كم أحبّك أيّها الوردُ..!/ يوسف ناصر

       

 


         ليتك تعلم كم أحبّك أيّها الورد في بلادي فلسطين حيث تزدان بك سفوج الجرمق وتلال صفد، وهناك في تخوم بحر الجليل حيث جلس السيد المسيح يلقي خطبته العصماء على الجبل ، وهناك حيث تتجلّى على جبل الطّور وتهجع فوق جبال الناصرة وسفوح الكرمل ، وهنا تفوح في وردتي قريتي كفرسميع الحبيبة حيث في كنفها يقيم من سلالتك الزكيّة آبائي وأجدادي في نعوش التراب..! أحبّك يانعًا يحيا طبيعيّـًا، شاردًا في البريّة، وفوق الجبال والتّلال، وفي الخمائل، وعلى ضفاف الجداول، لا مصنوعًا بالورق ومقنّعًا بالأصباغ  ومموّهًا بالألوان، يكذب في البيوت، ومن ذلك النوع الذي يكسو أكثر وجوه الناس وألسنتهم ...! لقد غرستُك في حديقة منزلي، وجعلتُك مع أكثر أبناء عشيرتك من الأزاهير الزاهية على الشرفات من بيتي ! تزهو بكلّ بَنان خضيب، ونصيف موشّى، ورداء مُفوَّف، وتاج مرصّع بأنفس اللآلئ ..! يسيل رضابك، ويجري لعابك فوق نحرك، وعلى صدرك ، وترفرف النسمة فوقك فراشةً خَجْلى ، تَنشُد الشّراب من رحيقك، فتتنهّد لها من عبيرك، وتتنفّس لرؤيتها من أريجك عند طلوع الفجر..!

        آه ..أيّها الورد ليتك تعلم كم أحبّك ساعةَ أعتزلُ الدّنيا كلّها، لأسهر في كنفك، أسقيك وتسقيني ..أطعمك وتطعمني .. والنجوم  تتحلّق كل مساء معنا حول الموائد..! وما لذّ شيء عندي في تلك الساعة، مثل أن يتّكئ قلبي على صدرك، ويسند رأسه إلى لواعجك، لأتنشّق أنفاسك ، وآنس بنبضات شذاك ،وخفقات عطرك الطائر إلى عرش القمر ..! 

         وكم أحبّك أيّها الورد أشعرَ شعراء هذا الكون منذ القدم ! تنطلق من صدرك أبلغ النفحات الشذيّة، وأفصح النفثات العطريّة التي يقصّر دونها كلُّ ما جمعته أقلام البشر عبر الزمان من خطب وقصائد..!!  

        أحبّك أجملَ قصيدة ابتدعتها قرائح الجبال، وخطّتها أقلام الرّوابي فوق السفوح، وقد صدرت عن وِجدان الربيع، واستلهمها خيال نيسان، في واحدة من أكرم لياليه التي تجود بأنبل الخواطر على قلوب الشعراء..!!

       أحبّك أيّها الورد قلَمًا عاطرًا في يد كاتب.. وكلماتٍ فوّاحةً في لسان شاعر..!! 

       أحبّك أيّها الورد حبيسًا في أقفاص الشّوك، فيزيدك الشّوك من حولك جلالاً وأبّهةً..! 

         أحبّك أيّها الورد في الناس طبيعيًّا صادقًا، لا اصطناعيًّا كذّابًا .. أحبّك حين تكون أنت امرأةً فوّاحة تحت صدرها جِنانُ براءة وطهارة.. وروضةُ معرفة وثقافة..! وأحبّك رجلاً يكون حديقةَ فكر ومحبّة.. وربوةَ أُنس وعزاء.!  فما طعم الحياة إن لم يكن أبناؤها وردًا في روابيها، وزهرًا في خمائلها..! إنّ المرء الذي لا يكون صدره حديقة ورد تبعث العطر للناس، يكون شوكًا يلقي بذاره في كلّ مكان.. وما هي إلاّ أيّام وأسابيع حتّى يُقبل الخريف برياحه الهوج ليتلقّطها، ويلقيها في كلّ موضع، فتستحيل الدّنيا بذلك حقل شوك وقَتاد فسيح ، تقيم فيه الأفاعي والعقارب والزواحف السامّة، حيث هناك تبقى عواصف الخريف الحمراء تحمل في أيديها قبضة نار، وجرعة موت للّذين يقيمون على أرضه من هذه البشرية الضّالّة في أعماق التّيه .!

              أتَذْكُرُ أيّها الورد معي، يوم هجمتْ عليّ عاصفةٌ جارحة.. وقد أحكمتُ القبض عليها بقوّة، خوفًا على نفسي من سهامها ورماحها..! فراحت مذعورةً تنفض جناحيها في يدي للإفلات منّي، وتنقر بمِنسَرها روحي، وتخدِّش بمخالبها قلبي، وللوقت بعد أن استكانتْ ، ثمّ غابت في غفوة نوم عميق في أوديتي، وتحت ظلال أشجاري ، خرجتُ أتنشّق الناس من فصيلتك، لأطيّب بهم جراحي، وأضمّخ  منهم نفسي، شفاءً لي من نزف الدماء وكظّة الألم..!! فما أعظم أن يكون المرء آنية ورد، وقارورة زهر للمجروحين في هذه المسكونة.! قُلْ لي أيّها الورد: ومن ذا الذي يمشي بغير جراح دامية في هذا العالم !   

        أيّها الورد.. ما جئت اليوم باكرًا لأبكيك، وأنعاك إلى أهلك وذويك ..! لكنْ ليتك تعلم كم من شوكة في هذا العالم لبست حلّتك البهيّة.. وكم بين البشر من تلفّعوا بعباءتك الجميلة.. وسلبوك صورتك الباهرة.. واستعاروا لونك الزّاهي ..!

        والبليّة الثانية أيّها الورد، أنّ أكثر الناس قد عشيت أبصارهم، وغدوا مزكومين لا فرق عندهم بين العَرف الذكيّ والرّيح النتنة..! فلا تجزعْ إن قلت لك إنّ العالم بات فوضى بين بنيه وأهله، مزيّفًا يقوم على الطلاء والأصباغ لدى أكثر سكّانه.. وقد غدا الورد  عند عامّة الناس شوكًا، والشوك وردًا..! يفتنك جمال الورد منهم مرّة ، فتُخلص له ،وتبجّله وتمجّده أعوامًا، وإن هي إلاّ أيّام أو سنوات تمرّ ، حتى يبين لك أنّه ذلك الورد المرائي المصنوع بالأيدي، لا المصنوع بأيدي النّدى والطلّ والربيع والروابي كما ظننتَ، وتدرك حينئذ أنّنا حقّـًا في عالم  أنَّى التفتَّ حولك ، فلا تلقى من الناس إلاّ صبّاغًا، أو وشّاءً، أوخزّافًا، أو خيّاطًا بالكلمات لأجمل الحلل والملابس..! ويا شَقوة الحرّ الأبيّ حين يحيا، وكلّ شيء حوله مداهن ، ودجّال، وخوّان جبان..! أوَ ليس هذا سجنًا أشدّ تعذيبًا لسجنائه من سجون الأقفاص والسلاسل ..!!

        أيّها الورد هل من خلاص ونجاة..! أين مَن يفتح لي الأبواب والنوافذ ! إنّي أكاد في هذا الشّرق أن أختنق ..!!

     .. عذرًا أيّها الورد فيما أنبأتُك.. ! فكم وددتُ لمكانك في نفسي، ولمنزلتك في قلبي، أن يمشي الله إلى الناس في الأرض، ينزع منهم عيونهم ، ويضيء مكانها سُرُجًا في محاجرهم كي يحسنوا النظر، فيعرفوا أصناف الورد، وأجناسه المنوّعة ، ثمّ يجدع أنوفهم ويبدّلها بغيرها كي لا تفتح أبوابها إلاّ للعطر الزكيّ الذي تهبّ أنسامه من الرياض والحدائق ، فتعود أيّها الورد عندئذ إلى سابق مجدك من الحسن والبهاء في هذا العالم..! 

                                                    كفرسميع ـ الجليل الأعلى

                                                                      10\7\20


CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق