هويتنا ومحلنا من الأعراب (3)/ محمود شباط

الحلقة الثالثة
خرائط جديدة وكيانات جديدة :
الإمارة الشهابية – القائمقاميتان والمتصرفية.
في الأمسيةِ الثالثة التي كان فيها أعضاء جمعية "بَدَّك وَطَنْ؟؟ كُونْ مُواطِنْ"،  في مكتبة منزل المؤرخ  الدكتور ابراهيم أبو مهاب، وهم الصبيَّة الصحفية جوليانا وزميلاها زياد وحارث يطرحون أستفسارات حول  الإمارة الشهابية، القائمقاميتين والمُتَصَرِّفِيّة، وحول أهمية هُوية الوطن، ويسألون عن قضايا تاريخية منها ما يعلمونه ولكنهم يرغبون في التأكد من صحته، ومنهم ما لايعلمونه فعلاً. كالعادة ابتدأت جوليانا بتوجيه الأسئلة :
- حدثتنا دكتور في السهرة الماضية عن الإمارة المعنية  وقلت لنا بأنك سوف تحدثنا عن الإمارة الشهابية وعن كيفية انتقال كرسي الإمارة من المعنيين الدروز إلى الشهابيين السنة. هلا تفضلت بتنويرنا حول هذا الموضوع ؟
- رد الدكتور : قلت لكم بأن أحمد المعني، آخر الأمراء المعنيين، لم يكن لديه ابن ذكر كي يخلفه في مقعد الإمارة، هذا السبب الأول في خسارة المعنيين للحكم كأمراء في لبنان، ولكن ما هو سبب هذا السبب؟ هل تعرفونه ؟
- نظرت الصبية صوب الشابين ثم قالت : لا
- حسنا ، إنه طبقي وعنصري فاقع ، ألم نقل بأن ابنة أحمد المعني وأخته كانت كل منهما مقترنة بأمير شهابي سني ؟
- بلى !
- ذلك لأن التقليد المتبع لدى المعنيين كان يقضي بأن يتزوج الأمير من أميرة والشيخ من شيخة وابن العامة من ابنة العامة، كُـلٌّ من طبقته. هذا على النقيض تماماً مما تصرف به وطبّـقه أحد النبلاء الرومان في القرن الأول الميلادي حين رفض بومبيوس جوليانوس، وهو من كبار بلاده، النبلاء الذين تقدّموا لخطوبة ابنته واختار تزويجها لفيلسوف اسمه يوفراتوس الصوري رغم أنه ليس من طبقة النبلاء، وقرّر مصاهرته لتميُّزه بعلمه لا بمقامه الرسمي.   
- قال زياد : هلا تفضلت بإكمال ما تفضلت به عن الأمراء الشهابيين ؟
- ردَّ الدكتور : إثر موت أحمد المعني، أقرَّ رأي أصحاب الحل والربط بأن يرثه ابن اخته الأمير بشير الشهابي الأول، ولكن ظهور رأي مناقض أدى إلى أن تؤول الإمارة لاحقاً إلى وريث آخر أقرب إلى الأمير أحمد، وهو الأمير حيدر الشهابي ابن بنت الأمير أحمد ، وذلك بموجب رأي شرعي ينصّ على أن ابن البنت أقرب من ابن الأخت. وبذلك حكم الأمراء الشهابيون حسب الترتيب الزمني التالي :

1- الأمير بشير الشهابي الأول      :   من 1697 – 1707(مات مسموماً).
2- الأمير حيدر الشهابي         :  من  1707 - 1729.
3- الأمير ملحم الشهابي         :  من 1729 – 1754.
4- الأمير منصور الشهابي      : من 1754 - 1770
5- الأمير يوسف الشهابي       :  من  1770-  1788.
6- الأمير بشير الشهابي الثاني :   من 1788 – 1840 
7- الأمير بشير الشهابي الثالث:  من  1840 – 1841

- علَّقَ حارث : شتّان بين البشيرين الأخيرين !! الثاني والثالث .
- رد الدكتور : لا مجال للمقارنة بين الاثنين على الإطلاق، إذ كان بشير الثاني من أكبر وأشهر الأمراء الذين مرُّوا عبر تاريخ لبنان، بلغ الرجل قمة المجد وبنفسه دفع بنفسه للتدحرج عنها حين زيَّنت له طموحات توسيع إمارته مشاكسة العثمانيين من خلال انحيازه لمحمد علي باشا. ضُعْفُ القبضةِ الحديدية البشيرية أدى إلى تشجيع معارضيه للبدء بِإحداث قلاقل في أواخر فترة حكمه، وإلى عدم استقرار بين سكان جبل لبنان أدى في النهاية إلى الإنتهاء الفعلي لحكم آل شهاب، رغم تعيين الأمير بشير الشهابي الثالث بعد نفي بشير الثاني إلى مالطة.
حاول العثمانيون ملء الفراغ ولم يُفلحوا، تم بعدها تقسيم الجبل إلى وحدتين إداريتين سُمِّيتا بالقائمقاميتين، واحدة للدروز وأخرى للمسيحيين، ولكن ما بُـنِيَ من آمالٍ على ما اعتبروه حلا لم يصمد طويلاً. وبعد أحداث عام 1860 العنيفة الدموية دخلت قوات فرنسية إلى بيروت واستأنفت مسيرها نحو الشوف. بالتزامن، وبتوصية من فرنسا، عُقِدَ في بيروت مؤتمر لممثلي القوى الأوروبية التي وقَّعت معاهدة باريس بُعَيدَ انتهاء حرب القرم في العام (1856)، كان العثمانيون ضمن الدول التي سُميِّت بدول "التوافق الأوروبي". 
- ارتشف فنجان قهوته، الباردة غالباً،ثم أكمل: كان الغرض من عقد ذلك المؤتمر هو "إعادة ترتيب" البيت اللبناني. أثمر ذلك الاجتماع عن صدور الدستور المسمى "النظام الأساسي" للعام 1861 والذي تم تعديله في العام 1864 بحيث أصبح لبنان متصرفية، أي سنجقاً مميزاً في البلاد العثمانية،بخصوصية قريبة من الحكم الذاتي،وبضمانة دولية في ظل حاكم عثماني مسيحي يسمى مُتًصَرِّفاً ، يأتي تعيينه من اسطنبول بالتنسيق مع القوى الأوروبية الضامنة.
أكمل الدكتور : ظلت المتصرفيّة قائمة في جبل لبنان حتى العام 1915، إلى ما بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى (1914-1918). وقد وفَّرت لأهل الجبل استقرارا معقولا يواكبه تقدم اجتماعي ملموس، إضافة إلى يقظة ثقافية عربية في الجبل وبيروت. ومنذ ذلك الحين، بدأت الهجرات من الريف اللبناني إلى بيروت والمدن الساحلية الأخرى، وتسارعت لاحقاً إذ باتت تترك بالتدرج صبغة متنوعة مجتمعياً. 
ومع انتهاء الحرب العالمية الأولى بحولي سنة،في العام 1918، كان الحلم الأمبراطوري العثماني قد لفظ آخر أنفاسه إثر هزيمة تركيا في تلك الحرب،حينها شرع البريطانيون والفرنسيون في اقتسام أقاليم بلاد الشام. تحت ذريعة ما سُمّيَ بالإنتداب. 
- سأل حارث : ما هي الآلية التي تم اتباعها في التقسيم ؟
- رد الدكتور  : في ظل ظروف كتلك، قرار القوي هو القوي للأسف، عادة ما تضع القوى الاستعمارية فوق صدأ استغلالها ألواناً برَّاقة مثل تدريب كوادر سياسية وأمنية في الدول الرازحة تحت الإنتداب كي يتمكن أهلها من إدارة شؤون البلاد. 
قال حارث : قد يصل الأمر ببعض المستعمرين إلى تصميم المراييل المدرسية و تحديد ألوانها، المناهج التربوية، على الأخص التاريخ، و ربما أسهموا في اختيار ألوان العلم واختلاق هوية للوطن. وهنا مربط الفرس: ثمة فرق كبير بين فبركة كيان سياسي ذي مشروعية وبين وطن حقيقي بهوية قومية حقيقية. بنظرة سريعة على تاريخ أوروبا في القرن الماضي يتبين لنا مثالا على ذلك ، ومنها أنه بعد الحرب العالمية الأولى زالت الأمبراطوريات الألمانية والنمساوية-المجرية والروسية والعثمانية وقامت محلها بلدان بتسميات وقوميات أخرى.
ثم تابع : ما يهتف به شبابنا في ساحات بيروت وطرابلس وصيدا والنبطية وبعلبك وزحله وغيرها هو صرخة المخاض المطلوبة لولادة هويتنا. في ثنايا تلك الهوية فتش عن المفتاحين السحريين لأبواب الاستقرار والازدهار، ولن تراهما أو تجدهما إلا حيث يحلّ العدل ويسود الحق. من ذلك ما نقل عن الإمام الأوزاعي مخاطباً الخليفة أبي جعفر المنصور : " يا أمير المؤمنين .. من كره الحق فقد كره الله، إن الله هو الحق المبين... يا أمير المؤمنين .. كنت في شغل شاغل من خاصة نفسك عن عامة الناس الذين أصبحت ملكهم.. أمير المؤمنين .. إن الـمُـلْكَ لو بقي لمن قبلك لم يصل إليك، وكذلك لا يبقى لغيرك، يا أمير المؤمنين.. بلغني عن عمر بن الخطاب بأنه قال : " لو ماتت نملة على شاطىء الفرات لخشيت أن أُسألَ عنها، فكيف بمن حُرِمََ عدلك وهو على بساطك؟". ("صانعو التاريخ" لسمير شيخاني.)
- بدأت جوليانا بمداخلة أنهتها باستفسار:" حين تغيب تلك الشيم عن الحاكم يغيب العدل وتموت الرحمة فيصبح قلب الحاكم بقساوة ووحشية قلب كاليغولا الذي كان يتلذذ بتعذيب معارضيه ويصرخ بجلاديه :"دعه يشعر بأنه يموت". ثم سألت : على أي أساس يقوم المستعمر، أو المنتدب، برسم حدود الدول الموضوعة تحت سيطرته؟ 
- رد الدكتور : على أساس اللا- أساس، يضع مندوب المستعمر أمامه خريطة البلاد التي أْتُمِنَ عليها، يمسك بقلم ومقص، يُفَصَّل التصميم الأولي ثم يبدأ بنثر الوعود، ويضع التصميم بتصرف (الشركاء المستعمرين) تمهيدا لعقد الصفقات : أعطني هنا وخذ هناك، وكلٌّ يككسب حسب قوته العسكرية البر وبوارجه البحرية وأسراب طائراته المقاتلة.
اتفاقا سان ريمو وسايكس-بيكو
واستغلال بريطانيا للتطلعات القومية العربية :
في بدايات القرن العشرين كان الانتماء القومي لدى العرب مُشوّشا وضبابيا، تشوبه الانتماءات العشائرية والدينية والمناطقية ما أغرى الأوربيين بتجاوز تلك المشاعر البدائية فشرعوا في إعادة رسم خرائط تلك المناطق بالأنماط التي اعتقدوا بأنها تناسب مصالحهم، يومها تنادت بريطانيا وفرنسا لعقد اتفاق سان ريمو في ربيع عام  1920 بغرض توزيع المغانم العربية الموضوعة تحت انتدابهما. .وأعقبتا ذلك باتفاقية سايكس – بيكو حين اتفق مارك سايكس (عن بريطانيا)، وفرنسوا جورج بيكو (عن فرنسا) على أن تكون ولاية الموصل في شمال العراق لفرنسا، وبغداد والبصرة في وسط وجنوب البلاد لبريطانيا، وعلى أن تأخذ فرنسا لبنان وسوريا، وعلى أن تكون الأردن من نصيب بريطانيا ..  
- لماذا ؟ ما المقصود من طريقة التقسيم تلك : سألت جوليانا
- لسببين، الأول هو ارتباط بريطانيا بوعدها المقطوع لليهود بوطن قومي. الثاني كي تبقى للإنكليز اليد العليا في الحجاز ونَـجْـدْ والخليج والبحر الأحمر عبر إبقاء علاقات مع الشريف حسين الذي كانت بريطانيا قد قطعت له وعوداً فضفاضة فهمها هو، أو أنهم تعمَّدوا أن يفهمها بتلك الطريقة، على أنه سوف يكون ملكاً على العرب وخليفة على المسلمين. وبالتزامن كان الإنكليز يُـطوِّرون علاقتهم المستحدثة بعبد العزيز بن سعود، الخصم العنيف والجدي للهاشميين وللشريف حسين تحديداً. 
- تسأل جوليانا: كيف كانت بريطانيا تُوَفِّق في العلاقة بين هذا وذاك؟
- يجيب الدكتور : كانت العلاقات مع الشريف حسين تُدار عن طريق "المكتب العربي"، زرعوا في حاشيته مستشاراً سياسياً بريطانياً هو السير راينالد وينغايت، ومستشاراً عسكرياً هو العقيد لورنس، بريطاني أيضاً ، أما التواصل مع ابن سعود فكانت علاقاته تدار عن طريق "الحكومة البريطانية في الهند"، ومستشاران انكليزيان هما كيم فيلبي والعقيد ويلسون (جون حبيب – "محاربو بن سعود في الإسلام".
انهيار التطلعات الهاشمية :
- سأل زياد : إلى إي جانب مالت كفة الدعم البيطاني في النهاية ؟ ألصالح الشريف حسين أم لصالح بن سعود؟
- ردّ الدكتور : في عام 1916، وبعد انسحاب العثمانيين من مكة، أعلن الشريف حسين نفسه ملكاً على العرب وخليفة على المسلمين، ولكن البريطانيين لم يعترفوا به إلا كملكٍ على الحجاز فقط. وحتى ذلك المكسب الزهيد بنظره صار محط تطلعات بن سعود الذي بدأ عام 1919  يهاجم الحجاز إلى أن سيطر عليها بالكامل عام 1925. 
- وكيف سارت الأمور بالنسبة للهاشميين بعدها ؟ سألت جوليانا 
- رد الدكتور : بعدما بدأ الإنكليز يعتبرون أن الرجل الأبرز في الأسرة الهاشمية هو الشريف عبدالله ابن الشريف حسين في الحجاز. فوجئوا بضعف قوات الهاشمي رقم  أمام بن سعود، وبانسحابه في العام 1921 إلى الأردن حتى قبل الهزيمة النهائية والحاسمة لقواته في الحجاز أمام قوات عبد العزيز بن سعود والوهابيين. مع ذلك  اعترف به البريطانيون كأمير حاكم لتلك المنطقة بمثابة جائزة ترضية، كما لقي مساعدتهم في صَدِّ الأخوان الوهّابيين الذين ظلّوا يغزون الأردن رغم معارضة وضغوط عبد العزيز، والذي بدوره كان مضغوطاً عليه من الإنكليز. 
- سألت جوليانا : وماذا عن ابن سعود ؟ ألم يكن حليفا للإخوان الوهابيين ؟
- بل كان حليفاً للوهابيين. ولكنه كان صاحب الكلمة الراجحة، وهو الطرف الأقوى، والأدهى. يقارب الأمور بواقعية سياسية حين يتطلب الأمر ذلك، كما يبدو أنه اكتفى بالأجزاء التي وَحَّدها، وهي مساحات شاسعة من شبه الجزيرة العربية، وقد قطع وعوداً للإنكليز بعدم الغزو للمناطق المجاورة كالعراق والكويت والأردن، ولكن الأخوان لم يوافقوا على ذلك، إذ قاموا في عام 1921 بغارة على عمّان قتلوا فيها وذبحوا الكثير من الأبرياء، فتصدى لهم الإنكليز وطاردوهم بالمدرعات والرشاشات والطيران، ولم يعد من أصل الـ 2000 عنصر الذين أغاروا على الأردن سوى ثمانية فقط، أعدمهم عبد العزيز فور عودتهم.(جون حبيب- محاربو بن سعود في الإسلام). 
دفع الإنكليز بعض جوائز الترضية الأخرى للهاشميين بعد الخيبات المتتابعة التي اصيبوا بها، ولكي لا يتجه الهاشميون للتعاون مع الفرنسيين ، ساعدوا الشريف عبدالله في توسيع إمارته حتى حدود العراق، وجنوباً حتى البحر الأحمر، أما من جهة فلسطين، فكان أقصى ما يمكن بلوغه هو حدود "الوطن القومي اليهودي" الموعود. 
بعد أن سيطر البريطانيون، مباشرة وبشكل غير مباشر، أصالة ووكالةً، على منابع النفط وتأمين خطوطهم من الموصل إلى البحر المتوسط والبحر الأحمر والخليج العربي وحتى المحيط الهندي، تفرّغوا لعمليات "التفصيل والخياطة" ، أي فبركة الأوطان. وكانوا يفضِّلون التعامل مع الجهات المحليّة العقلانية التي تعرف ماذا تريد، وإلى أين تتجه. من جهة يدعمون النشاط القومي العربي علانيةً، ومن جهة أخرى يلجمونه ويوجّهونه بما يناسبهم، ويتعاملون مع من يرونه من وجهة نظرهم الأنضج والأكثر واقعية. 
طبقا لتلك المقاييس كان الشريفان عبدالله وفيصل بالمنظار الإنكليزي أكثر مرونة من والدهما الشريف حسين، وبذلك المنظار رأى الإنكليز صورة عبد العزيز بن سعود المنافس الرئيسي للهاشميين في شبه الجزيرة العربية، وكانوا حينها قد تعبوا من عناد الشريف حسين وتصلبه المبالغ به، ما حدا بهم إلى إسقاطه من حسابهم  وبدء التعامل مع هؤلاء الرجال الثلاثة المذكورين. 
*******************************************
قيام دولة لبنان الكبير:
- سأل زياد : على ضوء ما ذكرت بدت لنا الصورة كما لو كان مصير تلك الكيانات المستعمرة واحد، ولكن المسارات متعددة، هلّا تفضلت بالإضاءة أكثر على مشروع تأسيس دولة لبنان الكبير؟
- بما يتعلق بالمسار اللبناني، اتّبع الفرنسيون في مناطق انتدابهم نفس المعايير التي اتبعها الإنكليز، حيث تعاملوا، أو أبدو استعدادهم للتعامل مع الجهات الواقعية التي تعرف ماذا تريد ، فرأت أن الموارنة ، دون سواهم، هم الطرف الذي في جعبته مشروع واضح مدروس ورؤية قابلة للتنفيذ.
ذلك المشروع يتلخص بقيام دولة منفصلة مستقلة تماما عن جوارها العربي، ولم يكن ذلك التطلع سوى استمرار لفترة ذهبية سابقة ، إنما على مستوى أعلى هذه المرة،  يوم ضمنت الدول الأوروبية الرئيسية الوضع السياسي للموارنة  عبر متصرفية جبل لبنان عام 1861، داخل نظام السلطنة العثمانية إنما خارجها عبر ضمانة دول أوروبية. كما سبق وذكرنا.
- سأل زياد : ما هي المتغيرات التي طرأت على جغرافية جبل لبنان كي تتوسع رقعة مساحته ويصبح "دولة لبنان الكبير"؟
- ردَّ الدكتور : ابتداء من أواخر القرن التاسع عشر بدأ الموارنة يضغطون لتوسيع حدود المتصرفية بشكل يضم مُدُن طرابلس وبيروت وصيدا وصور التي كانت ضمن ولاية بيروت (العثمانية) ، كما لإضافة "الأقضية الأربعة" : بعلبك، البقاع، راشيا، وحاصبيا التي كانت ضمن ولاية دمشق العثمانية أيضاً.
أخيراً، وفي أول أيلول عام 1920، أسفرت جهود الموارنة بقيادة البطريرك الياس الحويك عن إعلان الجنرال الفرنسي هنري غورو "دولة لبنان الكبير". 
- سأل حارث : وماذا عن سوريا ؟
- لم يكن في"بلاد المشرق" حسب التسمية الرسمية لمناطق الانتداب الفرنسية، لدى أية جهة على الأراضي السورية مشروع قابل للتنفيذ ويراعي موازين القوى، أو هذا ما رآه الفرنسيون. شرع الأخيرون في تجزئة سورية، إذ أنشأوا في بداية الأمر دولتين إقليميتين هما دولة حلب ودولة دمشق، ثم أتبعوهما بدولتين طائفيتين هما دولة العلويين ودولة الدروز فأصبحت سوريا في حينه أربع "دول" ، تحرك السورين بثورتهم التي أزالت حدود الدول الأربع.  
- سألت جوليانا :
- ما هي بتقديرك الحواجز التي تُعيق توحيد الهوية ؟
- دعونا نستعرض ماضينا أولاً بهذا الخصوص. أحياناً تبدو بعض التطلعات ذات بعد سياسي، ويتم تسويقها للرأي العام على هذا الأساس. ولكنها في جوهرها وفي جذورها طائفية، بحسن أو بسوء نية، خذي مسألة الوحدة السورية المصرية التي قام بها الرئيس المصري جمال عبد الناصر في العام 1958، لقد تسببت في شرخ واسع وعميق بين المسلمين والمسيحيين لسنوات تلت، إذ كان المسيحيون يرفضونها ويخشونها ويعرّفون بأنفسهم من خلال الخصوصية اللبنانية، فينكر المسلمون عليهم ذلك من خلال تمسكهم المبالغ به بالعروبة. وتفجَّر الصراعُ مرة أخرى حول موضوع حّساس آخر ، وهو قبول أو رفض الثورة الفلسطينية بحرّية العمل في لبنان، وانطلاقاً من لبنان، كدولة داخل الدولة. وكان ذلك، ضمن موضوعات أخرى معقدة وشائكة، ومعظمها داخلي، هو ما أدى في النهاية إلى اندلاع الحرب الأهلية في البلاد. والتي هدَّأها عقلاء ومخلصون. وعالجوا الحرب بمسكنات الطائف.. ولكن، وبذات الوقت، كان هناك جهات اقليمية لها رأي آخر. 
- سأل زياد : هل تعتقد بأن نقص المقومات الأساسية للهوية الوطنية تسبب بنقص في حس السيادة ؟ وبالتالي في فتح ثغرة للتدخل الخارجي؟
- ما كان لطرفٍ خارجي أن يفكر مجرد التفكير  بمفهوم "الدولة داخل الدولة" لو لم يكن له مناصرون من إحدى "غرف" البيت اللبناني. هذا ما قالته الحقائق ولا زالت تقوله عمَّن أقاموا في "غرفة المارونية السياسية"، وكذلك عمَّن أقاموا في  "غرفة" السنيّة السياسية، وأخيراً المقيمون، إلى حينٍ أيضاً، في "غرفة" الشيعية السياسية. 
رغم وجوب احترام خصوصية كل طائفة علينا التعامل مع الوطن كبيت واحد لا كغرف متعددة. هل من أسئلة أخرى ؟
- قالت جوليانا : هل تؤيد شعار "كلُّن يعني كلُّن" الذي تصدح  به حناجر المتظاهرين؟.
- همهم الدكتور وبعد هنيهة تفكير قال : التعميم تعمية.
- هل تؤيد المحتجين في قطع الطرقات ؟
- أبداً، لأنه بقدر ما يضغط على السلطات يتسبب بالضرر لمصالح الناس.
- سأل زياد : هل تعتقد بأن  القدر هو الذي ساق لنا موجة هذا الوعي الذي أدى إلى الإنتفاض على الطبقة السياسية ؟
- أجاب الدكتور : وضعنا معقد شائك ومتشابك، من ذا الذي يستطيع أن يجيب فيما إذا كان السبب هو القدر أم لا؟ هل سألت أحداً غيري ؟ ومن قائل يقول بأنها إرادة الله ؟ ولكن ... أين عقولنا التي وهبنا إياها الله كي نستخدها للتفكير؟ اسمعوا يا أبنائي ! ثمة استاذان قديران قلّما يخطىء نهجهما في التعليم هما الطبيعة والتاريخ.  
يتبع    

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق