بيتٌ من الآدابِ أصبح نصفهُ***خرباً وباقي نصفه فسيخربُ
ماتَ المبردُُ وانقضتْ أيامهُ**ومع المبردِ سوف يذهب ثعلبُ
وأرى لكم أن تكتبوا ألفاظـــهُ*** إذ كانت الألفاظ فيمــا تكتبُ
في هذه الحلقة عن المدخل لـكتابنا " نشأة النحو العربي ومسيرته الكوفية - مقارنة بين النحو البصري والنحو الكوفي " لا نريد الخوض في المسائل النحوية ، والخلاف الدقيق بين المدرستين ، وإبداء وجهة نظرنا الخاصة فيما دهبوا إليه أصحابهما ، وفلسفة التوجهات الخلافية والتوافقية بينهما تركناها للكتاب مع وجهة نظرنا ورأينا والترجيح المأمول ما في عقلنا حول العقول ، وإنما الآن كعادتنا في بقية مقالاتنا وبحوثنا نروم إلقاء نظرة على جهود عباقرة العرب وأفذاذهم وتفانيهم في سبيل إعلاء رفعة لغتنا الجميلة ، لأن اللغة هي وجه الأمة المعبر عن حضارتها وثقافتها وشموخها! فالموضوع ثقافي بنفحات علمية نحوية لكي لا يتجشم العناء القارئ الكريم ، وبتصرف غير قليل .
لما عاد المازني شيخ البصريين بعد أن سأله الخليفة الواثق عن سرِّ(رجلاً) في غناء جاريته ، ظهر شيخ الكوفيين أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الملقب (ابن السكيت ) ، كان معلماً للصبيان في قرية (دورق) بخوزستان ، ويرجح بروكلمان أنه آرامي الأصل ، والرجل درس على الفرّاء ، وأبي عمرو الشيباني ، وابن الأعرابي من الكوفيين ، كما أخذ عن الأصمعي وابن عبيد الأترم من البصريين ، وألتقط اللغة من أفواه الأعراب (1). وكانت مصنفاته الكثيرة مضرب المثل في الجودة والإتقان والثقة ، وقيل ما عبر على جسر بغداد كتاب في اللغة مثل (إصلاح المنطق) ،وعرف عنه إمام بنحو الكوفيين ، وعلم القرآن واللغة والشعر ، راوية ثقة ، وقد عدو علم الكوفيين منتهياً إليه ، وإلى ثعلب (2) ، وقال عنه ثعلب : " أجمع أصحابنا أنه لم يكن بعد ابن الإعرابي أعلم باللغة من ابن السكيت " (3) ، وكان المتوكل قد ألزمه تأديب ولده المعتز بالله ، وبعد تأديب هذا غدر به المتوكل وقتله على سبب لا يعقله عاقل ، وتناقله المؤرخون ، إذ أمره " بشتم رجل من قريش ، فلم يفعل ، وأمر القرشي أن ينال منه ، فنال منه ، وأجابه يعقوب
، فلما أجابه ، قال له المتوكل : أمرتك أن تفعل ، فلم تفعل، فلما شتمك فعلت ، وأمر بضربه ، فحمل من عنده صريعاً مقتولاً (244 هـ / 858 م) ، ووجه المتوكل من الغد إلى بني يعقوب عشرة آلاف درهم ديته " (4) ، هذا هو قضاء وقدر ابن السكيت أمام المتوكل...
لماذا يشتم رجلاً لم يشتمه ؟! وما الحكمة في هذا الشتم المبتذل ؟! لولا الأمر دّبر بليل - إن صحت رواية ابن الأنباري الكبير! - ولما نال هذا القرشي منه ، من المروءة أن يرد عليه ، بل يرد الصاع صاعين ، لامتناع ابن السكيت عن سبه أولاً ، ولرد الشتيمة بالمثل ثانياً ، فما بال المتوكل يقتله صريعاً ، وهو الذي أمره بتأديب (معتزه) ، وأين: وما جزاء الإحسان إلا الإحسان ؟! وعلم ذلك وحسابه عند ربك ذي الجلال والإكرام ، وهنالك رواية أخرى ينقلها (السيوطي) في ( بغية وعاته) (5)، عكفنا عن نقلها لما تتضمن من دوافع طائفية ، لا تصلح في هذا العصر المفترض أن نكون أكثر وعياً وإنسانية - إن صحت الرواية أيضاً - .
والحقيقة منذ عهد الواثق وقدوم المازني إلى بغداد كما ذكرنا ، أحدث تحولاً هاماً في تاريخ المدرستين من حيث التنافس على بغداد وقصورها ، وتحقيق الأمتيازات ، فقد بدأت الكفة تميل الآن إلى جهة البصريين ، وأصبحت ثقة بغداد تزداد بهم على حساب الكوفيين ، وخصوصاً بعد وفاة ابن الأعرابي (231 هـ / 846م )، ومقتل ابن السكيت ، إذ أخذ الخلفاء يستدعون البصريين للتحكيم في المسائل النحوية واللغوية، وممن استدعي (المبرد) البصري إلى (سر من رأى) سامراء حيث مقر الخلافة حين ذاك ، ثم إلى بغداد من قبل صاحب شرطتها ، ولكن اقتراب المازني في أرائه من الكوفيين ، واقتربَ الكوفيون أيضاَ منه لكثرة مادار من مناظرات جعلت كل فريق يتمعن ويتبصر ويعيد النظر في آراء الفريق الآخر (6) .
والمبر د هوأبو العباس محمد بن يزيد ينتهي نسبه إلى الأزد من ثمالة (211 هـ - 285 هـ / 826 - 898م ) ، إمام البصريين في عصره ، تلميذ أبي عثمان المازني، وأبي عمر 1الجرمي وأخذ عن أبي عثمان الجاحظ ، وأبي حاتم السجستاني ، وحضر مجالسه ونهل من علمه كبار علماء النحو واللغة والأدب أمثال الزجاج والصولي ونفطويه وابن السراج والأخفش الأصغر وأبي الطيب الوشاء ، وابن المعتز العباسي وغيرهم.
تنافس هو وثعلب إمام الكوفيين الآتي ذكره في عصرهما ، وقد سئل النحوي الشهير (أبو بكر بن السراج ) , صاحب كتاب (الأصول في النحو )،أيهما أعلم المبرد أم ثعلب ؟ فأجاب " ما أقول في رجلين العالم بينهما " (7) ، وللمبرد عدة مؤلفات أشهرها : ( الكامل في اللغة والأدب) ، وهو من أشهر كتب أدب العرب على مدى تاريخهم ، عدد مجلداته وصلت ثمانية في بعض الطبعات ، مدحه ابن الرومي بقصيدة طويلة (98 بيتاً) :
أضحت الأزد وأضحى بينها *** جبلاً وهي رعانٌ وريود
ويميناً إنك المرء الذي *** *حبه عندي سواء والسجود
والبحتري الأشهر في عصره والمتنفذ - وهو طبعاً من معاصريهما - داعيا لأخذ العلم منه ، فهوالكوكب المسعود:
نال ما نال الأميرُ محمد *** إلا بيُمن محمـد بـــــن يزيــدِ
وبنو ثمالةَ أنجمٌ مسعودة** فعليك ضوءُ الكوكب المسعودِ
واضح محمد بن يزيد وهو من ثمالة يعني به المبرد ، ولابد أنه كان يدرّس الكثير من أبناء الملوك , وأكرر مرة أخرى هذا المبرد الكبير هو الذي قبل يد دعبل ، ونقل عنه رواية رائعة ، باعتراف ابن المعتز العباسي وهو أيضاٍ ابن خليفة وشاعر وناقد كبير عاصرهما ، وذلك في كتابه ( طبقات الشعراء) .
وكان (ثعلب ) الكوفي موازياً له في العلم والشهرة والمكانة ، ثعلب أيضاً كنيته أبو العباس ، وهو أحمد بن يحيى بن زيد بن سيار الشيباني إمام الكوفيين في النحو واللغة ( 200 هـ - 291هـ /815م - 903م)، ولد في بغداد ونشأ وتوفي فيها إبان خلافة المكتفي ، ولكن مدرسته النحوية كوفية خالصة ، والدكتور المخزومي يقول : "أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب ثالث ثلاثة قامت على أعمالم مدرسة الكوفة النحوية ، وهو بغدادي المولد والمنشأ، وكان شيبانياًً بالولاء " (8 ) ، أما الآخران فهما الكسائي والفراء . وأخذ ثعلب عن محمد بن زياد الأعرابي , وعلي بن المغيرة الأثرم، ومسلمة بن عاصم، ومحمد بن سلام الجمحي وغيرهم ، وأخذ عنه أبو الحسن علي بن سليمان (الأخفش الأصغر) ، وابن عرفة وابن الأنباري ، وكان ثعلب ثقة ديناً مشهوراً بصدق اللهجة والمعرفة بالغريب ، ورواية الشعر القديم ، قال عنه المبرد " أعلم الكوفيين ثعلب " (9) ، مقدماً على الشيوخ وهو حدث ، وعلى ما يبدو مما ذكر تستشف ، إنه غير ميال للمناقشة والتحاور والمجادلة مع المبرد، ولكنه خطيب في المحاضرات بشكل عجيب ، ربما بديهته، وكثرة معلوماته ، لا تساعدانه على الرد السريع ، ولكنه سريع الحفظ خطيب من الطراز الأول ، فهو يصلح للمحاضرات ، لا الأخذ والرد السريع - والله أعلم- .
ويحدثنا التاريخ : إنّ أبا جعفر أحمد ابن إسحاق البهلولي القاضي الأنباري و أخاه البهلول " دخلا مدينة السلام في سنة خمس وخمسين و مائتين ، فدارا على الخلق يوم الجمعة، فوقفا على حلقة فيها رجل يتلهب ذكاءً، ويجيب على كلّ ما يسأل عنه من مسائل القرآن والنحو والغريب وابيات المعاني، فقلنا من هذا ؟ فقالوا : أحمد بن يحيى ثعلب " (10) , إذاً كان ثعلب يتلهب ذكاءً ، ولما مات المبرد ، وقد أوردنا سنة وفاته قبل ثعلب ، وقف رجل في حلقة ثعلب وأنشد :
بيتٌ من الآدابِ أصبح نصفهُ***خرباً وباقي نصفه فسيخربُ
ماتَ المبردُُ وانقضتْ أيامهُ**8ومع المبردِ سوف يذهب ثعلبُ
وأرى لكم أن تكتبوا ألفاظهُ*** إذ كانت الألفاظ فيمــا تكتبُ (11)
يتبين مدى أهمية اللغة إبان تطور الحضارة العربية، وعندما تزدهر الأمة تزدهر في جميع اتجاهاتها ، ثم ركز على عجز البيت الثاني والتمييز بين الكلام المكتوب ولفظ الكلام المنطوق حيث يتجسد غفى هيئة نبرات وموجات وترددات وتعبيرات وإشارات وانفعالات ، فالحق مع الشاعر إذ يقول (إذ كانت الألفاظ فيما تكتب).
بالرغم من قوة حفظه المشهور - وأقصد ثعلباً- كان يأخذ الكلام على عدة وجوه ، بارعاً في التعليل يذكر بلسانه :" كنت أصير إلى الرياشي لأسمع منه ، فقال لي يوماً ، وقد قـُرئ عليه :
ما تنقمُ الحربُ العوان مني***بازلُ عامين صغيرٌ سنـّي
كيف تقول: بازلُ أو بازلَ ؟ فقلتُ : أتقول لي هذا قي العربية؟ إنما أقصدك لغير هذا ، يروى بالرفع على الاستئناف ، والنصب على الحال ، والخفض على الأتباع فأستحيا وأمسك " (12) .
وهذه الحادثة التي وقعت بين ثعلب الكوفي مدرسة، والرياشي البصري سبقت سنة (259 هـ / 871م) ، لأن أبا القضل عباس الرياشي، وكان أسود قتل في ثورة الزنج في السنة المذكورة سابقاً ، وهو من جذام ، له ( كتاب الخيل) و (كتاب الأبل) ، وهذا (ثعلب) كان مقتراً على نفسه ، فجمع ثروة ، وله عدة مؤلفات : المصون في النحو، معاني القرآن ، اختلاف النحويين ، معاني الشعر ....نكتفي بهذا القدر الذي يعفيك من الضجر، ويريحني من السهر ، ولله من قبل ومن بعد الأمر !!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التفاصيل عن المراجع والمصادر موجودة في كتابنا " نشأة النحو العربي ..." بطبعتيه الأولى والثانية .
(1) راجع (نزهة الألباء ..) : ص 103 ، و (مراتب النحويين) : ص 95 ، و (وفيات الأعيان) : ج2 ص 408 (بولاق ) ، (الدراسات اللغوية...) د. محمد حسين آل ياسين ( مكتبة الحياة - 1980م - بيروت) ، كلها م . س .
(2) راجع (آل ياسين) : المصدر السابق .
(3) (مراتب النحويين) : المصدر السابق.
(4) ( نزهة الألباء) : ص 180 م . س .
(5) (بغية الوعاة ) :السيوطي عبد الرحمن ج2 ص 349 مطبعة عيسى الحلبي 1965م - القاهرة .
(6)(المدرسة البغدادية ) : ص 96 - 97 م . س.
(7) ( إنباه الرواة)ج1 ص 176 م . م .
(8) (مدرسة الكوفة ..) : د. مهدي المخزومي ط2 - 1958 - ط 2 - مصر.
(9) (نزهة الألباء) : ص 228 - 232م م. س .
(10) (طبقات النحويين واللغويين) : ص 138 م. س . ترجمة محمد بن قادم.
(11) (إنباه الرواة) : ج 1 ص 167 م . س.
(12) (بغية الوعاة) : ج 1 ص 396 م. س .
ماتَ المبردُُ وانقضتْ أيامهُ**ومع المبردِ سوف يذهب ثعلبُ
وأرى لكم أن تكتبوا ألفاظـــهُ*** إذ كانت الألفاظ فيمــا تكتبُ
في هذه الحلقة عن المدخل لـكتابنا " نشأة النحو العربي ومسيرته الكوفية - مقارنة بين النحو البصري والنحو الكوفي " لا نريد الخوض في المسائل النحوية ، والخلاف الدقيق بين المدرستين ، وإبداء وجهة نظرنا الخاصة فيما دهبوا إليه أصحابهما ، وفلسفة التوجهات الخلافية والتوافقية بينهما تركناها للكتاب مع وجهة نظرنا ورأينا والترجيح المأمول ما في عقلنا حول العقول ، وإنما الآن كعادتنا في بقية مقالاتنا وبحوثنا نروم إلقاء نظرة على جهود عباقرة العرب وأفذاذهم وتفانيهم في سبيل إعلاء رفعة لغتنا الجميلة ، لأن اللغة هي وجه الأمة المعبر عن حضارتها وثقافتها وشموخها! فالموضوع ثقافي بنفحات علمية نحوية لكي لا يتجشم العناء القارئ الكريم ، وبتصرف غير قليل .
