خاطرة استطرادية :مصائبُ قومٍ عندَ قومٍ فوائدُ/ كريم مرزة الأسدي


بذا قضتْ الأيّامُ ما بينَ أهلِها**مصائبُ قومٍ عندَ قومٍ فوائدُ
 هذا ما قاله المتنبي العظيم(915 - 965م/303 - 354 هـ / ولد في الكوفة؛ وقتل في دير العاقول قرب نعمانية العراق على يد فاتك الأسدي؛ إثر هجاء المتنبي لأخته؛ أم المدعو ضبّة في قصيدته ، ومطلعها 
 ما أنصفَ القومُ ضبّة** وأمّه الطرطبة
ما يهمنا البيت الخاطرة؛ وهو من روائع حكم المتنبي التي خلدها التاريخ الآدبي.
نعم، بذا ( قضت الأيّام)، الجملة التي بين قوسين كلام غاية البلاغة ( مجاز عقلي)؛ لأن الأيام جزء من الزمن، والزمن لا يقضي؛ وإنما الناس الفاعلون الحقيقيون، هم الذين يقضون.
 ما لك شغل! بقول الشاعر:
زمانٌ مضى قد لعبنا بهِ*** وهذا زمانٌ بنا يلعبُ
الزمان - ياعزيزي القارئ الكريم- ليس بساحة كرة قدم، ولا بلاعب كرة طاولة؛  هذا كلام بليغ  المقصود به أهل الزمان؛ ليش تروح بعيد!!
والإمام الشافعي قد صرّح، وما لمّح بقوله:
نعيبُ زماننا، والعيبُ فينـــا*** وما لزماننا عيــــبٌ سوانا
وَنَهجو ذا الزَمانِ بِغَيرِ ذَنبٍ **وَلَو نَطَقَ الزَمانُ لَنا هَجانا
وَلَيسَ الذِئبُ يَأكُلُ لَحـمَ ذِئبٍ****وَيَأكُلُ بَعضُنا بَعضاً عَيانا
ويروى دخل ابو مياس الشاعر على مجلس، وهم يتحاورون؛ فقال لهم  ما أنتم فيه وفيما تتذاكرون .قالوا نتذاكر الزمان وفساده .فقال لهم كلا إنما الزمان وعاء،  وما ألقى فيه من خير أو شر كان على حاله. وانشد يقول: 
أرى حللا تصان على أناس***وأخلاقا تداس فما تصان
يقولون الزمان به فساد***وهم فسدوا وما فسد الزمان
نعود لبيت خاطرتنا، والعود أحمد.
لا أعتقد  يفوتك الجناس التام بين قومٍ و قومٍ، والطباق الإيجابي بين مصائب وفوائد، وحصرهما المتنبي في شطر واحد، وهذا ما يثير الدهشة والإعجاب والتأمل على مقدرة الشاعر وعظمته  في صياغة الكلام ببلاغة غاية الإبداع،
والأدهش...الأدهش...المعنى العميق  الملهم الذي التقطه الشاعر من الحياة!!
نعم، المعاني - كما يقول جاحظنا العظيم- مرمية على أرصفة الشوارع؛ والعبقري الفذ من ينتبه إليها، ويقدمها بتشكيل غاية الجمال والإبداع لهذا الناس!
وهذا الانتباه الملهم ، هو الذي جعل أرخميدس أن يضع قاعدته في حمامه، عندما انتبه إلى خفّة وزنه في الماء، وصيّر نيوتن أن يبدع في صياغة  قانون جاذبيته، إبان سقوط التفاحة على رأسه المسكين!! وهذا ما أشرت إليه سابقًا، وأكرر وفي الإعادة إفادة!!  
  البيت الخاطرة من  قصيدة للمتنبي  يمدح فيها سيف الدولة الحمداني ، ويذكر هجوم الشتاء الذي أعاقه عن غزو ( خرشنة)،  مطلعها: 
عَواذِلُ ذاتِ الخالِ فيَّ حَواسِدُ وَإِنَّ ضَجيعَ الخَودِ مِنّي لَماجِدُ

إلى أن سيف الدولة أعاد الكرَّة، وفتحها وقتل رجالها، وسبى نساءها، ووقفن النساء كجوارٍ مسبيات أمام سيف الدولة وجنده، والأبيات التالية تكمل الصور:
 أخو غزواتٍ ما تغب سيوفـــهُ ***رقابهم إلا وســـيحان جامــدُ
فَلَم يَبقَ إِلّا مَن حَماها مِنَ الظُبا** لَمى شَفَتَيها وَالثُدِيُّ النَواهِدُ
تبكي عليهن البطاريق في الدجى*** وهن لدينا ملقياتٌ كواسدُ
بذا قضت الأيام ما بين أهلها **** مصائب قومٍ عند قومٍ فوائدُ

والحق هذا حال العرب، وبقية الأمم حتى في صراعاتهم وحروبهم بين أنفسهم، أو كما تسمى اليوم الحروب الأهلية، هاك هذه الحادثة التاريخية العربية المؤلمة.
 كانت عند المختار بن أبي عبيد امرأتان، إحداهما أم ثابت بنت سمرة بن جندب، والأخرى عمرة بنت النعمان بن بشير الأنصاري، فعرضهما مصعب على البراءة من المختار، فأما بنت سمرة فتبرأت منه فخلاها، وأما الأنصارية فامتنعت فقتلها، فقال الشاعرعبد الرحمن بن حسان بن ثابت ، - وقيل لعمر بن أبي ربيعة-   مستهجناً فعلة المصعب الإجرامية ، متعللا بضعف المرأة وتبعيتها كسلعة ، ولله الأمر من قبل ومن بعدُ:
إنّ من أعجبِ العَجائبِ عِندِي*** قتلُ بيضاءَ حرةٍ عُطبولِ
قُتِلَتْ باطلاً على غيــــر جُرْمٍ ***** إن للهِ دَرَّهَـا من قتيلِ
كُتبَ القتلُ والقتالُ علينــــــا ***وعلى الغانياتِ جَرُّ الذُّيولِ
هذه هي الدنيا، وحالها - يا قارئي العزيز- وما في اليد حيلة، إلا أن تؤخذ الدنيا غلابا.
"وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۚ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ"
كريم مرزة الأسدي 

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق