اللغة هي الجناح الذي به يحلّق الشاعر بعيدا وتتشكّل القصيدة حيّة نتلمس عطرها وتلاحقنا صورها بدهشتها وعمقها وفضاء تأويلها والاستئناس بلذّتها الحسيّة والجمالية تملأ ارواحنا بالجمال واللذة , اللغة هي الشجرة الوارفة التي تحتها نستظلّ فيئها وتأخذنا الى عوالم بعيدة تنتشلنا من كلّ هذا الضجيج الذي عمّ الافق وسدّ منافذه وانتابنا خمول في الذاكرة ونقطف ثمارها ناضجة لذيذة . اللغة هي اليقظة والنشوة والدفء والضوء الذي ينبعث من اعماق الذات تسحبنا من نومنا العميق تستفزّ خمولنا . على الشاعر الحقيقي ان يمتلك لغة خاصة به يحنو عليها ويشذّبها ويعمل عليها كالمونتير الذكي يقطع المشاهد التي تجعل القصيدة مترهّلة ويضيف اليها ما يوهّجها اكثر ويفتح للمتلقى أفقاً شاسعا للتاويل , يغامر الشاعر بلغته ويرتفع عن لغة الواقع كونها لا تمتلك عنصر المفاجأة والغواية يجعل منها قطعة مشحونة تستفزّ الخيال وتمارس الانزياح الشديد حيث نهرب اليها من نهارنا المكسو بالتشتت والضياع والحيرة نتيجة ما يكتب اليوم باسم قصيدة النثر وهي براءة من هذه التهمة . مادام الشاعر هو ابن الواقع والملتصق بثقافة بيئته , فمن خلال قاموس مفرداته نستطيع ان نقرأ الواقع الذي يعيش فيه الشاعر ونتمكن من معرفة طريقة تفكيره نتيجة ما يستخدمه من مفردات يطرّز بها نسيجه الشعري ليكون شاهدا حقيقيا على العصر . مما لاشكّ فيه انّ مفردات الشاعر تعبّر عن مزاجه الخاص ورؤيته لما يحدث حوله , فكلما كان مزاجه مستقرا وواقعه ينعم بالسلم والأمان جاءت مفردته رقيقة عذبة أنيقة جميلة , لكن حينما يجد الشاعر نفسه محاطا بالخراب والخيبة , ستكون مفرداته كئيبة خشنة تمتلأ بالقبح والمرارة , كون إلتصاقه بهذا الواقع وتفاعله معه , لأنه ابن هذه الأرض ومن رحم مجتمعه كان . انّ مفردات الشاعر حتما ستصنع لنا المزاج العام للنصّ , فينقل مشاعره واحاسيسه الينا بصدق , معبّرا عن هذا الواقع المزري والمرير بمفردات تشبه هذا الواقع , سيكون النصّ ملتصقا بالشاعر ومنتميا اليه والى واقعه .
نجد في هذا النصّ للشاعر / عبدالسلام الخمسي / قصديته في اختيار المفردات وتشكيل نصّه وبثّها بطريقة ذكية ومحسوبة لأجل صدم المتلقي , فنحن امام حقول معنوية أرادها الشاعر ان تكون هكذا , ليزّجنا عنوة في الواقع المتردي , ليكسب ودّ المتلقي وتعاطفه معه , وجعل من النصّ منطقة مشعّة متحركة تمتدّ وتستطيل , جعله نصّا ينفتح على الكثير من التأويل وتعدد القراءات وهذا ما يسعى اليه الشعر , فنجد في نصّه المعنون / ناموس السفج ../ بأنّ المفردات التي تمتاز بها كتابات الشاعر والمنشورة في مجلة السرد التعبيري الماضية قد تخلّت عن أناقتها وزينتها , فلقد ألبسها الشاعر لباس آخر أراد من خلالها أن يصوّر لنا محنته وغربته ومستوى الدمار والخراب والألم وما يعانيه . فنجد في نصّه المعنون / ناموس السفج / هذه التعبيرية القاموسية متجلّية بشطل واضح , فهو يبدأ بهذه الفقرة النصّية المرعبة / كوابيس تفقأُ عين الريح الجنائزية ../ ففيها – الكوابيس – تفقأ – الجنائزية / وكلّ هذه المفردات تمّ استخدامها من قبل الشاعر في اشارة منه الى ما يعانيه هو والمجتمع , وفي مقطع آخر نجد / مخنوقة زفرات الرماد ../ الاختناق – الرماد , فكل مفردة لها مرجعياتها ومدلولاتها التي تقصّد الشاعر في زجّها داخل هذا النسيج الشعري الكئيب , فنحن أمام قاموس مفرداتي يشعّ بالمحنة والدمار والمرارة والكآبة , فمثلا نجد هذه المفردات وقد توزّعت على مساحة كبيرة داخل النصّ ../ تتشظّى / الملح / تنين / الأجاج / يبتلعُ / بالرحيلِ / مدنِ الغربان / الخطايا / أوزار / موبوء / الجراد / الصُخور السوداء / تتسوّلُ / سنابل فارغة / المقوّس / الناتئة / ضجيج / السراب / المتعرج / محنطة / البراكين / الاحتراق / النار / فقاعات / المقزّمة / تمزّق / المهدورة / فجوات / الصلصال / شرارة العاصفة / سراب التاريخ .هكذا ينتهي النصّ مشحونا بكل هذا الخراب والخيبة والضياع . هكذا ينتهي النصّ مشحونا بكل هذا الخراب والضياع والتشتت والغربة . استطاع الشاعر بحرفية عالية ان يسخّر كل شيء من اجل النصّ , لقد استخدم السردية التعبيرية استخداما موفقا , فلقد وجد فيها الحريّة والتحرر والانطلاق , فكانت أكثر شبابا خاصة وهو يعبّر عن مشاعره بصدق .
النصّ :
ناموس السفج
كوابيس تفقأُ عين الريح الجنائزية، مخنوقة زفرات الرماد، تتشظّى أرْوقة الملح الأزرق، تنين النهر الأجاج، يبتلعُ ألْسِنة الأصداف الزجاجية، لزِجة طحالب الهلام، نوارسٌ واهمة بالرحيلِ إلى مدنِ الغربان، المثخمة بالخطايا وأوزار الانسان، زمنٌ موبوء بجرادِ الرمل، الصُخور السوداء تتسوّلُ سنابل الشمس الفارغة، المحار المقوّس نَهِمُ الانزلاق الرخو، فوق حصى الماء الناتئة، ضجيجٌ يلعقُ رغوة السراب المتعرج، محنطة زلازل البراكين، فوق مريخ الاحتراق الأزلي، حبل النار السريّ، تلهت فقاعات هسيس الأرض المقزّمة، تمزِّقُ شفق الرؤى المهدورة، بين فجوات الصلصال المغموس في شرارة العاصفة، كأنّما نافذة تطلُّ على سراب التاريخ .
عبدالسلام سنان .. ليبيا
0 comments:
إرسال تعليق