خمسون سنة من الحروب، ولا يزال لبنان على طريق الجلجلة؛ إلا أنه لا يزال حياً. ويسألونك كيف يمكن لوطن مثل لبنان الذي يمتلك كل مقومات العظمة، أن ينحدر إلى هذا الذل، إلى هذا الجحيم؟ والجواب عن هذا السؤال، ان السلطة التي تعاقبت على الحكم منذ الاستقلال لم تكن على قدر المسؤولية، ولم تتمكن من بناء الدولة. زيادة على ذلك، حصلت في الشرق تطورات خطيرة. أهمها الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني والتمدد الإيراني في العالم العربي. وها نحن اليوم في ظل قرار دولي و"اتفاق على وقف إطلاق النار" لتطبيق قرار الأمم المتحدة 1701. والسؤال الكبير هنا هل سيأخذنا هذا القرار الى السلام الذي نريده؟ نحن اللبنانيين الذين نعبد هذا الوطن بعد الله، قلقون على لبناننا، لأن هؤلاء الذين أخذوه إلى الحرب عنوة، يريدون اليوم إخضاعه عنوة لسلام ليس هو سلامه. قلقون لأن المفاوضات التي أدت إلى هذا القرار الدولي، لم تعتبر لبنان جمهورية البنانيين جميعهم، بل اعتبرته جمهورية حزب الله. فهذه المفاوضات التي قادتها الولايات المتحدة كانت مفاوضات بين طرفين. الطرف الأمريكي- الإسرائيلي من جهة، والطرف الإيراني- حزب الله من جهة أخرى. لم يكن لبنان طرفاً في هذه المفاوضات.
لقد عقدت في 4 كانون الاول ندوة أكاديمية في جامعة القديس يوسف في بيروت وفي المركز الذي يحمل اسمي للدراسات السياسية اللبنانية، عن "الاتفاق على وقف إطلاق النار" في لبنان. تحدث في هذه الندوة خبراء في قرارات الأمم المتحدة، وخاصّة في القرار 1701. كانت نتيجة هذه الندوة أن هذا القرار هشّ، ومؤقت، وأنه لوحده لن يأخذنا إلى السلام. لكنه من دون أي شك فرصة جديدة لبناء السلام. وكم كان من المعيب أن مجلس الوزراء اللبناني ومجلس النواب لم يجرؤا على الدفاع عن لبنان وحقوقه أثناء هذه المفاوضات. ولكن لو تجرأ لبنان وتكلم، فماذا يا ترى سيقول؟ انه سيقول حتما، كفانا حروبا. لقد شبعت الأرض من الدماء. وكفانا مقاومات تدّعي تحرير فلسطين. تاريخ طويل من الشعارات الفارغة والمضللة. تاريخ طويل من الفشل. نحن شعب يمجد الفشل ونجعل منه أحيانا "نصرا إلهياً". وتعالوا نسأل ماذا كانت نتيجة هذه المقاومات في نصف القرن الماضي؟ كانت النتيجة أن فلسطين لم تُحرّر، بل دُمّر ما تبقى منها. وكذلك دُمّر لبنان صاحب الرسالة وأبو الحضارة. ودُمّر العالم العربي من صنعاء إلى بغداد إلى دمشق.
ويقول لبنان أيضا أن هذه المرة هي غيرها من كل المرات. بعد كل هذه الحروب، وهذا الدمار، وهذا الجحيم، لا نريد فقط "وقفا لإطلاق النار" بل نريد تسوية سياسية تقودنا إلى السلام والاستقرار الدائمين. لا نريد تهدئة تعود بنا للمرة الألف إلى الحروب. نريد السلام. السلام الذي لا يشبه السلام الذي كنا فيه. نريد السلام الذي ليس بعده حروب. وكيف نصل إلى هذا السلام؟ نصل بتطبيق أربعة بنود: أولا، العودة إلى اتفاق الهدنة وإلى الدستور. ثانياً، تجريد السلاح من جميع الفئات اللبنانية وغير اللبنانية، وحصر السلاح في يد الدولة اللبنانية. ثالثاً، وهو الأهم، تجفيف المال والسلاح المتدفقين من إيران ودول أخرى إلى هذه الفئات. ورابعا، أن نتفق على ألا نقدّم لبنان فِديةً لفلسطين بعد اليوم.
وكم رحّبنا بكلام الأمين العام الجديد لـ"حزب الله" عندما قال: "نريد فقط وقف إطلاق النار واحترام سيادة لبنان". ولكن احترام سيادة لبنان أيها السيد يبدأ بكم أنتم. يبدأ بتسليم سلاحكم إلى الدولة والعودة بكم إلى وطنكم. لقد تأخرتم في فصل لبنان عن غزة، فنرجو أن لا تتأخروا في فصل لبنان عن إيران.
وسيقول لبنان أنه خائف لأن هذا الاتفاق الجديد يؤمّن ولو موقّتا السلام لإسرائيل، ولكنه لا يؤمّن السلام للبنان. هذا الاتفاق لا يؤمّن نزع السلاح، إذ أنّ نزع السلاح ليس أكيدا في هذا الاتفاق. ولو كان، لما كانت إسرائيل لتصرّ على منطقة عازلة بين حدودها الشمالية ونهر الليطاني. ونود هنا أن نسأل، قد يكون هناك نزع سلاح جنوب الليطاني ولكن ماذا عن شماله ؟ هل سيكون هناك السلاح غير الشرعي شرعيا؟ ولو كان نزع السلاح وارداً لم تكن إسرائيل لتصرّ على حقها بالدفاع عن نفسها كلما تجرأ حزب الله على مهاجمتها. وليومنا هذا لا نرى أي تغيير في استراتيجية حزب الله للمستقبل. في هذا القرار يتكلمون عن القرار 1701 كما كان قبل الحرب لا كما يجب أن يكون. ونحن نذكر جيدا أنه كنا قبل هذه الحرب تحت مظلة1701، ولماذا لم يؤمن هذا الاتفاق يومذاك السلام لنا؟ ولماذا يا تُرى يصبح هذا الاتفاق اليوم الحلم الذي نسعى اليه؟
إن أهم ما جاء في الندوة التي عقدت في جامعة القديس يوسف هو ضرورة اعتبارهذا الاتفاق غير كاف لتحقيق السلام في لبنان، ولكنه فرصة جديدة يجب أن نبني عليها للوصول إلى السلام. هناك ثلاثة تطورات كبيرة قد حدثت تدعنا نرى الضوء في هذا النفق المظلم. التطور الأول، هو انهيار محور الممانعة. لقد فشل هذا المحور في غزة وفشل في لبنان، وفشل أيضا في سوريا. إن ما نراه اليوم في سوريا من تطورات عسكرية وسقوط نظام الأسد وخروج ايران من الساحة وانهيار محور الممانعة، كل ذلك يوفر لنا فرصة تاريخية جديدة لقيامة لبنان. لقد دَمّر هذا المحور فلسطين، ودَمّر لبنان، وزعزع الاستقرار في الشرق كله. والتطور الثاني، هو وجود رئيس إصلاحي جديد في إيران. هذا الرئيس يقول إنه يريد السلام مع الغرب لا العداء له. وقد يكون حاضرا لإبرام صفقة مع الغرب محورها رفع العقوبات الاقتصادية، البرنامج النووي، والتخلي عن سياسة الحرس الثوري والتمدد الإيراني. والتطور الثالث، وهو الأهم، هناك رئيس جديد في الولايات المتحدة يريد السلام في المنطقة وفي لبنان. هذا الرئيس يؤمن ان إرساء السلام في الشرق سوف يحدّد مكانته في التاريخ. ومن دون أي شك نحن قادمون على اتفاق جديد بين أميركا ترامب وإيران مسعود بزشكيان، سيشكل نافذة جديدة نطل منها على الأمل.
ان وطني لن يموت. هذا وطن متجذّر في التاريخ ومتجذّر في انتشاره في العالم. متجذّر في انسانه العنيد والمتمرد. في إنسانه الذي يحبه حتى الثمالة. لقد مرت على هذه الأرض جيوش كثيرة ثم رحلت وبقي لبنان. مر عليه موت كثير وبقي حيا.
ونتوجه إلى أهلنا في المقاومة ونقول لهم إن مسؤولية قيامة لبنان هي مسؤوليتنا، نحن وأنتم. لقد قيل "أعطونا السلام وخذوا ما يدهش العالم" . ولكن السلام لا يُعطى. السلام يُصنع. ويجب أن نعترف بأنه لا يمكننا الوصول إلى السلام إذا كنا نحن على خلاف. هذه الأرض هي أرضنا جميعا وليس هناك في الأرض أرض سواها تكون أرضنا. تجمعنا محبة الأرض ويجمعنا الألم. كما يجمعنا مستقبل أولادنا.
تعالوا نطلب التوبة عن خطايانا. تعالوا نسقط معادلة "الجيش، الشعب والمقاومة" ونبني معادلة جديدة "الشعب، الجيش والدولة". تعالوا نبنِ لبنان من جديد. تعالوا نبنِ السلام ليكن شعارنا "ان وطني لن يموت".
*نشر هذا المقال في جريدة النهار الاسترالية في العدد السنوي بتاريخ 20 كانون الأول 2024 .
0 comments:
إرسال تعليق