الطبيب الروسي/ عبدالقادر رالة

  بعد أن فتحت عيناي ،وجدتُ والدي واقفاً أمامي وهو لا يكف عن الابتسام ...ومقابله كان يجلس مساعد الجراح بن عودة...
  كان بن عودة يعرف والدي جيداً فهو ابن مدينتنا الصغيرة ، وان كان يعمل في مستشفى ابن سينا الكبير ، فمدينتنا لا يوجد فيها إلا مستوصف صغير ، وأغلب السكان يفضلون التدواي بالأعشاب والطرق التقليدية ، وزوجته قريبة لأمي من جهة الأب ، وأمي تعرفها منذ أن كانت صغيرة تلعب بالدمى وتركض وتصرخ في الشوارع !
 قال والدي :  ــــــ  الحمد لله ...
   وقاطعه بن عودة مقهقاً :  ــــــابنك جبان وجلْ ! وقد كنت اعتقده جريء إذ تمنيتُ أن نقوم له بالعملية وهو صاحٍ  ، لكنه رفض وبكى بعد أن وخزته بالحقنة المخدرة الثانية فما كان علي سوى استخدام المخدر الاصطناعي!...
 ما تلفظّ به بن عودة صحيح ، فبعد أن وضعني على السرير سألني عن والدي ، وتميزه بالذكاء والمرح ، وعن أمي وجدي طيب القلب ، وما كان يستفهم إلا لكي يؤنسني ويُبعد التوتر والخوف عني ....كان هو يتحدث بينما عيناي مثبتتان على المشرط في يديه ... وبين الحين والآخر كان يؤكد أن الزائدة الدودية ،لا شيء وهي أسهل العمليات الجراحية! لكني أمسكته من يده اليمنى جزعاً فما كان عليه سوى وضع الكمامة على أنفي وفمي... فاستنشقت رائحة كريهة! ونمتُ... ولم استيقظ إلا في اليوم التالي...
 ودخل الطبيب الجراح ، ممتلئ الجسم  ، قصير القامة ، أصلع الرأس ، حيوي البنية و طلق الوجه  يرتدي مئزرا أبيضاً ، ويضع قلماً في جيب مئزره الأيسر .. تحدث مع والدي باللغة الفرنسية ...
  فأشار أبي إلي ثم قال : هذا هو الطيب الذي أجرى لك العملية الجراحية وهو من روسيا ، بلاد الثلج والكريملين والكاجيبي وتولستوي !
  فأدرت وجهي نحو بن عودة مستفهماً لأني لم أفهم سوى الثلج ، فواصل والدي الحديث :
ــــــ ربما هي أخر عملية يقوم بها ، إذ انتهت مدة عمله في مستشفى ابن سينا ، وفي الجزائر ...
 كان الطبيب الروسي يتحدث بحماس ووالدي يهزّ رأسه مبتسما ...
   قال والدي : ــــ هو يقول بأنه سعد كثيرا بالأربع سنوات التي قضاها بمدينة فرندة ، والجزائر ، وأعجبته التقاليد والناس والأعراس التي ذكرته بأوزبكستان وكازاخستان وطاجاكستان ، هذه الأقاليم الإسلامية التي زارها وعمل فيها لما كان في بلاده الاتحاد السوفياتي...
  وهذا المستشفى يحمل اسم ابن سينا ، أحد عظماء الحضارة العربية والإنسانية ، وهو أحد أبناء  جمهورية  أوزبكستان، وهو يتعجب من انتماءه إلينا أكثر من انتماءه إليهم ! 
 أما الأكثر عجباً فهو الإمام البخاري ، فكلما جلس في المقهى أو تحاور مع أحد المرضى أو الذين يعودونهم وذكر مدينة بخارى ،إلا وتعالت  صيحات الإعجاب وهمسات التبجيل ، إنها مسقط رأس الإمام الكبير البخاري وبها عُرف! وهي تقع بجمهورية أوزبكستان ... الإمام البخاري مُبجل أكثر من أي إنسان أخر! 
 ربت الطبيب على رأسي فطلب من أبي أن أشكره فقلت  له شكرا بالفرنسية...
وبعد أن خرج الطبيب الروسي قال بن عودة : ــــــ أنا أشعر بالزهو والفخر ، فأسلافنا العظام صنعوا لنا مجدا ممتدا عبر الزمان من الماضي نحو المستقبل!....
 اقترب منه والدي وهمس في أذنه كلمات الأكيد أنها أغضبته لأن ملامحه تغيرت ...
قال بن عودة :  ـــ  لا أخفي عليك ، كلامك هذا يقلقني ويوتر أعصابي ، فهو لا يختلف عن كلام الفرانكفونيين!
فابتسم والدي وقال بهدوء :  ــــ يا سي بن عودة أنت أيضا درست بالفرنسية ، ولا تتعامل مع مرؤوسيك ومرضاك إلا بالفرنسية ....
 نظر بن عودة  الى والدي ، ثم الى ساعته وقال : ـــ على أن أنصرف . نلتقي فيما بعد ... بعد الظهيرة... وخرج ...
رفع والدي الكرسي وقربه أكثر من السرير وجلس...


CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق