" ِلنَجُدَّ في استخراج الدواء ،الذي يجب أن يشفي، من الشر في حد ذاته"
جون جاك روسو – شذرات سياسية
منذ الوهلة الأولى تعني الطبيعةnature ما يوجد خارج العالم الذي تمت أنسنته humanisé وخضع لتغيرات البشر. بهذا المعنى لا يمكن فصل الطبيعة عن الوسط الصناعيartificiel milieu الذي اخترعه الإنسان بما أنها الحقيقة الخارجية عن الثقافةCulture أو عن الحضارة civilisation .
من البديهي عندئذ أن تشير الطبيعة في معناها الأول إلى كل ما يوجد بشكل عفوي وكل ما يحمل في ذاته مبدأ وجوده المستقل ويكون قادر على التحكم في ذاته . وبهذا المعنى كان العالم الطبيعي هو الوجود المستقل عن جهود الإنسان وأغراضه. بيد أن الإنسان في حد ذاته يمكن أن ينظر إليه من حيث هو كائن طبيعي. بناء على ذلك يظهر المعنى الثاني وتبرز مفارقة عند التعامل مع الطبيعة البشريةNature humaine كمشترك بين الأفراد من جهة وما يختص به كل فرد وما يتميز به عن غيره وخاصة استعداداته الفطرية ومؤهلاته البدنية وقواه وملكاته التي تتعارض مع ما يكتسبه بالتربية من جهة أخرى.
اذا كان الأصل الاشتقاقي اللاتيني nascorلكلمة الطبيعة natura يفيد الولادة naitre فإن الطبيعة تعني أيضا كل ما يوجد في صورة سابقة عن ولادة الانسان وبالتحديد ما يمثل الأصلي والتلقائي في الانسانية. فهل يمكن أن يشكل هذا المعطى الأصلي الطبيعة البشرية بالنظر الى كونه خصائص ماهوية للانسان؟ ألا يجب أن نحذف الطابع الاجتماعي والإنتاج التقني وكل ما يترتب عن النشاط الإنساني من هذا التعريف؟ بأي معنى يقال عن كائن معين بأنه كائن طبيعي؟ فهل يجب على البشر أن يقوموا بالعودة إلى الطبيعة أم يتابعوا المغامرة التقنية من أجل إصلاحها؟ وهل الطبيعة منظمة ومتناغمة بصورة دائمة؟ ومن تستمد نظامها وتناغمها؟ وكيف يمكن أن نفكر في المحيط – السماء والأرض والكون-؟ تلك هي الأسئلة الكبرى الذي طرحتها الفلسفة على نفسها منذ العصور الضاربة في القدم وامتدت إلى اللحظة الراهنة. لقد مثلت الطبيعة دوما مجال معرفة الإنسان وفضوله وحب استطلاعه ولكن التغيرات التاريخية التي حدثت دفعته إلى التفكير في الاستغلال والانتفاع والسيطرة في مرحلة أولى وفي الرعاية والحماية تجنبا للإضرار والمخاطر في مرحلة ثانية والتوجه نحو التطوير والتغيير في مرحلة ثالثة . فهل الطبيعة هي دائما على حق؟ وهل المطلوب من الإنسان إدراك هذا الحق؟ هل العلاقة بين الإنسان والطبيعة هي علاقة تعارض وتفاهم أم هي متكاملة ويمكن إيجاد تحالف بينهما؟ بأي معنى يبحث الإنسان من حيث هو كائن طبيعي، طوال وجوده في الكوكب، عن موقع له في العالم؟
لقد دفعت الاضطرابات المناخية إلى إثارة الأزمة الايكولوجية وتركيز الاهتمام على التعهد بالموارد الطبيعية وحماية البيئة من الآفات (التلوث- الانجراف- التصحر- النفاذ) والتحكم في التطور العفوي للكائنات الطبيعية عن طريق التدخل التقني والعلمي قصد معالجة الانحرافات الطارئة في المحيط.
لقد تحدث الفلاسفة عن وجوه متعددة للطبيعة يمكن أن نذكر أبرزها على النحو التالي:
1-هوزيود وماقبل السقراطيين نظر والى الطبيعة بوصفها الكل – الكبيرLe Grand Tout ، إذ تشكل الكون في البدء من الأرضGaïa والفوضىChaos والتعاطفEros. كما صورت الأسطورة الإغريقية الطبيعة على شاكلة أم حنون تمتلك قدرة عجيبة على الجود حيث توجد الأرض بين السماء والبحر.
لقد تشكل خطاب جديد عن الطبيعة غير أسطوري وغير ديني منذ القرن السابع قبل الميلاد يعتمد على التفسير العقلاني السببي ويحتكم إلى التجربة والواقع ويدفع في اتجاه القيام بالمغامرة الأولى نحو الكون.
الفيزيسPhusis هو مشتق من اللفظ Phuein ويفيد فعل الولادةNaitre وفعل النموcroitre وفعل الدفعpousser . لقد اعتبر ما قبل السقراطيين الطبيعة المبدأ الكبير ومصدر كل ماهو موجود ، اذ يرى أناكسيماندAnaximandre أن الطبيعة هي أصل أو لانهائي ينبع منه كل شيء ويعود إليه كل شيء حينما ينحل. بناء على ذلك ثمة طبيعة أبدية تشيد بلا انقطاع أشكال متجددة غير أن شكل الأم يظل سائدا.
هكذا يولد كل شيء من هذا الجوهر الأصلي وحسب معناها الايتيمولوجي تتحول الطبيعة إلى قوة خفية تمنح الأشياء حركتها وبهذا المعنى تكون بمثابة سبب ديناميكية الكون وعلى سكونه أيضا، ولا نعجب من عبارات هراقليطس بأن "كل شيء يصير" و"لا أحد يسبح في النهر مرتين" و"الطبيعة تتقن فن التخفي".
في المجمل تظهر الطبيعة هنا على هيئة صيرورة كونية، إلا أن التحولات منظمة وتتراوح بشكل دقيق بين المتضادات ( الحار ضد البارد، والنور ضد الظلام) . هذا يشير إلى نظام أو عقل (لوغوس) يشتغل في الطبيعة يمكن اعتبار كل كبير يمثل مصدر الخصوبة والثراء ويسود الكون بصورة تامة. على هذا الأساس لا شيء يحدث خارج هذا الكل الكبير Le Grand Tout ، وبناء على ذلك تكون الطبيعة هي الوجود Etre . غير أن العقلانيين ما قبل السقراطيين عبروا على هذه الفكرة بواسطة الحكاية والشعر.
2-لقد تفطن أرسطو إلى أن العالم في حركة Un monde en mouvement وتوقف عند مبدأ الحركة ونجح في وصف الكيفية التي تظهر بها النباتات والحيوانات والأفلاك والأجرام والنجوم. لقد ساعدت الفضولية التي ليست لها حدود التي يتمتع بها أرسطو على تسديد نظرة نسقية تترجم نقطة منهجية تغطي جل العناصر والكائنات الطبيعية. لقد اختار أرسطو الانطلاق من الجزئي إلى الكلي ومن الواقع في مختلف تنوعاته ضمن مقاربة استقرائية تبحث في موضع محدد بدقة وتستخلص جملة من المبادئ.
لقد قام أرسطو بتراجع أول عن التصور ماقبل السقراطي بحيث لم تعد الطبيعة تعني الكل وإنما جهة معينة من الكون وتتصف بكونها مغلقة ومتناهية وتطابق المجال الذي يوجد تحت القمر ويتناظر مع مجال ما فوق القمر المتكون من طبيعة أثيرية وأفلاك ثابتة وخالدة. تحوز الكائنات في التحت على نقطة مشتركة تتمثل في كونها تحوز على مبدأ حركتها من ذاتها وبواسطة الطبيعة وبالتالي هي كائنات تتحرك ذاتيا. وتتوزع الحركة إلى ثلاثة مسارات: النمو والتغير والفساد. غير أن أرسطو قام بوضع الغائية في الطبيعة وذاع صيت عبارات وصيغ على غرار: الطبيعة لا تفعل شيئا عبثا وعصفور واحد لا يصنع الربيع.
المقصود من ذلك أن أشكال الحياة والأعضاء نفسها تحوز على سبب وجود مشترك ويحصل لهم تكيف مع الوظائف المسنودة إليهم من طرف الطبيعة ويجب تفادي التداخل وقيام عضو ما بوظيفة عضو آخر. لقد جعل أرسطو من الطبيعة رحم ما يمكن أن يتغير وبرنامج تحققه وتمام وجود الكائنات التي تسكنه.
3- الطبيعة هي معيار الخير أو المنفعة عند أبيقور340-270 قبل ميلاد المسيح:
تتكون الطبيعة من جسيمات غير مرئية بالنسبة للعين المجردة وتتخذ أشمالا متغيرة جدا وغير منقسمة وتسمى ذرّاتatomes وتتحرك بشكل مستمر وتسقط وتدور في خلاء لامتناه وتغير مساراتها بالاتفاق وبلا سبب وتصطدم ببعضها وتتكون مجاميع هائلة des gigantesques agrégats من الركام وتتشكل منها بطريقة عجيبة العوالم les mondes . يوجد عدد لامتناه من الذرّات ولكن الطبيعة هي الكل الذي يفهم الكل بما أن الجميع يخضعون لنفس المعلم ولا نجد في الكون إلا الخلاء والأجسام المتكونة من ذرّات.
إن النقطة الحاسمة في الفيزياء الأبيقورية هي هذا الانحراف غير المتوقع للعناصر الجزئية التي تحدث عنها لوكراس 98-55 قبل الميلاد والذي ذكر في قصيدته عن الطبيعة clinamen وبيّن أن التفاوت في السرعة بين الذرّات والذي يستمر في لحظة معينة وفي أمكنة معينة هو تفسير استمرار حركة الدوامة.
المهم في هذا الصدد هو تطوير الأبيقوريين لنظرية غير حتمية للطبيعة وإقرارهم بأن الصدفة وليست الآلهة التي تقود الرقص. بناء على ذلك يجعل أبيقور من الصدفة قانونا أخلاقيا وتتيح له دراسة الطبيعة بأن يعتمدها كمعيار مطلق للخير بحيث حينما يبتعد المرء عن الطبيعي ويقوم بإهماله ونسيانه فإنه يحرم نفسه من كل سعادة ممكنة. بهذا المعنى يدعو أبيقور إلى ترضية الرغبات الطبيعية والضرورية التي تعود إلى حياة الجسم ( الغذاء والشراب واللباس...) والى حياة الروح ( التدرب على التفكير وحب الحكمة).
في رسالته إلى مينسي يطلب أبيقور من المرء أن يصل إلى حالة يغيب فيها كل اضطراب ويحقق الامتلاء ويجعل من اللذة الخير الواقعي والمنفعة الحقيقية ومبدأ وغاية الحياة السعيدة. بطريقة ملموسة يمنح هذا الامتلاء باللذة وغياب الاضطراب حياة بسيطة بلا تخفي ومكتفية بذاتها. هكذا ترك لنا أبيقور نظرية في الطبيعة هي بمثابة مزيجا بين الأفكار الطبيعوية التي جاء بها ما قبل السقراطيين يرد بها على أفلاطون وأرسطو وقد مثل بذلك الممهد الأول لتيار التقهقر ولفيزياء الكوانتية التي كان مفهوم اللاتحدد مركز ثقلها.
4- الطبيعة هي نظام عقلاني عند الرّواقيين:
إذا كان الرواقيون توصلوا إلى نفس النتائج الإيتيقية التي أقر بها الأبيقوريون وإذا كانوا قد تمسكوا بالحياة وفق نظام الطبيعة ليجلبوا السعادة فإنهم انطلقوا من مقدمات كوسمولوجية متعارضة جذريا مع منافسيهم.
لا توجد ذرّات ولا خلاء عند الرواقيين وإنما مادة تنقسم إلى ما لانهاية ويوصف الكون بأنه متصل وممتلئ برمته والآية على ذلك أنه كائن أو عضوية حية تسكنها روح وتقوم هذه الأخيرة بالنفاذ ومنح الهواء لكل مكوناتها. كما ترفض الرواقية فكرة الصدفة وتتصور العالم في صورة كلية عقلانية خاضعة لنظام متعنت وصلب يسميه كريزيب (281 -205 قبل الميلاد) القدر من خلال تناسج في الأسباب أي نظرة حتمية تكون فيها الأحداث متصلة بواسطة لحمة متشكلة سلفا. على هذه المرتكزات تدعو الإيتيقا الرواقية إلى العيش في توافق مع الطبيعة وهذا يعني أولا أن يحيا المرء في توافق مع طبيعته الفردية وأن يحيا ثانيا في توافق مع الطبيعة الكونية للكل حيث نكون أفراد وعناصر منها. تصادر الرواقية على تناغم بين الطبيعة الكونية والطبيعة الفردية وبالتالي التوافق مع القدر. مارك أوريل (121-180 بعد الميلاد) ينصص على هذا السر الأخلاقي في أفكاره حينما نقد فيزياء أبيقور التي اختزلت العالم إلى فوضى عمياءBouillie informe ولما أضاف معنى الواجب إلى مطلب اللذة وأكد على أن "الخاص في الإنسان الخير هو أن يحب ويقبل على ما يحدث له بفرح". من الممكن أن يجلب القدر للإنسان الأحداث السيئة ويدير له ظهره ولكن الحكيم الرواقي يؤثر الصمت ويرضى بحاله. تلك هي العقيدة الرواقية لمحبة القدر - التي ندد بها نيتشه – وذلك هو الرضا بنظام العالم الذي يسمى طبيعة.
5- الطبيعة هي أثر الله عند توما الأكويني1225-1274 والمسيحية:
لقد خلق الله الذكر والأنثى في اليوم السادس بعد العالم والكائنات، وأمرهم بالخصوبة والتكاثر وتعمير الأرض والهيمنة على الأسماك في البحار وعلى الطيور في السماء وكل بهيمة تمشي على الأرض. لقد قطعت المسيحية من خلال قصة الخلق بشكل عميق وجذري مع الفكر الإغريقي. لقد تصورت الطبيعة على أنها مخلوقة وحادثة وليست كائنا أبديا ولا ضروريا وإنما تمتلك بداية ونهاية (الآخرة). ولقد أخرجها الله المتعالي والموجود خارج إبداعاته من العدم ومنحها الوجود. بعد ذلك تختلف المسيحية مع الإغريق في القيمة الممنوحة إلى الإنسان فهو لم يعد مجرد كائن طبيعي مطالب بالخضوع إلى نظام الكون بل أصبح كائنا مشرفا ويمثل استثناءا بالمقارنة مع بقية الكائنات الطبيعية الأخرى بما أن صورته على أحسن تقدير وتم المناداة عليه لكي يكون مهيمنا على الطبيعة. لما كان العالم وقع تسخيره من قبل الله لكي يديره الإنسان فإن هذا الأخير لم يقتصر على ذلك وإنما امتلك طموحات وغايات مابعد طبيعية. بهذا المعنى يكشف عن نظام الرحمة ويتوق إلى حياة الخلود المقطوعة عن الكائن هنا. لقد لخص القديس توما الاكويني هذه العقيدة من خلال ما يلي: لقد أراد الله الواحد العاقل والطيب نظاما للعالم وكل الأشياء في هذا الكون خاضعة للعناية الإلهية بينما عظمة الإنسان وتفوقه تكمن في العقل والفكر والقدرة على معرفة ومحبة الله من حيث هو هدف سام للحياة. في حين أن الكائنات الأخرى تظل تحت تصرفه وعلى ذمته يستخدمها مثلما يشاء. بيد أن وضع الطبيعة تحت سلطة الإنسان هو إقرار ضمني بشكل مفارق على تحضير الأرضية لتشكل المرحلة الموالية والتي ستسمى الحداثة التي لن تعتمد على طريق الدين بل طريق العلم.
6- الطبيعة هي امتداد يمكن عده عند رونيه ديكارت:
تحولت الطبيعة مع الفيزياء الحديثة إلى موضوع للبحث وذلك قصد نمذجتها وبلورة قوانين تفسرها.
لقد عبر غاليلي باكتشافه قانون السقوط الحر للأجسام عن هذا التحول الجديد حينما صرح بأن الكون اللانهائي مكتوب بلغة رياضية. في نفس الاتجاه قام ديكارت بتحريك المسألة نحو نقطة أكثر عمقا حينما صرح في كتاب العالم:" لا أعني بالطبيعة بعض النوع الآخر من القوة الخيالية وإنما أستخدم هذا اللفظ للإشارة إلى المادة عينها". بيد أن المادة عند ديكارت هي الامتداد وقد أدرك بواسطة الرياضيات الكلية.
الطبيعة هي مجموع الأجسام الممتدة حسب الطول والعرض والعمق أو الارتفاع وكل ما يتم إنتاجه يمكن تفسيره بواسطة حركة الأجزاء الجسم التي تخضع بدورها لعلاقات السبب والأثر. إن الفيزياء الديكارتية هي فيزياء ميكانيكية تحمل نظرة سببية وتجعل من العالم آلة كبيرة يشبه الساعة التي تدور عقاربها بدقة.
هذه العقلنة الجذرية ليست تأملية بل تمر بسرعة إلى الممارسة والتطبيق وتستنجد بالتجارب للتثبت من صحة النظريات. لقد كتاب ديكارت في خطاب عن المنهج أننا بواسطة المعرفة العلمية يمكننا أن نصبح سادة ومالكين للطبيعة. لقد دعا ديكارت إلى التخلص من علاقة الخضوع الأعمى للطبيعة التي حملت بصمة برمثيوس ضمن مشروعه الإنسانوي الفاشل وتشييد علاقة السيطرة والتملك على قاعدة المعرفة الفزيائية والتقنيات والوسائط في سبيل المحافظة على الحياة. بهذا المعنى كانت الحداثة الغاليلية- الديكارتية ثورة كوبرنيكية: إذا كانت الطبيعة عند الإغريق قوة مستقلة يتعلق بها الناس استجداء للعطاء فإن الإنسان الحديث يقطع جزء من الطبيعة قصد دراسته بطريقة مجردة ويربطه بأهدافه الخاصة.
7- الطبيعة هي كنز مطمور عند جان جاك روسو:
ان نداء الطبيعة عند روسو هو بمثابة صوت من القلب ونجوى تمتلك قيمة البيان، إذا يصرح في كتابه الكبير ايميل:"إذا كانت الطبيعة لا تمنحني إلا التناغم والتناسب فالنوع البشري لا يمنحني إلا الخلط والفوضى". بناء على ذلك الحضارة هي العدو لكونها تفسد الإنسان وتبعده بطريقة لا تعالج عن التكوين الأصلي. لهذا فإن الحداثة عند روسو متعارضة والطبيعي تم قنصه واصطياده ولإنقاذ ما تبقى يجب العودة إلى العصر الذهبي. لذلك يفترض الهجوم المضاد استعادة المفقود وفي هذا الصدد بلور روسو في الخطاب الثاني نوعا من الخيال سمي بحالة الطبيعة وقد قال عنها هي لم توجد البتة ولا يمكن أن تكون قد وجدت ومن المحتمل أنها لن توجد. غير أنه احتاج إلى هذه الفرضية لكي يصف الوضع البشري قبل أن يعمه الفساد من كل ناحية وأن يمجد البراءة الأخلاقية والطهارة والخيرية وأن يشيد بالهدف السامي للإنسان نحو المحافظة على ذاته. فهل يجب العودة إلى هذه الحالة البدائية المثالية؟
لا يدعونا روسو إلى العودة للحياة في العابات مع الدببة والذئاب ولكنه ينادي علينا بأن نعيد إلى المؤسسات البشرية الأوجه الطبيعية في حد ذاتها وأن نجعل التربية تتم وفق الطبيعة من أجل تشكل كائنات مستقلة وفاضلة ولا يتم ذلك بترك المتعلمين على عفويتهم بل بإيقاظ ملكاتهم وجعلها على اتصال مباشر مع العالم والتعبير عن الإحساس بالطبيعة الحقيقية التي لا نرجع إليها بواسطة المعادلات الرياضية وإنما عن طريق العاطفة الجياشة والشعور الصادق والاتصال المباشر والإصغاء العميق لحركاتها وسكناتها. والحق أن قنص اللذة والتمتع باللحظة بلا طموح علمي يعني صيرورة الكائن البشري مشاهدا للطبيعة فتصبح الطبيعة هي الكنز الذي فقده والبوصلة التي تسمح له بالعثور على ينابيع الحياة والفرح والسعادة[1].
8- الطبيعة هي غابة أدغال لا ترحم عند شارلز داروين:
لقد تتبع شارلز داروين عالم الحشرات والأسماك وأسس مفهوم التطور ضمن نزعة طبيعية استفادت كثيرا من اللاهوت الطبيعي وأقر بأن الوجود الطبيعي للكائنات يتصف بالتعقد وتكيف الأعضاء مع الوظائف ويشهد بين الفينة والأخرى حدوث خلق مكتملا وحسنا خارج إطار نظرية الغائية الأرسطية والعقل الفعال.
يرفض داروين اللوحة المتناغمة التي تقدمها التيولوجيا الطبيعية ويكشف عن تطور الأنواع ووجود أشكال كثيرة من الغرابة والخبث في الطبيعة وبالتالي يتخلى عن المخطط الإلهي البدئي وفكرة التصميم المسبق.
على خلاف ذلك يندلع الصراع في الطبيعة ويشكل الصراع الكوني من أجل البقاء المحرك الأساسي للتطور وينتصر في هذه المعركة الدامية الكائنات العضوية التي تمتلك استعدادات طبيعية على التكيف مع التغيرات في أصل الأنواع. لكن الكثير من الكائنات قد تحافظ على حياتها عن طريق الصدفة وتورث هذه الاستعدادات إلى سلالتها وقد تحصل طفرة لكائنات ثانية دون تفسير سببي ونتيجة تغيرات غير مفهومة.
إن النزعة الميكانيكية العمياء التي يعتمدها داروين حينما يقر بأن المحافظة على البقاء من طرف بعض الكائنات قد يتم بالبقاء للأقوى والانتخاب وأن الأصلح يتحقق بإحداث تغيرات نافعة وتجنب تكييفات عقيمة تحطم منظور الغائية العقلية وتميط اللثام عن الرؤية العلمية للطبيعة من وجهة نظر بيولوجية تطورية.
9- الطبيعة هي نسق بيئي متوازن عند ألدو ليوبولد:
لقد بين مهندس الغابات الأمريكي ألدو ليوبولد أن الصياد الذي يعرف طرق الصيد لن يجهل شيئا عن مسالك الحيوانات في الغابات وفسر كيفية تأثر التفكير الايكولوجي بالصيد ومعرفة عادات فريسته بوضع نفسه مكانها وكان أول الدروس التي قدمها هي التعلم من وجهة نظر الحيوان والإنصات إلى أصوات الكائنات الحية التي تسكن الغابات والجبال والأودية والبحار. يوجد في الطبيعة نسق بيئي متوازن يقوم بوظائف مخصوصة وفق قوانين مضبوطة في شبكة علاقات منظمة وتأثيرات متبادلة بين العناصر المكونة. وتتمثل لعبة الطبيعة في تحديد ماهو نافع وتجنب ماهو ضار بالنسبة للوسط الطبيعي المعطى.
على هذا النحو يدعو ألدو ليوبولد الى تأسيس إيتيقا الأرض تحرص على العناية بحياة الحيوانات والنباتات وتعمل على بلورة توازن في الأرض وتفرض على الجماعة الحياة المشتركة واحترام التعددية الطبيعية.
صحيح أن ألدو ليوبولد يتبنى نظرة براغماتية ولكن الأصح أنه لا يدعو إلى تقاسم الطبيعة والثقافة بشكل عام، ولا يحلم بطبيعة خالية من كل ضرر إنساني وأنه لا يدين بشكل مطلق كل تدخل بشري في الطبيعة.
ما يراهن عليه ألدو ليوبولد هو البقاء في مستوى الاستخدام النافع ومحافظة الأنشطة البشرية على مصالح المحيط وسلامة البيئة من كل تخريب. بهذا المعنى تكون الإيتيقا محلية وتحمل أمرا كونيا على غرار العثور على الشجرة التي يمكن قطعها من أجل تحقيق أرض طيبة. في النهاية تتصف جماعة الحياة البيئية بالاستقرار والجمال والأصالة وكل شيء يظل عادلا طالما تمت المحافظة على الحياة والبيئة والطبيعة.
10- الطبيعة هي مخزون من الموارد لا ينضب عند مارتن هيدجر:
على حافة نهر الرهين يربط قنطرة قديمة من الخشب بين الضفتين. في الجهة المقابلة يوجد مجمع مركزي على أحسن تقويم. هم بنايتان تشكلان صلتين على درجة شديدة من الاختلاف من الطبيعة. إذا كانت القنطرة تسري في الوجوه وتسمح بالتأمل والسكن فإن المجمع المركزي يستثمر مياه النهر لينتج الكهرباء.
حينما تساءل هيدجر عن التقنية في محاولات ومحاضرات فإنه أشار إلى أن التقنية في الحقبة المعاصرة تم الاحتفال بها بشكل تام وتحظى بالقبول من طرف الجميع أما الطبيعة فقد ظلت تعتبر ميدان لاستخراج الطاقة ومراكمتها . لقد وقع التفكير في التقنية على أنها اليد المسلحة للعلم الموروث عن غاليلي وديكارت والتصق بها مصطلح مركب يسمي القشطلت وينقسم إلى مخزون واحتياطي للموارد المتاحة للتحويل والاستهلاك المباشر . في هذا الصدد الإنسان الذي ينظر إلى نفسه كسيد للأرض لم يعد يرضى بمعاملته كمادة يمكن استغلالها بل صار يحمل في داخله منظورا تراجيديا بالحياة. علاوة على أن التقنية الحديثة تحولت الى خطر مطلق يحدق بالحياة ويصيب الوجود بالتصحر والعدمية. بناء على ذلك ظهرت الأفكار الأساسية عن البيئة والايكولوجيا لدى هيدجر. صحيح أن الأسلوب الهيدجري يذكرنا بالمفكرين ما قبل السقراطيين والشعراء وبالتالي يوجد في مكان بعيد عن ناشطي البيئة ودعاة السلام من الخضر ولكنه يتفق مع هودرلين في العبارة الشهيرة: " حيث يكون الخطر يعتقد في وجود المنقذ" . غاية المراد من كتابه الوجود والزمان هو الإسراع بتطوير تصور غير أداتي للطبيعة وإعادة وصل الإنسان حقيقته الأصلية التي تربطه بالبعد الأكثر قربا من الوجود والتي تخفيها العدمية الميتافيزيقية للتقنية في كل يوم.
11- الطبيعة هي شبكة من التفاعلات عند آرنو ناس:
دعا الفيلسوف النرويجي آرنو ناس 1912-2009 إلى مواجهة التلوث وايقاف عملية استنفاذ الموارد الطبيعية وقدم تصورا سطحيا للايكولوجيا حيث الهدف الرئيسي يكمن في استهداف الصحة والنماء للدول المتطورة. بعد ذلك جذّر آرنو ناس أطروحته في مقال ظهر للعيان عام 1973 بعنوان الايكولوجيا العميقة.
اذا كانت الايكولوجيا السطحية تقتصر على توجيه التحذيرات والتنبيه على المخاطر المنجرة عن الإفراط في استغلال الثروات وتكرر الاعتداءات على أديم الأرض وتلويث المحيط واستنزاف الطبيعة فإن الايكولوجيا العميقة تجري محادثة منظورية مع الطبيعة وتبلور شبكة تمنح لكل كائن حي رابط وتضمه مع الآخر في علاقات متداخلة ضمن حقل مليء بأشكال التفاعلات والتعايش والتآنس. غير أن هذا التصور المستحدث يعيد تشكيل التمركز الأنثربولوجي بالرغم من كونه ينفي أن يمثل الإنسان مملكة داخل مملكة ولكنه مطالب بالإصلاح الذاتي من أجل بلوغ حياة تشاركية مع العالم الذي يحتويه. لقد أدت هذه الأفكار إلى بروز تيار فكري جديد يقر بأن كل أشكال الحياة تمتلك قيمة داخلية وحق متساوي في البروز وبالتالي لا يجب اعتبارها وسائل لتحقيق أغراض أخرى وإنما هي أهداف في حد ذاتها . لقد مثلت الايكولوجيا أسلوب حياة وشجعت على الحياة المشتركة للكائنات الحية ضمن اطار جماعي يحترم الفردية.
إن هذه النزعة المساواتية في حقول الحياة تقبل بعض الاخلالات والتدخلات حيث يسمح للانسان بأن يقتل حيوانا نعينا من أجل المحافظة على التوازن البيئي أو عندما لا يمكن توفير غذاء كاملا ودائما في محيطه.
ان مبدأ انجاز عين الذات الذي يتحدث عنه آرنو ناس يشرع للإنسان الارتفاع ومغادرة الأراضي المنخفضة للأنا الفردي وتوسيع دوائر الوعي إلى حد التطابق التام مع الكل الطبيعي والطبيعة الكلية. كما تدعو الايكولوجيا العميقة إلى العناية الكونية بعين الذات وتطوير فكر رواقي جديد للطبيعة يصطبغ بالتصوف والتجريد في حين تظل الايكولوجيا السطحية غير كافية من أجل وزن مجري الأحداث.
12- الطبيعة هي الأرض الأم عند جايمس لوفيلوك:
إذا نظر إلى الكوكب من السماء فإن الصور الأولى التي نحصل عليها تثير فيها الهلع والاستغراب وتتراءى لنا الأرض ضائعة وسط الغموض والعماء. على هذا الأساس حدس رجل العلم البريطاني جايمس لوفيلوك1919 حياته البحثية وتصور الأرض على شاكلة جسم فريد وكائن حي وبالتالي استعاد الفكرة الإغريقية القديمة التي تتحدث عن الأرض الأم وأمنا الأرض والتي عبرت عنها كلمة غايا Gaia. بيد أن جايمس لوفيلوك لا يقوم بتأليه الطبيعة كما هو الشأن مع الإغريق بل قاده طموحه العلمي إلى الفكرة التوجيهية التي تقول بأن الأرض حية وبأن تمتلك القدرة على المحافظة على خصائص الحياتية للكوكب.
الغايا Gaia هي نسق تام ينظم ذاته بنفسه ضمن تفاعلات دائمة بين أجسامه الحية في حين تحافظ الأجسام غير الحية مثل التربة والأحجار على حرارة متوسطة وتركيبة كيميائية للمناخ تكون مواتية للبقاء على قيد الحياة. لقد ساعدت هذه التوازنات المحبذة النوع البشري على العبث بالكون من خلال الفلاحة والصناعة والتمدد العمراني ولكن الأرض لم تجب على ذلك بل دخلت البشرية في حرب منظمة ضد الغايا Gaia.
لا يريد جايمس لوفيلوك شخصنة الأرض بأن يسقط عليها العديد من المشاعر الإنسانية والأفكار المجردة ولكنه يحذر من الخطر الداهم بقوله: حالة تدحرج حقيقية تنتظرنا إذا لم يقم البشر بإحداث تغيير جذري في طريقة تعاملهم مع الطبيعة وإذا لم تطرأ أشياء جديدة. ماذا لينا أن نفعل ؟ يتساءل هذا العالم البريطاني والجواب هو الذهاب إلى ما بعد الاختزال والحد من انبعاث الغاز ثاني أوكسيد الكربون والتجارب النووية والتحكم في التزايد البشري والتقليص من تمدد الكثافة السكانية على الجانب الأخضر من الكوكب.
الحل يكمن في جعل كل من العلوم والتقنية البشر خادمين للطبيعة بدل مسيطرين عليها ومستغلين لثرواتها وذلك بأن يعطوا الأولوية المطلقة للديبلوماسية الإنسانية وتحمل المسؤولية في إجراء حوارات مع الطبيعة بغية نشر ثقافة السلام والحياة بهدوء وطمأنينة في الأرض وتحقيق مصالحة مع فكرة أمنا الأرض Gaia.
المصدر:
Philosophie Magazine, La Nature a-t-elle toujours raison ?, N°94, Novembre, 2015. pp.49-53.
[1] Philosophie Magazine, La Nature a-t-elle toujours raison ?, N°94, Novembre, 2015.pp.49-53.
0 comments:
إرسال تعليق