليه ،.
ومن الادباء الاخرين الذين برزوا في هذه الفترة نرساي الملفان الكبير (399 - 507) الذي تقلد مناصب عديدة منها رئاسة مدرسة دير كفر ماري وادارة مدرسة الرها ومن ثم ادارة مدرسة نصيبين ، تطرق في كتاباته الى مواضيع كتابية ولاهوتية وليتورجية وادبية ، وقد امتاز هو الاخر باسلوب رائع وبافكار سامية وحكمة فائضة ، فنال عدة القاب منها لسان المشرق ، قيثارة الروح .. من بين مؤلفاته كتاب في برج بابل وتكوين اللغات ، له 360 مقالة لاهوتية وله مقالات اخرى في امور كنسية ، اغلب كتاباته كانت شعرية ، وكذلك يعقوب السروجي (المولود سنة 451) الذي تلقى العلم في مدرسة الرها وتفوق على اقرانه ، اشتهر الشاعر بكتاباته واشعاره المسبوكة بحكم نادر المثيل ، فامتاز شعره بقوة الاسلوب وبراعة في النسج ، كان له نفس طويل في كتابة القصائد الطوال التي قد تصل بعضها الى اكثر من 3000 بيت شعر كقصيدة هكساميرون (الايام الستة) .. ويقول عنه ابن العبري (ان سبعين ناسخا كانوا يكتبون قصائده) . وما جمع منها بلغ 763 قصيدة نشر له الاب بولس بيجان 195 قصيدة . وفي القرن الخامس والسادس كما تقول المصادر وصل الادب السرياني الى ذروته ، فانشئت المدارس وانتشرت انتشارا عجيبا ، وانجبت عددا لا يحصى من العلماء والادباء الى حد ذهب البعض من المؤرخين امثال الفيكونت دي طرازي في كتابه عصر السريان الذهبي فاطلق على الامة السريانية لقب اميرة الثقافة وام الحضارة ، اما الباحث احمد امين في كتابه ضحى الاسلام فيقول ( وكان للسريان في ما بين النهرين نحو خمسين مدرسة تعلم فيها العلوم السريانية واليونانية و..) وكانت هذه المدارس تتبعها مكتبات .. وكان في الاديرة السريانية شئ كثير لا من الكتب المترجمة في الاداب وحدها بل هناك الكثير من مؤلفات ارسطو وجالينوس وابقراط واخرون . وكان السريان نقلة الثقافة اليونانية الى الامبراطورية الفارسية في حينها .. وفي القرن السادس بلغ الادب السرياني ارقى الدرجات في الفن والبلاغة ، ومن الملاحظ على القصائد السريانية التي وصلتنا من القرن الرابع الميلادي مواصلتها للانماط الشعرية التي كانت اكثر انتشارا في وادي الرافدين لدى شعوب السومريين والاكديين والبابليين والاشورين كالتراتيل وقصائد المديح والتمجيد والابتهالات والتضرعات وصلوات البركة ، فلهذه الانواع حضورا كبيراً في الشعر السرياني اسوة بالشعر السومري والاكدي والبابلي واستمرت هذه الظاهرة وحتى يومنا هذا وخصوصا في الكنائس .
