وَلَيْسَ بِحُرً مَنْ إذَا رَامَ غَايَةَ ً***تَخَوَّفَ أنْ تَرْمِـــي بِهِ مَســـْلَكَاً وَعْـرَا
وما أنتَ بالمعطي التّمرّدَ حقّهُ *** إذا كنتّ تخشى أنْ تجوعَ وأنْ تعرى
وهلْ غيرّ هذا ترتجي من مواطن ٍ**تريدُ على أوضاعها ثورة ً كبـــرى
مرّ عليك في حلقتنا الأولى عن جواهرينا أنّ ولادته الميمونة كانت في (26 تموز 1899م / 17 ربيع الأول 1317هـ) ، وعلى أغلب الظن ما دوناه هوالأصح ، رغم ما نقل الدكتور عبد الرضا علي وغيره عن (فرات الجواهري) النجل الكبيرللشاعر الأكبر ، إنّ الأخير فتح عينه للحياة في " 23 /7/ 1895م وكلُّ ما عداه ليس صحيحاً " (1) ، ولماذا رأينا الأصوب ؟ لئنَّ ولادة أخ الشاعر الأكبر عبد العزيز ، الذي يزيده تسع سنوات عمراً ، كانت في (1308 هـ / 1890م) ، وفق ما ثبتها السيد جعفر الحلي الشاعر الشهير (توفي 1315 هـ /1897م) في بيتيه الآتيين اللذين توجه بهما إلى والده الشيخ عبد الحسين الجواهري ( 1281 هـ / 1864م -- 1335 هـ / 1916م) :
بشراكمُ هذا غلامٌ لكمْ***مثل الذي بشر فيهِ (العزيزْ )
سمعاً أباه أنّ تاريخه ** أعقبتْ يا بشراكَ عبد العزيزْ
ومن الجدير ذكره أنّ الشيخ علي الشرقي الشاعر الشهير ، هو ابن عمّة الجواهري، تربيا معاً في بيت واحد بداية حياتيهما ، ويعتبر الأخ الأكبرللجواهري ، ولد أيضا سنة (1890 م) ، بعد عبد العزيز بعدة أشهر ، والجواهري يزعم أنه أصغر من أخيه (العزيز) اثنتي عشرة سنة (2) ، وهذا أيضا غير دقيق ، والدقيق ما دونه الباحث القدير الشيخ جعفر محبوبة في (ماضي النجف وحاضرها) بالتاريخ الهجري، وحوّلناه إلى التاريخ الميلادي ، و اعتمدناه بعد جهد وتدقيق ، خلف الشيخ عبد الحسين الجواهري أربعة أولاد وبنت واحدة ، وحسب التسلسل العمري ، من الكبير إلى الصغير : عبد العزيز - محمد مهدي (الشاعر) - هادي (المنتحر 1917م) - أختهم المدفونة في السيدة زينب - الشهيد جعفر (ت 1948).
ثم ماذا..؟ نعود والعود أحمد ! لماذا رصّع شيخنا هذين البيتين المعبرين بادئاً ذي بدء :
أزحْ عن صدركَ الزّبدا ***ودعهُ يبثُّ ما وجدا
وخلِّ حطـــــامَ مَوْجدةٍ *** تناثرُ فوقــــهُ قصَدا
تعال معي لنتحادث خاطفاً ، والحكم لله ... يرى الجواهري أنّ مابين عمامه أجداده وجذوره الدينية ، وعراقة عائلته النجفية وتطلعه الأدبي - وإلاّ لم يكن هو سوى معلم بسيط - وبين " ملف..ساطع بك " يقصد ساطع الحصري (1) وبعض الملتفين حوله ،أزمة كبرى ، طرقت أبواب عصبة الآمم ، وكتب عنها مَنْ كتب من كبار السياسيين والكتاب ، بما فيهم الحصري نفسه ، لذلك يقتضي الرد عليها ، بل الأفاضة فيها ، فأطال ونعتهم بوصف قاس ٍمرير ، نتركه لـ (ذكرياتي) ، فالرجل متأزم منها حتى الممات ، أمّا الشعرة التي قصمت ظهر البعير ، والسبب الذي أدلع نيران الحرب بينهما بيت شعر ورد في قصيدة مشحونة بالحنين إلى العراق إبان زيارته الثانية إلى إيران (1926م) مطلعها :
هبَّ النسيبُ فهبتِ الأشـــــواقُ*** وهفا إليكمْ قلبُهُ الخفـّــــاقُ
والبيت القضية ، أوالأزمة المستعصية يقول :
لي في العراق ِعصابة ٌ لولاهمُ *** ما كان محبوباً إليَّ عراقُ
وهل العراق إلا بأهله؟ وهل الإنسان إلا بالإنسان ؟ ! ألم يقلْ قيس ليلى من قديمٍ :
مرررّتُ على الديار ِديار ليلى****أقبلُ ذا الجدارا وذا الجدارا
ومـــا حبُ الديار ِ شغفنَ قلبي *** ولكنْ حبّ مَنْ سكنَ الدّيارا
وأيضاَ الأستاذ (ساطع الحصري) ، لم ينسَ المشكلة حتى وفاته ، وذكرها في ( مذكراته ) الصادر سنة 1967م ، ما كان لهذه القضية التي تقاذف بها الطرفان بتهمتي الشعوبية والطائفية ، أنْ تأخذ هذا المدى الواسع , لولا الجذور التاريخية المريضة لحالة العراق والأمة الإجتماعية ، وتطرق إليها العالم الإجتماعي الدكتورعلي الوردي في العديد من مؤلفاته القيمة.
وربّ ضارة نافعة ، وربَّ نافعة ضارة ! دفعت هذه المشكلة الشيخ (جواد الجواهري ) ، أن يفاتح الشخصية النافذة في الحكم و البارزة في المجتمع السيد (محمد الصدر) لحلحلتها ، فتدخل لدى الملك (فيصل الأول ) ، وتمّ تعيين الشاب المعمم النحيف ، والأديب اللطيف ، ابن الثامنة والعشرين - وإنْ ذهب الشاعر للتصغير ! - في البلاط الملكي ، وذلك سنة 1927م ، وهذه المرحلة ربما يراها شيخنا جديرة بالتدوين ، وفاءً لصاحب الجلالة ، ومباهاة ً بزهو الإنتصار، وانتقالا لواقع حال ٍجديد فوجد نفسه بين دهاليز السياسيين ، ومجالس الأنس، ومنتديات الأدب ، العمامة على رأسه ، وبين يديه كأسه ، رمى العمامة وركب الهول :
وأركبُ الهول في ريعان ِ مأمنةٍ*** حبّ الحياة بحبِّ الموتِ يغريني
نعم مرحلة مهمة في حياته ، وضعته بين بين ، وعلى مفترق الطرق ، بين إرضاء الحكّام ونزواتهم ، أوالوقوف مع إرادة الجماهير وتطلعاتهم ، معادلة صعبة ، وتوازن رهيب ، ولحظات حرجة ، تارة ً يعترف بتقصيره :
تحوّلتُ من طبع ٍ لآخرِ ضدهُ ***من الشيمةِ الحسناءِ للشيمةِ النكرا
ومرات يتمرّد على نفسه ، وينتفض طافرا لسبيله :
وليس بحرً مـــنْ إذا رامَ غايـةَ ً***تخوّفَ أنْ ترمي بهِ مســـلكاً وعـرا
وما أنتَ بالمعطي التّمرّدَ حقـهُ *** إذاكنتّ تخشى أنْ تجوعَ وأنْ تعرى
وهلْ غيرّ هذا ترتجي من مواطن ٍ**تريدُ على أوضاعها ثورة ً كبـــرى
فمن ثورته الجواهرية الكبرى قصيدته (الرجعيون) التي نظمها سنة (1929) ، إثر المعارضة المتشددة لفتح مدرسة للبنات في مدينته ، مدينة النجف الأشرف ، ونشرتها جريدة (العراق) ، ولم يُرعبها ( لصوصٌ ولاطة ٌ وزناة ُ) ، وبعدها ( جربيني ) من (ضد الجمهور... في الدين ) إلى (بداعة التكوين) ، و (النزغة) من (أصفق كاسه ) حتى ( يُملي " طباقه !" و " جناسه" ) ، ما هكذا العهد بين الطرفين ، وشتان بين (البلاط) و ( الملاط) !!
فما كان ( الثائر) بقادر ٍ على الترف المقيد ، و العرف المزيف ، فطفر من البلاط الملكي اللطيف إلى الصراط الصحفي المخيف، فطغت عليه صحيفته (الفرات ) ( منتصف 1930) ، ولم تتجاوزعشرين عددا منها حتى غلقت أبوابها أمامه ، وبعد الفوات لم يرَ نفسه إلا بين المحاكم والغرامات ، والمشاحنات والعداوات ، ومهنة المتاعب والتيارات حتى أوائل الستينات ، وما بينهما عاش الفاقة والحصار لثلاث سنوات ، إذْ ضمّه ( جلالته) تحت رحمة قائمته السوداء ! :
فمن عجب ٍأنْ يمنح الرزق وادعٌ ***ويمنعهُ ثبت الجنان مغامرُ
وما هذا بعجبٍ ، وإنمّا سنـّة الخلق ، وطبيعة الحياة ، ولا تذهب بك الظنون - أنت أيّها القارىء الكريم - إلى أنّ الصحافة وحدها سبب هذا البلاء ، صاحبنا الشيخ الكبير كان يحركه دافعٌ غريزي قوي للعيش بلذة على حافة الخطر ، وهاوية القدر ، فهو على هذا الحال،يركض نحو الأهوال ، فينظم (حالنا اليوم أو في سبيل الحكم) ، وهي قصيدة قاسية ومريرة ضد الحكم القائم حينذاك ، عندما إندلعت نيران المعارك المؤلمة بين عشائر الفرات الأوسط بتحريض من الساسة الكبار عام 1935م ، إذْ كانت وزارة (ياسين الهاشمي) الثانية في أوج عنفوانها :
ولم يبقّ معنى للمناصب عندنا***سوى أنها ملك القريبِ المصاهر ِ
وكانتْ طباعٌ للعشائر ترتجـى *** فقدْ لوّثتْ حتى طباع ُ العشــــائر ِ
بالرغم من أنّ السيد الهاشمي كان مؤمناً بحرية الصحافة ، وصراحة القول - والحق يقال - ، ولكن ربما لإضطراب الأوضاع ، وخشية من تأجيج الأوجاع ، غُلقت الصحيفة الناشرة (الإصلاح) ، وأُقيمت الدعوى على الشاعر الثائر ، وصاحب الجريدة العاثر ، وبإيعاز ملعوب أجلت القضية ، ومن ثم أُلغيت الدعوى ، و استدعى الهاشمي الجواهري ليساومه على عضوية مجلس النواب ، مقابل دعم الأخير للأول ، أو سكوته على الأقل ، ورفض دولة الرئيس طلباً للشاعر بإيفاده للخارج بإلحاح ٍ فامتناع ! ، ولم يعلن اسمه كمرشح للمجلس، ولم تتم الصفقة ، ولا إيفاده المعشوق إيفاد ، ضيع المشيتين ، وبعد يوم من إعلان اسماء المرشحين ، يعلن الفريق ( بكر صدقي ) إنقلابه على (الهاشمي ياسين) ( تشرين الأول 1936م) ، ويُصدر شيخنا الشاب صحيفته ( الإنقلاب ) مناصرة ، بل ناطقة بلسان الإنقلاب ، فجبلته بُنيت لمساندة كل تمرد ، أو انتفاضة وطنية محقـّة ، أو ثورة شعبية صادقة ، فحسَبَ الجماعة المنقلبة من العادلين المحقين الصادقين ، ولم يخفت ظنـّه الحسن من بعدُ، حتى قال في ثورة ( 14 تموز ) :" جيش العراقِ ولم أزلْ بكَ مؤمنا " ، وما ( لم أزلْ ) إلا استمرارية (لما مضى ) ، لو كنتم تعلمون !! فلكلّ جديد لذة ورنـّة ، وبأنـّه " الأملُ المُرجى والمنى " !
ثمّ أنـّه عدَّ صاحبه الهاشميَّ قد نكث العهد معه ، وغدر به ، فواحدة بواحدة ! وكان ممن مدحه سابقا بقصيدة مطلعها :
عليكم وإنْ طال الرجاء المعوّلُ***وفي يدكمْ تحقيقُ ما يُتأملُ
وأنتمْ أخيرٌ فـــي ادّعاءٍ ومطمعٍ ٍ** وأنتمْ إذا عُدَّ لميـامين أولُ
ويبدو لك من العجيب ، قد رثاه أيضاً بعد وفاته ، ومما قال:
ناصبتُ حكمك غاضباً فوجدتني ***بأزاءِ شهم ٍ في الخصام ِ كريم ِ
كمْ فترةٍ دهتِ العـــراقَ عصيبة *** فرّجتها بدهائــــــــــكّ المعلوم ِ
ومن المعلوم أنَ (ياسين الهاشمي ) ، غادرالعراق إبان إنقلاب بكر صدقي ، متوجهاً إلى بيروت ،وتوفي فيها سنة 1937م ، ثم نقل جثمانه إلى دمشق ، ليدفن جنب ضريح صلاح الدين الأيوبي , وربما جاء الرثاء لرد الاعتبار أو شبه اعتذار ، أو كما قيل :
دعوتُ على عَمْر ٍفلما فقدتهُ ***بليتُ بأقوام ٍبكيتُ بكيت على عَمْر ِ
و( عَمرو ) تـُحذف واوها في الشعر عند تنوينها ، فحذفتها ، وحركتها ، المهم الحقيقة أنَّ الهاشمي ياسين - كان أخوه طه الهاشمي رئيساً لأركان الجيش في عهده، وإبان الانقلاب كان في زيارة للأردن - رجلٌ سياسي داهية باعتراف الجواهري نفسه ، يسيره عقله باتزان محسوب ، واللحظات الآتية مخطط لها من قبل، والشاعر لحظة الإلهام الشعري، يكون تحت هيمنتها تماما ، لا تخطيط مسبق ، ولا هم يحزنون ولا يفرحون !! لذلك هو صادق دائما في شعره مع نفسه، ومع مجتمعه ، إنْ عذر أو عذل، إن مدح أو هجا ، إنْ سخط أو رضى، وهذا ليس بتبرير ، ولكنه تحليل ، ولك أنْ تأخذ منه ما تشاء ، وأنا ذاهب للعشاء، عشية ليلة قمراء ، بعد عدة أيام من السنة الميلادية الغراء ( 2012م) ، لقاؤنا في الحلقة الخامسة إن شاء الله، والسلام !
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) موقع المثقف الأحد 7 /8 /2011 - الشاعر الذي قهرت حافظته الشيخوخة - مقال بقلم عبد الرضا علي.
(2)عبد نور داود عمران : البنية الإيقاعية في شعر الجواهري (مشروع رسالة دكتوراه - ص 7 - 8 .
(3) راجع الشيخ جعفر محبوبة : ماضي النجف وحاضرها ج2 ص 36 .
وما أنتَ بالمعطي التّمرّدَ حقّهُ *** إذا كنتّ تخشى أنْ تجوعَ وأنْ تعرى
وهلْ غيرّ هذا ترتجي من مواطن ٍ**تريدُ على أوضاعها ثورة ً كبـــرى
مرّ عليك في حلقتنا الأولى عن جواهرينا أنّ ولادته الميمونة كانت في (26 تموز 1899م / 17 ربيع الأول 1317هـ) ، وعلى أغلب الظن ما دوناه هوالأصح ، رغم ما نقل الدكتور عبد الرضا علي وغيره عن (فرات الجواهري) النجل الكبيرللشاعر الأكبر ، إنّ الأخير فتح عينه للحياة في " 23 /7/ 1895م وكلُّ ما عداه ليس صحيحاً " (1) ، ولماذا رأينا الأصوب ؟ لئنَّ ولادة أخ الشاعر الأكبر عبد العزيز ، الذي يزيده تسع سنوات عمراً ، كانت في (1308 هـ / 1890م) ، وفق ما ثبتها السيد جعفر الحلي الشاعر الشهير (توفي 1315 هـ /1897م) في بيتيه الآتيين اللذين توجه بهما إلى والده الشيخ عبد الحسين الجواهري ( 1281 هـ / 1864م -- 1335 هـ / 1916م) :
بشراكمُ هذا غلامٌ لكمْ***مثل الذي بشر فيهِ (العزيزْ )
سمعاً أباه أنّ تاريخه ** أعقبتْ يا بشراكَ عبد العزيزْ
ومن الجدير ذكره أنّ الشيخ علي الشرقي الشاعر الشهير ، هو ابن عمّة الجواهري، تربيا معاً في بيت واحد بداية حياتيهما ، ويعتبر الأخ الأكبرللجواهري ، ولد أيضا سنة (1890 م) ، بعد عبد العزيز بعدة أشهر ، والجواهري يزعم أنه أصغر من أخيه (العزيز) اثنتي عشرة سنة (2) ، وهذا أيضا غير دقيق ، والدقيق ما دونه الباحث القدير الشيخ جعفر محبوبة في (ماضي النجف وحاضرها) بالتاريخ الهجري، وحوّلناه إلى التاريخ الميلادي ، و اعتمدناه بعد جهد وتدقيق ، خلف الشيخ عبد الحسين الجواهري أربعة أولاد وبنت واحدة ، وحسب التسلسل العمري ، من الكبير إلى الصغير : عبد العزيز - محمد مهدي (الشاعر) - هادي (المنتحر 1917م) - أختهم المدفونة في السيدة زينب - الشهيد جعفر (ت 1948).
ثم ماذا..؟ نعود والعود أحمد ! لماذا رصّع شيخنا هذين البيتين المعبرين بادئاً ذي بدء :
أزحْ عن صدركَ الزّبدا ***ودعهُ يبثُّ ما وجدا
وخلِّ حطـــــامَ مَوْجدةٍ *** تناثرُ فوقــــهُ قصَدا
تعال معي لنتحادث خاطفاً ، والحكم لله ... يرى الجواهري أنّ مابين عمامه أجداده وجذوره الدينية ، وعراقة عائلته النجفية وتطلعه الأدبي - وإلاّ لم يكن هو سوى معلم بسيط - وبين " ملف..ساطع بك " يقصد ساطع الحصري (1) وبعض الملتفين حوله ،أزمة كبرى ، طرقت أبواب عصبة الآمم ، وكتب عنها مَنْ كتب من كبار السياسيين والكتاب ، بما فيهم الحصري نفسه ، لذلك يقتضي الرد عليها ، بل الأفاضة فيها ، فأطال ونعتهم بوصف قاس ٍمرير ، نتركه لـ (ذكرياتي) ، فالرجل متأزم منها حتى الممات ، أمّا الشعرة التي قصمت ظهر البعير ، والسبب الذي أدلع نيران الحرب بينهما بيت شعر ورد في قصيدة مشحونة بالحنين إلى العراق إبان زيارته الثانية إلى إيران (1926م) مطلعها :
هبَّ النسيبُ فهبتِ الأشـــــواقُ*** وهفا إليكمْ قلبُهُ الخفـّــــاقُ
والبيت القضية ، أوالأزمة المستعصية يقول :
لي في العراق ِعصابة ٌ لولاهمُ *** ما كان محبوباً إليَّ عراقُ
وهل العراق إلا بأهله؟ وهل الإنسان إلا بالإنسان ؟ ! ألم يقلْ قيس ليلى من قديمٍ :
مرررّتُ على الديار ِديار ليلى****أقبلُ ذا الجدارا وذا الجدارا
ومـــا حبُ الديار ِ شغفنَ قلبي *** ولكنْ حبّ مَنْ سكنَ الدّيارا
وأيضاَ الأستاذ (ساطع الحصري) ، لم ينسَ المشكلة حتى وفاته ، وذكرها في ( مذكراته ) الصادر سنة 1967م ، ما كان لهذه القضية التي تقاذف بها الطرفان بتهمتي الشعوبية والطائفية ، أنْ تأخذ هذا المدى الواسع , لولا الجذور التاريخية المريضة لحالة العراق والأمة الإجتماعية ، وتطرق إليها العالم الإجتماعي الدكتورعلي الوردي في العديد من مؤلفاته القيمة.
وربّ ضارة نافعة ، وربَّ نافعة ضارة ! دفعت هذه المشكلة الشيخ (جواد الجواهري ) ، أن يفاتح الشخصية النافذة في الحكم و البارزة في المجتمع السيد (محمد الصدر) لحلحلتها ، فتدخل لدى الملك (فيصل الأول ) ، وتمّ تعيين الشاب المعمم النحيف ، والأديب اللطيف ، ابن الثامنة والعشرين - وإنْ ذهب الشاعر للتصغير ! - في البلاط الملكي ، وذلك سنة 1927م ، وهذه المرحلة ربما يراها شيخنا جديرة بالتدوين ، وفاءً لصاحب الجلالة ، ومباهاة ً بزهو الإنتصار، وانتقالا لواقع حال ٍجديد فوجد نفسه بين دهاليز السياسيين ، ومجالس الأنس، ومنتديات الأدب ، العمامة على رأسه ، وبين يديه كأسه ، رمى العمامة وركب الهول :
وأركبُ الهول في ريعان ِ مأمنةٍ*** حبّ الحياة بحبِّ الموتِ يغريني
نعم مرحلة مهمة في حياته ، وضعته بين بين ، وعلى مفترق الطرق ، بين إرضاء الحكّام ونزواتهم ، أوالوقوف مع إرادة الجماهير وتطلعاتهم ، معادلة صعبة ، وتوازن رهيب ، ولحظات حرجة ، تارة ً يعترف بتقصيره :
تحوّلتُ من طبع ٍ لآخرِ ضدهُ ***من الشيمةِ الحسناءِ للشيمةِ النكرا
ومرات يتمرّد على نفسه ، وينتفض طافرا لسبيله :
وليس بحرً مـــنْ إذا رامَ غايـةَ ً***تخوّفَ أنْ ترمي بهِ مســـلكاً وعـرا
وما أنتَ بالمعطي التّمرّدَ حقـهُ *** إذاكنتّ تخشى أنْ تجوعَ وأنْ تعرى
وهلْ غيرّ هذا ترتجي من مواطن ٍ**تريدُ على أوضاعها ثورة ً كبـــرى
فمن ثورته الجواهرية الكبرى قصيدته (الرجعيون) التي نظمها سنة (1929) ، إثر المعارضة المتشددة لفتح مدرسة للبنات في مدينته ، مدينة النجف الأشرف ، ونشرتها جريدة (العراق) ، ولم يُرعبها ( لصوصٌ ولاطة ٌ وزناة ُ) ، وبعدها ( جربيني ) من (ضد الجمهور... في الدين ) إلى (بداعة التكوين) ، و (النزغة) من (أصفق كاسه ) حتى ( يُملي " طباقه !" و " جناسه" ) ، ما هكذا العهد بين الطرفين ، وشتان بين (البلاط) و ( الملاط) !!
فما كان ( الثائر) بقادر ٍ على الترف المقيد ، و العرف المزيف ، فطفر من البلاط الملكي اللطيف إلى الصراط الصحفي المخيف، فطغت عليه صحيفته (الفرات ) ( منتصف 1930) ، ولم تتجاوزعشرين عددا منها حتى غلقت أبوابها أمامه ، وبعد الفوات لم يرَ نفسه إلا بين المحاكم والغرامات ، والمشاحنات والعداوات ، ومهنة المتاعب والتيارات حتى أوائل الستينات ، وما بينهما عاش الفاقة والحصار لثلاث سنوات ، إذْ ضمّه ( جلالته) تحت رحمة قائمته السوداء ! :
فمن عجب ٍأنْ يمنح الرزق وادعٌ ***ويمنعهُ ثبت الجنان مغامرُ
وما هذا بعجبٍ ، وإنمّا سنـّة الخلق ، وطبيعة الحياة ، ولا تذهب بك الظنون - أنت أيّها القارىء الكريم - إلى أنّ الصحافة وحدها سبب هذا البلاء ، صاحبنا الشيخ الكبير كان يحركه دافعٌ غريزي قوي للعيش بلذة على حافة الخطر ، وهاوية القدر ، فهو على هذا الحال،يركض نحو الأهوال ، فينظم (حالنا اليوم أو في سبيل الحكم) ، وهي قصيدة قاسية ومريرة ضد الحكم القائم حينذاك ، عندما إندلعت نيران المعارك المؤلمة بين عشائر الفرات الأوسط بتحريض من الساسة الكبار عام 1935م ، إذْ كانت وزارة (ياسين الهاشمي) الثانية في أوج عنفوانها :
ولم يبقّ معنى للمناصب عندنا***سوى أنها ملك القريبِ المصاهر ِ
وكانتْ طباعٌ للعشائر ترتجـى *** فقدْ لوّثتْ حتى طباع ُ العشــــائر ِ
بالرغم من أنّ السيد الهاشمي كان مؤمناً بحرية الصحافة ، وصراحة القول - والحق يقال - ، ولكن ربما لإضطراب الأوضاع ، وخشية من تأجيج الأوجاع ، غُلقت الصحيفة الناشرة (الإصلاح) ، وأُقيمت الدعوى على الشاعر الثائر ، وصاحب الجريدة العاثر ، وبإيعاز ملعوب أجلت القضية ، ومن ثم أُلغيت الدعوى ، و استدعى الهاشمي الجواهري ليساومه على عضوية مجلس النواب ، مقابل دعم الأخير للأول ، أو سكوته على الأقل ، ورفض دولة الرئيس طلباً للشاعر بإيفاده للخارج بإلحاح ٍ فامتناع ! ، ولم يعلن اسمه كمرشح للمجلس، ولم تتم الصفقة ، ولا إيفاده المعشوق إيفاد ، ضيع المشيتين ، وبعد يوم من إعلان اسماء المرشحين ، يعلن الفريق ( بكر صدقي ) إنقلابه على (الهاشمي ياسين) ( تشرين الأول 1936م) ، ويُصدر شيخنا الشاب صحيفته ( الإنقلاب ) مناصرة ، بل ناطقة بلسان الإنقلاب ، فجبلته بُنيت لمساندة كل تمرد ، أو انتفاضة وطنية محقـّة ، أو ثورة شعبية صادقة ، فحسَبَ الجماعة المنقلبة من العادلين المحقين الصادقين ، ولم يخفت ظنـّه الحسن من بعدُ، حتى قال في ثورة ( 14 تموز ) :" جيش العراقِ ولم أزلْ بكَ مؤمنا " ، وما ( لم أزلْ ) إلا استمرارية (لما مضى ) ، لو كنتم تعلمون !! فلكلّ جديد لذة ورنـّة ، وبأنـّه " الأملُ المُرجى والمنى " !
ثمّ أنـّه عدَّ صاحبه الهاشميَّ قد نكث العهد معه ، وغدر به ، فواحدة بواحدة ! وكان ممن مدحه سابقا بقصيدة مطلعها :
عليكم وإنْ طال الرجاء المعوّلُ***وفي يدكمْ تحقيقُ ما يُتأملُ
وأنتمْ أخيرٌ فـــي ادّعاءٍ ومطمعٍ ٍ** وأنتمْ إذا عُدَّ لميـامين أولُ
ويبدو لك من العجيب ، قد رثاه أيضاً بعد وفاته ، ومما قال:
ناصبتُ حكمك غاضباً فوجدتني ***بأزاءِ شهم ٍ في الخصام ِ كريم ِ
كمْ فترةٍ دهتِ العـــراقَ عصيبة *** فرّجتها بدهائــــــــــكّ المعلوم ِ
ومن المعلوم أنَ (ياسين الهاشمي ) ، غادرالعراق إبان إنقلاب بكر صدقي ، متوجهاً إلى بيروت ،وتوفي فيها سنة 1937م ، ثم نقل جثمانه إلى دمشق ، ليدفن جنب ضريح صلاح الدين الأيوبي , وربما جاء الرثاء لرد الاعتبار أو شبه اعتذار ، أو كما قيل :
دعوتُ على عَمْر ٍفلما فقدتهُ ***بليتُ بأقوام ٍبكيتُ بكيت على عَمْر ِ
و( عَمرو ) تـُحذف واوها في الشعر عند تنوينها ، فحذفتها ، وحركتها ، المهم الحقيقة أنَّ الهاشمي ياسين - كان أخوه طه الهاشمي رئيساً لأركان الجيش في عهده، وإبان الانقلاب كان في زيارة للأردن - رجلٌ سياسي داهية باعتراف الجواهري نفسه ، يسيره عقله باتزان محسوب ، واللحظات الآتية مخطط لها من قبل، والشاعر لحظة الإلهام الشعري، يكون تحت هيمنتها تماما ، لا تخطيط مسبق ، ولا هم يحزنون ولا يفرحون !! لذلك هو صادق دائما في شعره مع نفسه، ومع مجتمعه ، إنْ عذر أو عذل، إن مدح أو هجا ، إنْ سخط أو رضى، وهذا ليس بتبرير ، ولكنه تحليل ، ولك أنْ تأخذ منه ما تشاء ، وأنا ذاهب للعشاء، عشية ليلة قمراء ، بعد عدة أيام من السنة الميلادية الغراء ( 2012م) ، لقاؤنا في الحلقة الخامسة إن شاء الله، والسلام !
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) موقع المثقف الأحد 7 /8 /2011 - الشاعر الذي قهرت حافظته الشيخوخة - مقال بقلم عبد الرضا علي.
(2)عبد نور داود عمران : البنية الإيقاعية في شعر الجواهري (مشروع رسالة دكتوراه - ص 7 - 8 .
(3) راجع الشيخ جعفر محبوبة : ماضي النجف وحاضرها ج2 ص 36 .
0 comments:
إرسال تعليق