في مداخلتي القصيرة هذه، سوف أسوق بعض الملاحظات التي أعتقد أنّها تضيء معالمَ أساسية في المسار العام لجورج، علّها تساهم في توضيح مغزى الكتاب الذي بين أيديكم.
ينتمي جورج الكاتب إلى تقليد تنويريّ عريق لا نجده فقط في العالم العربي، وإنما أيضاً في وسط المسيحيين العرب واللبنانيين منهم بوجه خاص. إنه التقليد الذي اختاره جورج ابن بلدة تنورين المارونية القابعة في أعالي جرود لبنان الشمالي، متمرداً بذلك على خيار التقوقع الأقلوي، وناقداً لسلطة العشائر، ونابذاً لمفهوم الأمة -الطائفة.
كتاب جورج "خارج السرب"، كما مجمل مساره العام وكتاباته الأخرى، ينتمي إلى تقليد كان قد أرساه في الماضي اليازجي والبستاني والشدياق وجبران ومارون عبود، وصولاً إلى يوسف يزبك وفرج الله الحلو. نعم أقول: يوسف يزبك وفرج الله الحلو لأن جورج كان دائماً يقرن الكلمة بالفعل تماشياً مع قول ماركس بأن الفلاسفة لحدّ الآن لم يفعلوا سوى تقديم تفسيرات متنوعة للعالم، بينما المطلوب هو تغييره.
إضافة، كان جورج في مساره وعمله العام لا ينسى ولا للحظة أنّ حرية الفرد والمجتمع لا تستقيم إلا إذا ترافقت مع تغيير الوضع الاجتماعي باتجاه تحقيق العدالة الاجتماعية وإزالة الاستغلال للبشر. وعندما هاجر مؤلف "خارج السرب" من لبنان واستقرّ أخيراً في سيدني، حمل معه هذا التقليد التنويري وحرص على ترجمته في سياق تفاعله مع المجتمع الأسترالي عموماً والجالية اللبنانية والعربية على وجه الخصوص. والكتاب الذي هو موضوع هذه المناسبة هو إحدى ثمار هذا التفاعل المشار إليه.
ومع هذه الملاحظة العامة تراودني بعض الملاحظات الخاصة بكتاب "خارج السرب":
إن القارئ لهذا الكتاب لا يسعه إلا أن يقرّ بأن مؤلفه بارع في استخدام السخرية (المحبّبة إلى قلبي) في علاجه للمواضيع المختلفة التي يتطرّق إليها.
كما ويُلاحظ سلاسة الأسلوب وظرافته، مما يجعلنا نقر مع رولان بارت بأن لنصّ الكاتب قدرة على إثارة الشعور بالمتعة.
هذا من جهة الأسلوب، اما المضمون، فالملفت أساساً أنه لا يترك جانباً من جوانب الشؤون العامة التي تخصّ الجالية في أستراليا إلاّ ويخضعه للتقييم والنقد، مسترشداً على الدوام بالتقليد التنويري الجذري الذي أشرنا إليه سابقاً. كما وأن الكاتب لم ينسَ أو يتناسَ حتى الأمور العامة ذات الصلة بوظيفته الخاصّة، فكان له الباع الطويل في تقييم النظام التعليمي في أستراليا وتفاعلات الأهل المهاجرين مع هذا النظام، دون إهمال ما لهم وما عليهم في هذا المجال.
لذلك تراني أتجاسر على القول إن جورج هو نموذج المثقف النقدي للشأن اليومي في حياة الجالية اللبنانية والعربية في أستراليا. وكم هو نادر هذا النوع من المثقفين في وسط الجالية في أستراليا؟أختم كلامي بالقول إنه نادراً ما يحمل الشخص اسماً يرمز، ولو جزئياً، إلى الدور الذي سيسلكه في حياته العامة. جورج هاشم هو من هؤلاء الأشخاص، حيث اسمه جورج وهاشم، فمسار الرجل والرسالة التي يحملها كتابه يعكسان تجذّر جورج الماروني المتمرّد في الفضاء العربي الهاشمي من جهة، وانغماس هاشم في مارونيته المشرقية من جهة ثانية، وكلاهما منغمسان في رؤية تنويرية تتطلع إلى بناء مجتمع إنساني متحرر في الوطن الأم والوطن الثاني أستراليا.
0 comments:
إرسال تعليق