فضلا عن الشعر والفلسفة واللاهوت والعلوم الاخرى نشط البعض في الكتابات التاريخية وسير الشهداء والقديسين ، وفي نهاية القرن السادس تقدم الادب القصصي بشكل يلفت النظر مع احتفاظه بخط الادب الشائع، أي الاتجاه الديني ، رغم ان مار افرام سبق الجميع في هذ الفن من خلال قصيدته (مرجنيت ـ اللؤلؤة) والقصائد المنسوبة اليه في قصائد يوسف بن يعقوب . ومن القصص التي وصلتنا من هذه الفترة قصة حياة يوسف الصديق ، ومغارة الكنوز التي تحكي خروج ادم من الجنة ، والنائمين السبعة (تعرف بالعربية اهل الكهف) وغيرها.. فلو حفظت كل مؤلفات السريان التاريخية والادبية والترجمات لاسهمت اسهاما كبيرا في اعلاء شأن الاداب والعلوم السريانية والعالمية ، الا ان الكثير منها قد ضاع . ومن ابرز علماء القرنين الخامس والسادس مار رابي ربا (551-628) وهو من بيت زبدي يقال عنه انه ترك اكثر من 83 كتابا وفي مواضيع عدة ومار ماروثا الميافارقيني (350-429) الذي برع كثيرا في الطب ، له العديد من القصائد على شكل اناشيد وتراتيل ولكنه اشتهر في كتابة سير الشهداء ، وبالاي ورابولا وفلكسينس المنبجي وسركيس الراسعيني اذي بذل قصارى جهده في الترجمة اليونانية الى السريانية ، (وهو اول من اوقف السريان على مؤلفات ارسطو ) وشمعون الفخاري وعشرات غيرهم من الادباء والكتاب ، وكانت اللغة السريانية (وكما يقول فليب حتي) لغة البلاد في انحاء ما بين النهرين وكانت اللغة الرسمية للمعاهد السريانية فهي لغة الكنيسة والادب والتجارة في ان واحد . وكان السريان يؤسسون مدرسة او اكثر في كل رقعة يستوطنوها مما ادى الى اتساع نطاق ثقافتهم ليشتهر منهم مئات الادباء والكتاب من الذين وصلت الينا كتاباتهم ، وكانت كل مدرسة من هذه المدارس عبارة عن مكتبة تحوي العديد من المخطوطات النفيسة فضلا عن الاديرة الاخرى .. فكتبت الاف القصائد ومئات الكتب وترجمت العديد من كتب اليونان الى السريان وبرز العديد من العلماء والكتاب في الفترة المحصورة من القرن السادس وحتى الثالث عشر امثال يعقوب الرهاوي (630-708) الذي ترك لنا عدة مؤلفات تناول فيها كافة العلوم منها في المحيطات ومنها في الكون والكواكب وفي تفاسير الكتب المقدسة وفي الفلسفة واللاهوت وفي علم اللغة والراهب يوحنا برفنكي (توفي سنة 708) له عدة مؤلفات واغلبها في الدين الا انه تناول مواضيع اخرى ككتابه في الثقافة العربية ، في التجارة ، والتاريخ الذي تناول فيه من بداية الخليقة الى زمانه (689م) يحوي على 15 مقال في مجلدين .
نظرة سريعة الى هذا المنجز لا بد لنا ان نتساءل لماذا لم يؤسس لهذا المنجز قاعدة رصينة خارج الكنيسة؟ أكان السبب في انحسار هذه المؤسسات بيد الكنيسة التي كانت بدورها تنظر الى كل ذلك نظرة اكاديمية مبنية على جمع المعارف والعلوم خدمة للدين المسيحي بعيدا عن تاسيس وترسيخ الوعي القومي لدى دارسي هذه اللغة ؟ لماذا لم تظهر مؤسسات ثقافية ومدارس سريانية خارج اطار الكنيسة والاديرة ؟ اكان جميع مثقفي وكتاب السريان في هذه الفترة من رجال الدين والعاملين معهم في الكنيسة او الاديرة ؟ الم تكن للسلطات الحاكمة مدارس اخرى تعلم العلوم باللغة الفارسية او الاغريقية او الرومانية حسب تواجد سلطاتها ؟ وماذا عن اللغة السريانية وعلومها في هذه المدارس ان وجدت ؟ .. نظرة شاملة الى ادبنا السرياني في هذه الحقبة والحقبات اللاحقة نجد ان الجانب الروحاني قد هيمن على انتاجهم الادبي وباعتقادي ان السبب يكمن في :
1- قدرة المسيحية في استقطاب العدد الاكبر من المثقفين منذ بدء المسيحية كونهم (المثقفون) قد وجدوا في المسيحية فضاء" واسعا في الكتابة .
2- العدد الاكبر من حاملي مشعل العلوم كانوا من رجال الدين ، او من الذين تخرجوا من مدارس الاديرة .
3- الصراعات العقائدية في الكنيسة اججت واستقطبت الطبقة المثقفة في الكنيسة وخارجها وزجت بهم الى حلبة الجدالات ، وكان من نتائجها هذا الكم الهائل من المؤلفات .
4- احتكار اهتمام الكنيسة بالعلوم الدينية تأليفا وترجمة وبعض العلوم الاخرى البعيدة عن الدين خشية من الانزلاق في شرك التوثن .
0 comments:
إرسال تعليق