نستهلّها شعراً :
مُـنْـذُ كُـنَّــا في بِداياتِ البِدايَـه
يوم كُـنَّـا في كهوفٍ
وسُهوبٍ وخيام
كانت بُـذَيْـرات الـ "أنــا"
مُنْـذُ مَلْـيُون سَـنَـه
يوم كان الحرفُ صنواً للجُنون
والـ "أنا" تنمو بغابات الأنام
كانَ الرِّجالُ والنّساءُ
والبنات والبَـنُون
يروُون نَـبْتَ فِـطْـرةِ باتت لنا
واليَومُ يسقِـي اليَومَ
مِـن نُـسْـغِ الــ " أنـا"
كالبِدايـَـه
تِـلْـكُـمُ أصل الـحِكايَـه.
بين الإقتراع والانتخاب وادٍ سحيق يكتنفه ضباب المعنى، الأول أقرب إلى سحب الـقُـرْعَـة، لا يستوجب سوى تحريك اليد والبصر وتوفر بعض الحظ، بينما الأخير يستلزم تفعيل الوعي والبصيرة كي تُرى الصورة من كافة جوانبها تمهيداً لاتخاذ القرار الأصوب لانتخاب المرشح العتيد، سواء كان للنيابة أو البلدية أو في أي نطاق اجتماعي آخر.
الانتخاب كما يشير إليه اسمه يتطلب استحضار ماضي المرشح واستعراض حاضره واستشراف نهجه المستقبلي، و فيما إذا كان لديه استقلالية الإرادة والنية والإمكانية لتحقيق ما وعد بإنجازه في برنامجه الانتخابي. أي أن يختار الناخبُ بملء إرادته، وبكامل قواه العقلية الشخصَ المناسب كي يمثله ويمثل تطلعاته المشروعة، بصرف النظر عن العرق والدين والمذهب والميول الحزبية والهوى .... ومناكفة الجار.
بالرغم من ابتلائنا بقانون انتخاب مبني بحجارة طائفية ومذهبية تحمل ظاهرياً سمة الديمقراطية على كل حجر، لدينا قبس أمل في إضاءة شموع التغيير، شرط أن نُغيِّرَ "ما بأنفسنا" .
وبالرغم من إثقال كاهل ما سمّوه ديمقراطية توافقية بكتل ومحادل تضج بخرق فاضح لأدنى مواصفات الديمقراطية، إذ أن "ديمقراطيتنا" الراهنة تشطب مئات آلاف الأصوات، وتحرمهم من أدنى حقوقهم كمواطنين لركوب القطار الإنتخابي، كذلك لدينا الأمل بالتغيير "إن غيرنا ما بأنفسنا".
ولكن متى ستهطل أمطار التغيير ؟ وما السبيل إلى استمطار سحاب يسقي تربة رياض اعتبار الفرد مواطناً وليس تابعاً ؟ إلى متى سيبقى معظمنا، سواء تحت تأثير الطائفية أو الاسترزاق وطلب "السترة" يسهم من حيث يدري أو لا يدري بوضع القيود في يديه، ويصمّ أذنيه براحتيه عن عار هدير المحادل؟
إلى متى ؟ سؤال مشابه طرحه المتنبي على متخاذلٍ منذ أكثر من ألف سنةٍ :
"إلى أيّ حينٍ أنتَ في زيِّ مُحرمِ/ وحتى متى في شِقوةٍ وإلى كمِ ؟"
لعل في هذا العرض التاريخي الموجز لتطور الديمقراطية في اليونان القديم ما يدفعنا للاسترشاد ببعض مناراتها :
ومض نجم الديموقراطية في شبه جزيرة آتيكا في اليونان حسبما عرفناه من كتاب تاريخ العالم، ما أدى بعد عام 750 ق.م. إلى أنواع من الحكم تراوحت بين النظام الملكي والأرستقراطي والاستبدادي ثم الديمقراطية. الأخيرة شجعت عدداً من الحواضر اليونانية الأخرى، التي كانت تُعَدُّ بالمئات، لإجراء إصلاحات على صعد متنوعة كانت مقدماتها ونتائجها كما يلي :
أولاً : بوادر امتعاض شعبي نتيجة الظلم في أثينا في القرنين الثامن والسابع قبل الميلاد :
أ- اقتصادياً : سقوط صغار المزارعين في وهدة الفقر المدقع على خلفية عجزهم عن منافسة أسعار محاصيلهم الزراعية لأسعار الحبوب المستوردة الرخيصة، مما أجبرهم على رهن أراضيهم لضمان تسديد المبالغ التي استدانوها من النبلاء الأثرياء ، ونتيجة لعدم تمكن معظم المزارعين من إيفاء الديون فقدوا ممتلكاتهم، وصار النبلاء يبيعونهم ويشترونهم كعبيد.
ب - سياسياً : نتيجة لارتخاء قبضة النظام الملكي في حينه، ولعدم وجود صوت مؤثر لعامة الشعب، تركّزت السلطات بأيدي الأرستقراطية.
ثانياً : رواد الإصلاح في أثينا في القرنين السابع والخامس قبل الميلاد :
نتيجة استجابة النبلاء التدريجية لمطالب الشعب الإصلاحية مشت أثينا أولى خطواتها نحو الديمقراطية، علماً بأن جميع القادة الذين أسهموا في هذا النهج الإيجابي كانوا من الطبقة الأرستقراطية، ذلك ما يذكرنا بما كنا نسمعه قبل الحرب في لبنان عن بورجوازية ذكية تسعى إلى تمرير إصلاحات استباقاً لإضراب أو اعتصام، وبورجوازية غبية عنيدة تختزل عنادها بصرخة "لا تنازلات ولا إصلاح وليبلطوا البحر".
فيما يلي عدد من الأرستقراطيين المتنوِّرين وإنجازاتهم لخدمة الديمقراطية :
أ- دراكو 621 ق.م. : شرَّعَ قانوناً مكتوباً ألزمَ القضاة الذين جميعهم كانوا من النبلاء على عدم تفسير مواد القوانين غير المكتوبة لصالح النبلاء من طبقتهم على حساب عامة الشعب.
ب- سولون في عام 594 ق.م. : أدخل تعديلات على القوانين منها : إلغاء الرهن على الأراضي، تحرير أفراد الشعب الذين كانوا في عداد العبيد بسبب مديونيتهم، وضع حد لمساحة الأراضي التي يملكها شخص واحد، السماح لجميع الذكور من عامة الشعب بالانخراط في سلك القضاء وحق التصويت، ما سمح، ولأول مرة للمواطن العادي أن يكون له صوتاً في حكومته. ورغم تلك الإصلاحات احتفظ النبلاء بحقهم في مراكز صنع القرار.
ج- كليسثينيس 508 ق.م. : أجرى تعديلات أخرى على القوانين بحيث منحت صفة المواطنية لمزيد من الذكور من عامة الشعب، وبحق جميع أفراد الطبقات الاجتماعية بالانخراط في المجلس التمثيلي.
د- بيريكلز من 461 إلى 429 ق.م. : ذلك الخطيب المُفَوّه ترأس الحكومة الأثينية وأزال كل المعوّقات التي كانت توضع أمام الأفراد العاديين لشغل وظائف في الدولة.
الغرض من التطرُّق إلى الديمقراطية اليونانية التي بدأت قبل ما يقارب 2700 عاماً هو حث النّخبة المثقفة لدينا على الإقتداء بأولئك الروّاد القدامى، وللبحث عن برنامج عمل واقعي وطموح لإجراء الإصلاحات المُلحّة لماكينة ديمقراطيتنا الصدئة، واستبدال المحادل بمركبات فرديّة مستقلة يمسك سائقوها بعجلة القيادة بحيث تتوفر الفرصة لاتخاذ القرار المستقل والواعي، وتمهيد الطريق أمام عربة المكاشفة والمصارحة وتشخيص الداء كون التشخيص هو نصف الطريق نحو علاج اقتصادنا العالمثالثي التابع، ولتحسين الأوضاع المعيشية و تخفيض نسبة البطالة وتطوير مستوى الخدمات.
سمح لنا الاستعمار بنتفةٍ من الاستقلال السياسي ولكنه لم يعطنا أية نتفة من استقلالنا الاقتصادي. ربما لأننا غير جاهزين ولا مؤهلين لذلك، و/أو لأننا لم نلح في الطلب كي يمنُّوا علينا بالفتات. وطالما أن جَسَدَي التوأمان المتجسدان بالسياسة والاقتصاد هما في الحقيقة جسد واحد فلا قيمة لأحدهما بغياب الآخر، ولن تُحدِثَ الأناشيدُ الوطنية ومواضيع الإنشاء فرقاً يذكر طالما نحن نستورد قمحنا واللحوم المجلَّدة وإبرة الخياطة والخيطان والملابس والسيارة والتلفزيون وجهاز الهاتف، وطالما نحن لسنا مكتفين ذاتياً، والاقتناع بالجلوس في قطار العالم النامي سوف يبقى استقلالنا الحقيقي ناقصاً.
حبَّذا لو اقتدينا بشجاعة وصراحة الأمير فخر الدين المعني الثاني في إجابته على سؤال الأمراء التوسكانيين له يوم كان في منفاه في إيطاليا عام 1613 عمَّا يستطيع تقديمه لمساعدة قوّاتهم في حال وصولها إلى بلاد الشام لاسترجاع القدس فقال لهم حرفياً : " أنتم تعرفون قوة دين الإسلام وقوة آل عثمان، بل الذي مراده يقهر القوتين ما يتكل على مشتري ذخيرة من الناس" (كمال الصليبي ، بيت بمنازل كثيرة).
يقول المفكِّر المغربي محمد عبد العزيز الحبابي : " التغيير هو قدرنا" ، طال الزمان أم قصر. ولن يثنينا شطبُنا من التاريخ المعاصر عن السعي للمواطنية الحقيقية التي لن يقوم لها قائم دون نظام تمثيلي حقيقي، وسياسة اقتصادية رشيدة توصلنا إلى ميناء الإكتفاء الذاتي، أو على الأقل، إلى الحد من اعتمادنا على استيراد ضرورياتنا وكمالياتنا من الخارج. ولكن أين هي بداية الطريق ؟ سياسياً واجتماعياً وثقافياً واقتصادياً وعُلومياً. قد يكون في ما يلي الخطوة الأولى للبدء برحلة الألف ميل :
أولاً– سياسياً واجتماعياً وثقافياً:
1- عودة كل منا إلى ذاته ومناقشتها ومحاسبتها بصدق ونزاهة وحيادية كي يتسنى له تحديد طريق مصلحته على المدى الطويل.
2- التفكير بالمستقبل البائس الذي ينتظره ويتربَّص بأبنائه وأحفاده وأحفاد أحفاده في حال بقائه دمية من لحم ودم تهيم في قطار سكته مجهولة الاتجاه ، وليس سائقاً ينعم بحسنة تحديد اتجاهه بملء إرادته، وبما يناسبه.
3- على المواطن طرح تساؤل مشروع ومُلحٍّ حول بقائه مزدوج الولاء لمذهبه ووطنه، وتفضيل الأول على الثاني، وما الذي جناه من ضياع ازدواجية الولاء وما يمكن أن يجنيه من طيب ثمار الولاء للوطن.
4- صعوبة اتفاقنا على تدوين كتاب تاريخ لبنان لا ينبغي أن ترقى إلى حد الاستحالة، إذ لطالما تفتقت "العبقرية اللبنانية" ونحتت تسويات كتلك التي اقترحها الرئيس تقي الدين الصلح حين اختلف اللبنانيون على هوية البلد : أهو عربي أم غير عربي؟ فابتكروا الحل : "لبنان بلد ذو وجه عربي" .
5- تخصيص برامج تلفزيونية للشباب تركِّـز على البعد الوطني والإنساني، وتبيِّن بوضوح وعلمية الشروخ والتصدعات التي تحدثها الطائفية في بنية المجتمع.
6- حثّ الجمعيات الثقافية على منح جائزة مادية، و إقامة حفل تكريمي لأفضل قصة أو رواية أو مقالٍ أو أي عمل إبداعيٍّ آخر عن الديمقراطية وحسناتها، والمواطنية وحلو مذاقها.
ثانياً - اقتصادياً وعلمياً:
1- التواصل مع المتموِّلين من مقيمين ومغتربين لدعم الجهات المعنية بالإبتكارات العلمية، على سبيل المثال لا الحصر: "الهيئة الوطنية للبحوث والعلوم" التي شاركت مؤخراً عبر عرض اختراعات خمسة من الشباب اللبنانيين في "المعرض الدولي للإختراعات في كوريا الجنوبية" ، وذلك لإنشاء مصانع أدواتٍ كهربائية وإلكترونية وأجهزة هاتف وورش لصيانتها ومراكز تدريبية مهنيّة.
2- التنقيب عن الموهوبين في المجال العلمي من الطلاب لتهيئتهم كي يصبحوا مخترعين وابتعاث عدد منهم إلى الخارج.
3- إنشاء مصنع دراجات نارية كبداية، وكخطوة أولى نحو تصنيع المحركات.
4- الطلب من الجمعيات الزراعية تخصيص جائزة مادية وإقامة حفل تكريمي لأفضل مزارع يعمل في حقله وكرومه وبساتينه.
5- تشجيع ربات البيوت على الزراعة المنزلية حين تتوفر مساحة حول المنزل.
6- تشجيع ودعم إقامة معامل بيتية صغيرة لحفظ الخضار والفواكه يستفاد منها للإستهلاك المنزلي و البيع.
7- تشجيع إقامة مؤسسات صغيرة مدعومة كمعامل الخياطة وزراعة التوت وتربية دود القز.
ما ورد أعلاه يتطلب إدارة نشيطة مخلصة يتولى زمامها نخبة من الشباب إدارياً ومالياً واجتماعياً والتواصل الدؤوب مع الجهات الرسمية المعنية والنقابات والأحزاب والجمعيات الأهلية والسفارات.
بناءً على الفكرة القائلة بأن عجلة التاريخ كالعقار تمرض ولا تموت، وبأن ميزة الاكتفاء الذاتي نعمة لا يصح تجاهلها. وعملاً بالمثل العامي المتداول "فلاح مكفي سلطان مخفي". المطلوب هو البدء، اليوم قبل الغد، بإقامة ندوات تنتج أفكاراً واقتراحات وتوصيات تثمر حلولاً عاجلة لمشاكلنا المزمنة المتراكمة، ومتابعتها بمثابرة "أديسونية" (نسبة إلى توماس أديسون الذي أجرى 180 تجربة فاشلة لاختراع المصباح الكهربائي، ولكنه نجح في الأخيرة).
أهو حلمٌ ؟ تجارب الشعوب علمتنا بأن من لا يحلم لا يتقدّم.
وإلى اللقاء في مقالٍ قادم .
0 comments:
إرسال تعليق