تستمر حكومة نتنياهو في محاولاتها لتقويض الوضع الذي ساد على جميع الجبهات الخارجية والداخلية الاسرائيلية، قبل بداية ولاية سلطتها الحالية. وهنالك من يعتقد بأن نتنياهو ينتظر تسلّم دونالد ترامب مقاليد الحكم في أمريكا، منطلقا من قناعة أن الادارة الأمريكية الجديدة ستساند اسرائيل في اتمام مخططاتها لتماثلها مع ما يضمره ترامب وادارته لمستقبل إسرائيل ولمكانتها المتخيّلة في المنطقة. تتفاوت التقديرات حول موقف ترامب المتوقع، وتصعب التنبؤات حيالها، لا سيّما إذا نظرنا الى تعقيدات الصراعات المتفاعلة في أرجاء واسعة من المعمورة.
إن غدا لناظره قريب؛ بيد أنني أرى أن ما تقوم به حكومة نتنياهو في هذه الأيام يشير إلى أنها لا تنتظر جديد أمريكا، بل أنها عاقدة عزمها على انهاء مخطاطاتها قبل دخول ترامب الى البيت الابيض، ومواجهته بوضع قائم جديد، سواء فيما يتعلق بمصير قطاع غزة أو الضفة الغربية، أو حتى في لبنان وسوريا والدول العربية والاسلامية المتورطة أو المورّطة في مشاهد الاقتتالات والفوضى التي تدمر هذه البلدان، أو تقف على مقربة منها.
قد يعتقد البعض أن الفوضى من نصيب البلدان المجاورة وحسب، وأن إسرائيل تعيش حالة من الاستقرار والسلم الأهلي الداخلي؛ وهذا ما يجافي الواقع تماما. فمن يتفحص تداعيات الحالة الاسرائيلية الداخلية وما طرأ على مجتمعها منذ السابع من اكتوبر 2023، سيقف عند عدة تحوّلات لافتة ومعقدة لا نعرف كيف ستكون نهاياتها ولا الى ما ستفضي إليه.
لقد أدّت أحداث السابع من أكتوبر الى حدوث صدمة عنيفة داخل المجتمع اليهودي؛ فَقَدَ على اثرها المواطنون، بجميع شرائحهم وانتماءاتهم الفكرية والسياسية، شعورهم بالأمان الذي كانوا يعيشون في كنفه؛ وتضعضعت ثقتهم بقوة دولتهم، العسكرية والمخابراتية، وحصانتها التي آمنوا أنها كفيلة بحمايتهم من جميع المخاطر الممكنة. لقد تملّكتهم مشاعر الهلع والقناعة بأن العرب/المسلمين/ الفلسطينيين ما زالوا مصممين على إزالة إسرائيل، وأنهم قادرون عمليا على تحقيق ذلك عسكريا.
لم تكتفِ حكومة نتنياهو بشنّ حروبها على جميع الجبهات الخارجية، بل عمل وزراؤها ووكلاؤها الحزبيّون, في ظل القذائف والنيران، على تثبيت "انقلابهم القضائي" واحتلال معظم أجهزة ومرافق الحكم والسلطة. لقد تجنّدت الكنيست، ذات الأكثرية المطلقة الموالية لأحزاب الحكومة، وقامت بتشريع عشرات القوانين العنصرية والفاشية في سبيل تمكين الحكومة من ملاحقة "أعدائها" والمعارضين لسياساتها بين المواطنين والمؤسسات اليهودية والعربية على حد سواء.
كانت نشاطات وزراء الحكومة وزبانيتهم معلنة على الملأ؛ وكانت نواياهم واضحة. إلا أن معارضيهم التزموا الصمت طيلة الشهور الأولى التي تلت عملية السابع من اكتوبر، وامتنعوا عن ابداء احتجاجاتهم علنا، فتشبث نتنياهو بطريقه وبطريقته واستقوى وزراؤه وصار جميعهم "ردّيحة وشبّيحة" يهتفون للحكومة ويذودون عن سلامة رئيسها وحاشيته.
وبعد تدمير غزة وابادة الآلاف من أهلها وتهجير مئات الآلاف منهم، وبعد تدمير الجنوب اللبناني وضاحية بيروت الجنوبية وغيرها من المواقع اللبنانية، وبعد انتصار نتنياهو وحكومته واحتلالهم لمعظم مواقع الحكم ومضيّهم في الحرب على ما تبقى من "ثغور" لم تستسلم لارادته، شرعوا ، هو وكتائبه، بشن معركتهم الحاسمة على ما تبقى من المؤسستين العسكرية والأمنية، خاصة على جهاز المخابرات العامة ورئيسه، وعلى ما تبقى من المؤسسة القضائية، خاصة المحكمة العليا الاسرائيلية ومكتب المستشار القضائي للحكومة ورئيسته. ولئن أدّت حروب نتنياهو على الجبهات الخارجية إلى اسكات أصوات خصومه السياسيين لشهور عديدة، استفزت حربه، على رموز الدولة الأمنية والقضائية، أولئك المعارضين فقرروا أن يثوروا ضده. وبدأ بعضهم يصرخ دفاعًا عن اسرائيله "الديمقراطية اليهودية"، وبعضهم يحتج على اسرائيله التي ترتكب، باسمه وباسم يهود الأرض، جرائم الابادة والتطهير العرقي، وتحوّلت اسرائيل بسببها، بنظر المجتمع الدولي، إلى أقبح أنظمة الحكم التي عرفها التاريخ قديمًا وحديثا.
من يمعن النظر في الحالة التي آلت اليها اسرائيل في الأشهر الماضية الأخيرة سيلاحظ أنها تواجه حالة من الفوضى العارمة، وتعيش واقعا ملتبسا لا تعمل فيه معظم المؤسسات التي حمت وحافظت، منذ لحظة اقامتها، على "كيانية الدولة الصهيونية"، تلك التي نجحت في تسويقها، أمام معظم دول العالم، كبيت "قومي تستحقه الضحية اليهودية" وكدولة جديرة بدعم مجتمعات "العالم المتحضر" وحكوماته. انها "فوضى مهندسة" خلقها نتنياهو وعمل مع أعوانه على تأجيجها متعمّدا ومدركًا أن في عراها ستضيع القيم الانسانية وتختفي قواعد الاخلاق القديمة، فلا يسود في ظلّها قانون إلا قانون "خالق الفوضى وربّها"، بنيامين نتنياهو.
لن أجري في هذه العجالة جردا لقوائم الجهات المعترضة على سياسة نتنياهو ولا لدوافعها ؛ فعندما نقرأ، مثلا، أن وزير الدفاع الأسبق ورئيس أركان جيش الحرب الاسرائيلي "بوغي يعلون" يعلن بحزم أن الجيش الذي كان قائده ذات يوم، ينفذ في غزة حرب ابادة للفلسطينيين، وان حكومة اسرائيل تقوم بعملية تطهير عرقي، وتُجلي سكان غزة عن أراضيهم كي يعود الاستعمار اليهودي اليها؛ عندما نقرأ هذه التصريحات، يجب أن نتوقف عندها ونتفحص كيف يمكننا أن نستفيد، نحن الفلسطينيين عموما ومواطني الدولة خاصة، من هذا الموقف ومن صاحبه، خاصة إذا علمنا أن هنالك أصواتا كثيرة تؤمن مثله.
تعيدنا تصريحات بوغي يعلون الأخيرة إلى تعقيدات أوضاعنا السياسية الخطيرة وما تحمله من مخاطر وآفاق بالنسبة لنا كمواطنين في اسرائيل، وتضعنا مجددا أمام مسؤولياتنا في مواجهة سياسات الحكومة الاسرائيلية، خاصة اذا أجمعنا أنها تضمر لنا أسوأ الخيارات وأخطرها على استمرار وجودنا في الوطن؛ فنحن، رغم جميع التطورات التي حصلت، لم نهتد بعد الى صياغة معادلاتنا السياسية الملائمة لواقع فاشي وعنصري لم نعهده من قبل. وما زلنا نراوح في مكاننا ونلوك مواقفنا التقليدية التي لم تمنع وصولنا الى شفا الهاوية.
لقد افترقت طريق بوغي يعلون عن طريق نتنياهو وحزب الليكود في العام 2016 حين أعلن اعتزاله الحلبة السياسية في أعقاب خلاف جدي مع نتنياهو ادى الى ابعاده عن حقيبة وزارة الدفاع واستبداله برئيس "حزب إسرائيل بيتنا"، ايفيت ليبرمان. كانت خطوته مؤشرا لامكانية حدوث تغيير في قناعاته السياسية اليمينية المتزمتة وبداية لتحوّل قد ينقله من معسكر الأعداء الأزليين الى معسكر الحلفاء الممكنين في جبهة معارضة للفاشية وحكومة عازمة على التخلص من القضية الفلسطينيين وأهلها الفلسطينيين. ليس أحوج منا، في هذه الفوضى، إلى مراجعة دروس الأمم التي واجهت الأنظمة الفاشية والديكتاتوريات؛ فلكل عصر قوانينه ولكل حالة قيودها وضرورياتها. إن مواقف بوغي يعالون المتغيرة، وهي لغرض هذه المقالة، مجرد مثال أو عيّنة، تتيح لنا فرصة اعادة النظر في أحد أهم قوانيننا السياسة التقليدية المتحجرة إزاء من قد نعتبرهم حلفاء لنضالاتنا في وجه سياسات حكومة نتنياهو ومشاريعها التصفوية، أو ابقائهم في خانة الأعداء مهما قالوا أو تغيروا.
لقد كتب يعالون في سيرته الذاتية قائلا: "لقد تعلمت أنه في عالم متغير بوتيرة متصاعدة وفي جميع مناحي الحياة، من لا يسأل نفسه في كل صباح ومساء: ماذا تغيّر، يتحول إلى انسان غير ضروري" .
تعيش اسرائيل اليوم حالة من "فوضى الرصاص"، ونحن ضحايا تلك الفوضى المباشرون. لكننا نعيش أيضا حالة من "فوضى العجز "؛ فوضى من صناعة مجتمعاتنا وجهلها أو تيهها، ناتجة عن عجز مؤسساتنا وقياداتنا. ومن يعش في عصف "فوضوين" عليه أن يرجع إلى ويراجع دروس الشعوب التي حاربت الفاشية والفاشيين، وناضلت من أجل حقوقها وكرامتها ونجاتها.
لقد كتبت هذا مرارا وأعرف أن الكثيرين من بين العرب والمسلمين، من مواطني الدولة ومن خارجها، يشعرون براحة لانتشار هذه الفوضى داخل اسرائيل؛ فأولئك ما زالوا يعتقدون أن كل حرب تدور بين اليهود واليهود ستكون في صالحهم وستؤدي إلى زوال اسرائيل، كما هي مشيئة الرب. أمْا أنا فلست من هؤلاء ولا أومن أن نجاتنا ستضمنها الفوضى التي يعمل على هندستها نتنياهو ورهطه؛ فالدول العاصية، حتى المارقة منها، لا تهزم بالتمني وبالصلاة وبالتشفي ولا هو الغيب مضمون في جيب العرب!
طريقنا واضح ووحيد: علينا أن نسعى ونتحالف مع كل من يعارض هذه الحكومة الفاشية، ونقيم معهم جميعا "الجبهة ضد الاحتلال والفاشية"؛ فاسرائيل الجديدة قد تنتصر إذا نجحت بمشروع تطهيراتها العرقية، واستمرت بحصاد جثث الفلسطينيين والعرب.
0 comments:
إرسال تعليق