يحدثنا التاريخ القديم والحديث أن ما من أمة أصابها مظاهر الظلم السياسي أو عرفت الحياة السياسية فيها الغياب التام لكل حديث عن الحريات العامة وحقوق الإنسان ودولة القانون إلا وانتهى أمر نظامها الحاكم إلى الزوال بإحدى الطريقتين : انقلاب داخلي ينعدم معه وجود سلطة سياسية شرعية حاكمة لفترة غير قصيرة تدخل خلالها البلاد في حالة فراغ دستوري محدثة فوضى داخلية تفضى إلى تردي الوضع الاقتصادي المؤدي غالبا إلى التدهور الأمني. أو أن تتعرض البلاد لهجمة مسلحة تنتهك سيادتها وتقوض أركانها وتصادر استقلالية قرارهافتفقدهاوسائلها الذاتية لحماية أمنها الداخلي وتلغي دورها في التكفل بشؤون دفاعها الوطني.
غالبا تفقد السلطة اعتبارها داخليا بسقوط شرعيتها، وتفقد بناء عليه حضورها الإقليمي والدولي وتتراجع مرتبتها في سلم الدول الفاعلة فيضعف تأثيرها في صياغة التوجهات السياسية وصنع القرارات الدولية حتى وإن كان الأمر يتعلق بقضية معروضة للنقاش في المحافل الدولية وترتبط مباشرة بشأنها، أي أن واقع ومستقبل مصير البلاد يصبح خارج إرادتها وبيد أطراف أخري خارجية في المجموعة الدولية .
يمكنني أن أجزم أن كل هذه المخاطر والتبعات لم تكن غائبة عن أعين مراكز رسم السياسات ودوائر صنع القرار أو عن فكر وتقدير القيادة الحاكمة وكافة المسؤولين السياسيين في تلك البلاد التي سبق أن تعرضت للانهيار عبر مراحل التاريخ القديم والحديث . إن التاريخ يعطينا من الأمثلة ما يكفي لأخذ العبرة والاستفادة من الدرس، ويتيح لنا المجال واسعا في إعمال الفكر والتأمل لأحذ الموعظة ، ولا تعوز أفقر شعوب الأرض بأبسط أدوات البحث من أجل الوقوف على حقيقة ما كان أو لتحري صدق ما جرى .هنا ثمة أسئلة حائرة:
ـلماذا لم يتدارك المسؤولون أمرهم بناء على خلفية ما يعلمون فيجنبوا أنفسهم الذل والمهانة ؟ ـ لماذا حرموا شعوبهم وأمتهم نعمة الأمن والسلام ؟ ـ ولماذا جحدوا بنعمة الاستقرار على أنفسهم وبلدهم فاندفعوا بجنون نحو الزوال السياسي وسقط آخرون في هوة الفناء ؟
تكرار الأحداث في بقاع شتّى ومتباعدة في قارات العالم يحيل إلى ظاهرة تعطي دلالة على أن ثمة أفكار تتعلق بالدوام في كرسي الحكم هي المسيطرة على الرؤوس في أعلى هرم السلطة تكون قد أصابت البصر بالعمى والبصيرة بالزيغ والفكر بالضلال ، فحدث العجز والتيه عن استيعاب حقائق التاريخ وفهم دروسه فلم يتحقق منه الردع.
إن المراحل المتوالية لانهيار النظام السياسي مرتبة منطقيا ومرسومة مسبقا وبكل وضوح، لذلك فهي معلومة في اوساط العامة البسطاء ،والمفارقة أن أهم معالم كل مرحلة هي ذات بعد اجتماعي لذلك ترتبط مباشرة بمصالح أفراد الشعب، وليس صحيحا أن تكون القلاقل السياسية وحدها أو نشاط قوى المعارضة من أحزاب ونقابات ومنظمات وراء كل تغيير سياسي سواء كان تغييرا كليا أو تعديلا جزئيا، كما أنه ليس صحيحا أن الأوضاع الاقتصادية الصعبة هي السبب المباشر لانهيار أركان دولة ما مهما كانت مظاهر فقرها وتدني مستواها المعيشي ، ولعل ما يمكن ذكره في هذا المقام أن بداية سقوط النظام مرتبطة تماما بانتشار الفساد السياسي كظاهرة " الرشوة " التي بها يُقضى كل أمر وبها يُحرم كل ذي حق من حقه ، ومن دونها لا تُقضى أي مصلحة لتصبح المفتاح السحري لمغاليق الأمور ووسيلة إذلال النفوس وإخضاعها، فعندما تستشري الرشوة وتصبح المحرك الأساسي لنشاط الأفراد في الحياة العادية اليومية للمجتمع يصبح السبيل ممهدا وسهلا لتفكيك أواصر المجتمع بعد تفشي عدم الثقة وغياب العدل ، فلا شيء يصبح مضمونا أمام إغراء المال، كما يصبح المجال مفتوحا أمام شراء نفوس لن يرحمها ضعفها أمام سطوة المال من الخنوع والقبول بأي فعل يُطلب منها القيام به ولو كان فعل الخيانة الوطنية ، فالمرتشي لن يهتم كثيرا بمصدر المال سواء كان من داخل وطنه أو أجنبيا من خارجه ، وهنا تتشكل الأرضية لتوغل نفوذ المال الأجنبي في العبث بالشؤون الوطنية .
تتربى في أركان كل سلطة وداخل دواليب أي نظام حكم سوسة النظام،التي لا تنشط ولا تنتشر إلاّ في غفلة، وهي ظاهرة موجودة في كل دولة ، ولكن في الدول التي تتحلى بمستوى عال من الثقافة السياسي والوعي الوطني الأصيل تراها خاملة ولكنها تنشط عندما تفتح لها في حصون دفاع الدولة الثغرات ، وللأسف فإن اليد التي تُفتح لهاهذه الثغرات ليست يدا أجنبية ولكن أيدي أبناء الدولة نفسها . تكمن سوسة النظام في ظاهرة المحسوبية المقيتة القائمة على تبادل المصالح بين قوى تؤسس لعملها بانتشار نفودها على أساس القرابة العائلية أو الانتماء القبلي ووفق اعتبارات الانتماء الإقليمي، أوعلى أساس عرقي عنصري ، أو ديني مذهبي ، أو إيديولوجي سياسي باعتقاد أنها روابط وثيقة ودائمة وباعثة على الثقة في خالص الطاعة ومطلق الولاء، وعليها تتشكل مراكز القوى داخل الدولة ، وسيكون حضورها على حسب حجم انتشارها وتوسع نفودها وقوة تأثيرها ، ويمكن تصوّر طبيعة دورها في رسم مستوى علاقاتها مع السلطة وتحديد طبيعتها إذ لا شيء يضمن لها بقاءها إلى جانب النظام إذا تضاربت المصالح او تناقضت المواقف .إن أخطر ما تفرزه هذه الظاهرة يتمثل في بروز التكتلات والعصب داخل الوطن الواحد فيفقد بذلك الشعب خصوصيته ووحدة نسيجه المشترك وتهتز مشاعر الانتماء الوطني ، بل وكثيرا ما تفكّكت اللحمة الشعبية ومعها سقطت مشاعر الاعتزاز بماضي الأمة وتاريخها ككل ، ويكون من نتيجة هذا الوضع أن تفقد الجبهة الداخلية تماسكها وتغيب عن مفردات حياتها الاجتماعية عبارات التضامن الوطني والتكافل الاجتماعي ومعاني الفداء والتضحية ، ويصبح شأن البلاد هشا لا يحقق لها توازنها أمام رياح المناورات الخارجية .
إن آفة زوال النظام تتمثل في خوفه من خيرة أبنائه الشباب من ذوي الكفاءات والتحصيل العلمي العالي وإبعادهم عن مناصب المسؤولية وإعاقة تقدمهم على مسارهم المهني نحو الترقية لتبوؤ المراكز القيادية ،لأن معنى هذا انسحاب من يعتبرون أنفسهم أوصياء على الأمة تحت غطاء سميك من الاعتبارات التاريخية التي تبرر لهم إيجاد مقتضيات وطنية لا تحصى يتذرعون بها للبقاء في الحكم، وفي ذلك تتداخل أصول الأفضلية ومعني الأولوية في العمل السياسي فتتعدد أصوات من يدّعون لأنفسهم حق الولاية والحكم لتظهر بوضوح انتشار حالات الإقصاء والتهميش التي لا تُبقي ولا تذر من مشاعر الوطنية المتحمسة في نفوس الشباب .
إن مرور أي بلد بالمراحل السابقة من رشوة ومحسوبية وإقصاء يضعها مباشرة في مهب الريح عاصفة لأن الوضع الداخلي أصبح رخوا، ضعيفا ومهيأ لذلك تماما وسيكون من أبرز مظاهر هشاشته ما يلي :
ـ سياسة الآذان الصامتة / التماطل الذي يعكسه عدم فتح أبواب الحوار بين الحكومة والقوى الوطنية السياسية والاجتماعية، وغياب أي استعدادمبدئي للتفاوض الذي يؤكد تجاهل التهديدات النقابية وعدم أخذ المهلة الزمنية للبدء في بحث ومناقشة قضاياهم ومعالجتها بجدية، مع تعمد الإبقاء على القوانين الأساسية والنظم التعويضية المؤقتة المرفوضة، ، وعدم إشراك النقابات العمالية والمنظمات المهنية في صياغة القوانين ، أو فتح المجال أمام المساهمة في إيجاد الحلول للمشاكل والقضايا ، بل تفضيل التوجه مباشرة إلى العدالة لاستصدار أحكام قضائية ببطلان الاضرابات بالرغم من دستوريتها ، هذا يؤدي إلى الاتجاه نحو التفكير في أنماط الاحتجاج الأخرى الممكنة كتصعيد الإضراب عن العمل انتقالا من القطاعي فقط ، الوطني المحدود، ثم وطني مفتوح الأجل ، وطني شامل لتضامن عدد من نقابات قطاعات أخرى، وتنظيم الاعتصامات والوقفات الاحتجاجية ، ثم المسيرات المنددة بالسياسات تحت شعارات ستعكس في أدني مستوى لها درجة الانفصال الحاصل والتباعد الوجداني بين السلطة والشعب .
ـ مشكلة الاستيراد المفرط للسلع والخدمات ، وهي نتيجة منطقية لاحقة تعني وجود قصور حاد في الجهاز الانتاجي وعجز القوانين الحامية عن إنقاذ المنتج المحلي من شرسة المنافسة الأجنبية غير العادلة . يرفع استمرار هذه المشكلة من مظاهر الاحتكار وتشعبه وبالتالي تعقّده إلى درجة عدم تحمس المجتمع لتحقيق ذاته.
ـ كثير ما لم تكن وسائل الإعلام الوطنية رحيمة بأمنتها ، بل كانت أشد قسوة من الأعداء، فتفاقم من تردي الأوضاع الاقتصادية وفي تدهور الوضع المعيشي للمواطنين من خلال تغذية التعليقات بلغة التحريض والشحن السياسي والمواقف المتشنجة برصاص الحبر المعبأ في الكلمات ، ونجد ذلك أيضا عندما يصوغ الإعلام أفكاره لشريحة واسعة من الرأي العام الداخلي والخارجي في قوالب صماء لا تعمل العقل في معاني ما يُكتب من أخبار، ومنه يفتح المجال لانتشار الإشاعات والأنباء المغرضة.أنه الاستغلال الإعلامي لقضايا اجتماعية واقتصادية متأزمة لتحقيق أهداف سياسية ضيقة غالبا ما تكون بعيدة عن المصلحة الوطنية.
ـ عندما لا تنصف الأعمال الفنية التاريخ الوطني للأمة بسبب تراجع ونقص الكتابات الموضوعية المتخصصة، وعندما يكون فكر الأفراد مرتبطا بجدوى الفعل الإيديولوجي أكثر من الاهتمام بقضايا المجتمع، حينها سيسود طابع السخرية السياسية المتبادلة، فابتسامات المسؤولين وخطبهم الرسمية المستهزئة والساخرة تقابلها قصائد سياسية منتقدة وأشعار شعبية ساخرة وخطب مثيرة مباشرة وغير مباشرة ، إلى جانب الأعمال الدرامية والقصص والروايات السياسية والبرامج التلفزيونية الساخرة وكلها تغذي الاعتقاد بعدم صدق السلطة فيما تقول وفي نزاهة ما تفعل، وما سقوط المصداقية إلاّ طلاق عاطفي وانفصال وجداني بين الشعب والسلطة .
أن التشخيص الأولي لحالة نظام تشمله المظاهر المذكورة أعلاه يحيلنا مباشرة إلى فرضية عدم وجود حوار سياسي، لأن هذا الحوار يفترض أصلا وجود إرادة سياسية حقيقية مسبقا مستندة إلى قناعة راسخة بأن الحوار الشامل والجدي والصريح مع كل القوى السياسية والاجتماعية الذي يبدأ تحت مظلة قضائية وبضمانات أمنية ، أو حتى بإشراف وحضور دولي هو المخرج السلمي لكل الأزمات ، وهو الخيار الأمثل والوحيد لتجنب التصعيد العنيف في المواقف ، إنه الحوار السياسي الذي يرتكز على آليات وجود أطراف النزاع فيه دون إقصاء ، وقبولهم به بالتزامهم وقف العنف الاجتماعي والاضطراب الاحتجاجي، وتحديد عدد أطرافه كأن يكون حوارا ثنائيا أو متعدد الأطراف مباشرا أو وبوجود وسيط يعمل على تقريب وجهات النظر للوصول إلى حل سياسي توافقي ذي بعد وطني يُرضي الجميع مع اجراء الترتيبات الازمة لعقد اللقاء ومنها تقليص شروط الأطراف وتخفيض سقف المطالب التعجيزية، وإظهار حسن النية وتأكيد الجدية بإجراءات إيجابية ، والأهم ضرورة الاستناد إلى قوة المنطق وليس منطق القوة، هذا بينما نرى الحاصل أن السلطة لا ترى في "خصومها " الندية بمفهوم الموقع الذي يتيح لهم الحديث معها لكونهم فاقدي صلاحية اتخاذ القرار وتنفيذه، ويصعب الحديث عن محاولة جمع شمل الخصوم من معارضة حزبية وقوى اجتماعية ومنظمات وطنية أو تنظيمات مهنية أو نقابات عماليةحول أرضية واحدة مشتركة بينهم دون مزايدات ومناورات تؤخر سعيهم ولا تقدم دفعا لهم ، فالسمة التي تتميز بها هذه الأطراف هي أنه في خضم لهفتها لتحقيق فوز ينسب لها على السلطة تراها على عجلة في رسم الأهداف الطموحة قبل التفكير في الأشخاص المؤهلين كرجال دولة لذلك، ومنه يمكننا تفسير الإخفاقات والتعثرات التي عرفتها وما تزال تعرفها العديد من الدول التي نشدت يوما التغيير فانقلبت الأمور عكس التيار بعد مسلسل إحباطات مريرة، وأصبح العنف هو المنطق السيد والوسيلة الفضلى والأداة لمن لا ثقافة سياسية كافية له. هنا تقف البلاد على أبواب جهنم وأول ما يصيبها من حرها الانفلات الأمني الخطير وعدم الاستقرار السياسي وتدهور حالة السلم الاجتماعي ، وصولا إلى سقوط الشرعية على كل المستويات الرئاسية والحكومية والبرلمانية، هذه البيئة الداخلية تضع البلاد أمام مخاطر الدخول في مرحلة استثنائية أو انتقالية وهذا دون تحديد أفق المستقبل أو تتبين معالمه بل ويصعب فيها رؤية طرف حريص على تحديد أمدها رغم ما تعانيه البلاد بعدما أصبحت تعيش فوق رمال متحركة لا تجنبها احتمال التعرض إلى مؤامرات التدخل الخارجي الذي غالبا لا يعجز عن اختلاق المبررات لتدخله فيتخذ مثلا ذريعة حماية الشرعية ودحر الإنقلابيين ، أو مكافحة جماعات مسلحة متمردة أو حركاتانفصالية أو لحماية أقليات دينية أو عرقية في حالة خطر.. كغطاء لتبرير تدخلها العسكري، فيزداد الأمر تعقيدا لأن الأطراف الدخيلة الأجنبية لن تتعجل أمرها لإعادة الحياة الدستورية في البلاد بل وستعيق الحلول السياسية التي لا تتفق مع مرئياتها للوضع ، وسيكون بالنسبة لها الوضع الانتقالي هو الأنسب لأنه يحقق معادلة وجود سلطة انتقالية ليست حاكمة تقبلها جماعات مسلحة رافضة ومتربصة بها ، وأحزاب سياسية صورية أو غائبة لا تستبعد إمكانية استمالتها وعمالتها ، لذا لن يتجاوز الأمر في أحسن أحواله إمكانية تنظيم انتخابات صورية يتم التحضير لها بما يضمن التحكم في نتائجها في غرف مظلمة .. انتخابات تجري تحت إشراف قوات عسكرية أجنبية ترهن حال ومستقبل البلاد وتربط مصيرها بخيوط تحركها يد المتآمرين من خلف ستار داخل الوطن.
هذا المشهد المأسوي هو النتيجة الطبيعية لكل من حصر تعامله في قالب واحد مع الحياة، فتراه إن لم يناسبه أعلن دون دراية منه انتهاء مبرر وجوده على هذه الأرض، ومرد ذلك في الحقيقة هو أن دخول الحياة السياسية أصلا لم يكن بفهم ذاتي أكيد للواقع وبدراية كافية لطبيعة معطيات الحياة ، فكل مبادرة تحتاج إلى أرضية معينة وإلى أهداف مشتركة بين الأطراف وإلى تقديم بعض التنازلات من كل طرف من أجل تسهيل تحقيق معادلة المبادرة ، وبغير ذلك لا يمكن إجراء أي حوار، وكثير من القضايا في عصرنا سقطت فيها كل الآمال في رؤية حديث عن حل سياسي شامل وحقيقي يقوم على حوار مع الأطراف التي تنبذ العنف وتحمل مطالب سياسية واقتصادية .. حوار يعمل على تفكيك صفوف المتشددين سياسيا وتحييد المتطرفين عقائديا، حوار يحرص على خلق طبقة سياسية ناضجة وقادرة على التأثير الإيجابي الفعّال في مجريات العمل الوطني، لذلك كان منتظرا أن يصبح الحل الممكن هو الحل العسكري الذي يفتح المجال أمام مخاطر التدويل واستغلال منطق الحسابات السياسية في العلاقات الدولية ، وبالتالي استعمار البلاد بالوكالة.
0 comments:
إرسال تعليق