لما عاد المازني شيخ البصريين بعد أن سأله الخليفة الواثق عن سرِّ(رجلاً) في غناء جاريته ، ظهر شيخ الكوفيين أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الملقب (ابن السكيت ) ، كان معلماً للصبيان في قرية (دورق) بخوزستان ، ويرجح بروكلمان أنه آرامي الأصل ، والرجل درس على الفرّاء ، وأبي عمرو الشيباني ، وابن الأعرابي من الكوفيين ، كما أخذ عن الأصمعي وابن عبيد الأترم من البصريين ، وألتقط اللغة من أفواه الأعراب (1). وكانت مصنفاته الكثيرة مضرب المثل في الجودة والإتقان والثقة ، وقيل ما عبر على جسر بغداد كتاب في اللغة مثل (إصلاح المنطق) ،وعرف عنه إمام بنحو الكوفيين ، وعلم القرآن واللغة والشعر ، راوية ثقة ، وقد عدو علم الكوفيين منتهياً إليه ، وإلى ثعلب (2) ، وقال عنه ثعلب : " أجمع أصحابنا أنه لم يكن بعد ابن الإعرابي أعلم باللغة من ابن السكيت " (3) ، وكان المتوكل قد ألزمه تأديب ولده المعتز بالله ، وبعد تأديب هذا غدر به المتوكل وقتله على سبب لا يعقله عاقل ، وتناقله المؤرخون ، إذ أمره " بشتم رجل من قريش ، فلم يفعل ، وأمر القرشي أن ينال منه ، فنال منه ، وأجابه يعقوب
، فلما أجابه ، قال له المتوكل : أمرتك أن تفعل ، فلم تفعل، فلما شتمك فعلت ، وأمر بضربه ، فحمل من عنده صريعاً مقتولاً (244 هـ / 858 م) ، ووجه المتوكل من الغد إلى بني يعقوب عشرة آلاف درهم ديته " (4) ، هذا هو قضاء وقدر ابن السكيت أمام المتوكل...
لماذا يشتم رجلاً لم يشتمه ؟! وما الحكمة في هذا الشتم المبتذل ؟! لولا الأمر دّبر بليل - إن صحت رواية ابن الأنباري الكبير! - ولما نال هذا القرشي منه ، من المروءة أن يرد عليه ، بل يرد الصاع صاعين ، لامتناع ابن السكيت عن سبه أولاً ، ولرد الشتيمة بالمثل ثانياً ، فما بال المتوكل يقتله صريعاً ، وهو الذي أمره بتأديب (معتزه) ، وأين: وما جزاء الإحسان إلا الإحسان ؟! وعلم ذلك وحسابه عند ربك ذي الجلال والإكرام ، وهنالك رواية أخرى ينقلها (السيوطي) في ( بغية وعاته) (5)، عكفنا عن نقلها لما تتضمن من دوافع طائفية ، لا تصلح في هذا العصر المفترض أن نكون أكثر وعياً وإنسانية - إن صحت الرواية أيضاً - .
والحقيقة منذ عهد الواثق وقدوم المازني إلى بغداد كما ذكرنا ، أحدث تحولاً هاماً في تاريخ المدرستين من حيث التنافس على بغداد وقصورها ، وتحقيق الأمتيازات ، فقد بدأت الكفة تميل الآن إلى جهة البصريين ، وأصبحت ثقة بغداد تزداد بهم على حساب الكوفيين ، وخصوصاً بعد وفاة ابن الأعرابي (231 هـ / 846م )، ومقتل ابن السكيت ، إذ أخذ الخلفاء يستدعون البصريين للتحكيم في المسائل النحوية واللغوية، وممن استدعي (المبرد) البصري إلى (سر من رأى) سامراء حيث مقر الخلافة حين ذاك ، ثم إلى بغداد من قبل صاحب شرطتها ، ولكن اقتراب المازني في أرائه من الكوفيين ، واقتربَ الكوفيون أيضاَ منه لكثرة مادار من مناظرات جعلت كل فريق يتمعن ويتبصر ويعيد النظر في آراء الفريق الآخر (6) .
والمبر د هوأبو العباس محمد بن يزيد ينتهي نسبه إلى الأزد من ثمالة (211 هـ - 285 هـ / 826 - 898م ) ، إمام البصريين في عصره ، تلميذ أبي عثمان المازني، وأبي عمر 1الجرمي وأخذ عن أبي عثمان الجاحظ ، وأبي حاتم السجستاني ، وحضر مجالسه ونهل من علمه كبار علماء النحو واللغة والأدب أمثال الزجاج والصولي ونفطويه وابن السراج والأخفش الأصغر وأبي الطيب الوشاء ، وابن المعتز العباسي وغيرهم.
تنافس هو وثعلب إمام الكوفيين الآتي ذكره في عصرهما ، وقد سئل النحوي الشهير (أبو بكر بن السراج ) , صاحب كتاب (الأصول في النحو )،أيهما أعلم المبرد أم ثعلب ؟ فأجاب " ما أقول في رجلين العالم بينهما " (7) ، وللمبرد عدة مؤلفات أشهرها : ( الكامل في اللغة والأدب) ، وهو من أشهر كتب أدب العرب على مدى تاريخهم ، عدد مجلداته وصلت ثمانية في بعض الطبعات ، مدحه ابن الرومي بقصيدة طويلة (98 بيتاً) :
أضحت الأزد وأضحى بينها *** جبلاً وهي رعانٌ وريود
ويميناً إنك المرء الذي *** *حبه عندي سواء والسجود
والبحتري الأشهر في عصره والمتنفذ - وهو طبعاً من معاصريهما - داعيا لأخذ العلم منه ، فهوالكوكب المسعود:
نال ما نال الأميرُ محمد *** إلا بيُمن محمـد بـــــن يزيــدِ
وبنو ثمالةَ أنجمٌ مسعودة** فعليك ضوءُ الكوكب المسعودِ
واضح محمد بن يزيد وهو من ثمالة يعني به المبرد ، ولابد أنه كان يدرّس الكثير من أبناء الملوك , وأكرر مرة أخرى هذا المبرد الكبير هو الذي قبل يد دعبل ، ونقل عنه رواية رائعة ، باعتراف ابن المعتز العباسي وهو أيضاٍ ابن خليفة وشاعر وناقد كبير عاصرهما ، وذلك في كتابه ( طبقات الشعراء) .
وكان (ثعلب ) الكوفي موازياً له في العلم والشهرة والمكانة ، ثعلب أيضاً كنيته أبو العباس ، وهو أحمد بن يحيى بن زيد بن سيار الشيباني إمام الكوفيين في النحو واللغة ( 200 هـ - 291هـ /815م - 903م)، ولد في بغداد ونشأ وتوفي فيها إبان خلافة المكتفي ، ولكن مدرسته النحوية كوفية خالصة ، والدكتور المخزومي يقول : "أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب ثالث ثلاثة قامت على أعمالم مدرسة الكوفة النحوية ، وهو بغدادي المولد والمنشأ، وكان شيبانياًً بالولاء " (8 ) ، أما الآخران فهما الكسائي والفراء . وأخذ ثعلب عن محمد بن زياد الأعرابي , وعلي بن المغيرة الأثرم، ومسلمة بن عاصم، ومحمد بن سلام الجمحي وغيرهم ، وأخذ عنه أبو الحسن علي بن سليمان (الأخفش الأصغر) ، وابن عرفة وابن الأنباري ، وكان ثعلب ثقة ديناً مشهوراً بصدق اللهجة والمعرفة بالغريب ، ورواية الشعر القديم ، قال عنه المبرد " أعلم الكوفيين ثعلب " (9) ، مقدماً على الشيوخ وهو حدث ، وعلى ما يبدو مما ذكر تستشف ، إنه غير ميال للمناقشة والتحاور والمجادلة مع المبرد، ولكنه خطيب في المحاضرات بشكل عجيب ، ربما بديهته، وكثرة معلوماته ، لا تساعدانه على الرد السريع ، ولكنه سريع الحفظ خطيب من الطراز الأول ، فهو يصلح للمحاضرات ، لا الأخذ والرد السريع - والله أعلم- .
ويحدثنا التاريخ : إنّ أبا جعفر أحمد ابن إسحاق البهلولي القاضي الأنباري و أخاه البهلول " دخلا مدينة السلام في سنة خمس وخمسين و مائتين ، فدارا على الخلق يوم الجمعة، فوقفا على حلقة فيها رجل يتلهب ذكاءً، ويجيب على كلّ ما يسأل عنه من مسائل القرآن والنحو والغريب وابيات المعاني، فقلنا من هذا ؟ فقالوا : أحمد بن يحيى ثعلب " (10) , إذاً كان ثعلب يتلهب ذكاءً ، ولما مات المبرد ، وقد أوردنا سنة وفاته قبل ثعلب ، وقف رجل في حلقة ثعلب وأنشد :
بيتٌ من الآدابِ أصبح نصفهُ***خرباً وباقي نصفه فسيخربُ
ماتَ المبردُُ وانقضتْ أيامهُ**8ومع المبردِ سوف يذهب ثعلبُ
وأرى لكم أن تكتبوا ألفاظهُ*** إذ كانت الألفاظ فيمــا تكتبُ (11)
يتبين مدى أهمية اللغة إبان تطور الحضارة العربية، وعندما تزدهر الأمة تزدهر في جميع اتجاهاتها ، ثم ركز على عجز البيت الثاني والتمييز بين الكلام المكتوب ولفظ الكلام المنطوق حيث يتجسد غفى هيئة نبرات وموجات وترددات وتعبيرات وإشارات وانفعالات ، فالحق مع الشاعر إذ يقول (إذ كانت الألفاظ فيما تكتب).
بالرغم من قوة حفظه المشهور - وأقصد ثعلباً- كان يأخذ الكلام على عدة وجوه ، بارعاً في التعليل يذكر بلسانه :" كنت أصير إلى الرياشي لأسمع منه ، فقال لي يوماً ، وقد قـُرئ عليه :
ما تنقمُ الحربُ العوان مني***بازلُ عامين صغيرٌ سنـّي
كيف تقول: بازلُ أو بازلَ ؟ فقلتُ : أتقول لي هذا قي العربية؟ إنما أقصدك لغير هذا ، يروى بالرفع على الاستئناف ، والنصب على الحال ، والخفض على الأتباع فأستحيا وأمسك " (12) .
وهذه الحادثة التي وقعت بين ثعلب الكوفي مدرسة، والرياشي البصري سبقت سنة (259 هـ / 871م) ، لأن أبا القضل عباس الرياشي، وكان أسود قتل في ثورة الزنج في السنة المذكورة سابقاً ، وهو من جذام ، له ( كتاب الخيل) و (كتاب الأبل) ، وهذا (ثعلب) كان مقتراً على نفسه ، فجمع ثروة ، وله عدة مؤلفات : المصون في النحو، معاني القرآن ، اختلاف النحويين ، معاني الشعر ....نكتفي بهذا القدر الذي يعفيك من الضجر، ويريحني من السهر ، ولله من قبل ومن بعد الأمر !!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التفاصيل عن المراجع والمصادر موجودة في كتابنا " نشأة النحو العربي ..." بطبعتيه الأولى والثانية .
(1) راجع (نزهة الألباء ..) : ص 103 ، و (مراتب النحويين) : ص 95 ، و (وفيات الأعيان) : ج2 ص 408 (بولاق ) ، (الدراسات اللغوية...) د. محمد حسين آل ياسين ( مكتبة الحياة - 1980م - بيروت) ، كلها م . س .
(2) راجع (آل ياسين) : المصدر السابق .
(3) (مراتب النحويين) : المصدر السابق.
(4) ( نزهة الألباء) : ص 180 م . س .
(5) (بغية الوعاة ) :السيوطي عبد الرحمن ج2 ص 349 مطبعة عيسى الحلبي 1965م - القاهرة .
(6)(المدرسة البغدادية ) : ص 96 - 97 م . س.
(7) ( إنباه الرواة)ج1 ص 176 م . م .
(8) (مدرسة الكوفة ..) : د. مهدي المخزومي ط2 - 1958 - ط 2 - مصر.
(9) (نزهة الألباء) : ص 228 - 232م م. س .
(10) (طبقات النحويين واللغويين) : ص 138 م. س . ترجمة محمد بن قادم.
(11) (إنباه الرواة) : ج 1 ص 167 م . س.
(12) (بغية الوعاة) : ج 1 ص 396 م. س .
0 comments:
إرسال تعليق