رائد الصحافة الفنية: الأستاذ محمد صدقي الجباخنجي/ إعداد صبحة بغورة

     


                   27 مايو 1910 ــ 11 نوفمبر 1992

يلقب الأستاذ محمد صدقي الجباخنجي " بشيخ التشكيليين" وهو فنان وأكاديمي مصري ومؤرخ صحفي ، من مؤسسي نقابة التشكيليين في القاهرة ، لعب دورا رائدا وهاما في الصحافة الفنية ، وأصدر أول مجلة متخصصة في الفنون الجميلة "صوت الفن " عام 1950 ، كما أسس المجمع المصري للفنون الجميلة عام 1933  لقد جعلت إرادة الصدق لديه الفن فعلا أخلاقيا.


حصل الأستاذ صدقي الجباخنجي على شهادة الليسانس الفنون الجميلة من أكاديمية  فلورنسا ـ إيطاليا )1932 ـ 1939( وأسهم بفنه منذ الأربعينات الماضية في بعث النشاط الفني وأمتد أثره إلى مجالات متعددة من خلال حضوره الفاعل في المعارض الداخلية في مصر وفي خارجها ، وقام بتدريس تاريخ الفن بكليات ومعاهد الفنون الجميلة والفنون التطبيقية ، وساهم في تأسيس عدد من الجمعيات الفنية وتمتع بعضوية عدد آخر ومنها عضو بلجنة الفنون التشكيلية بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب ولجان وزارة الثقافة، وعضو جمعية محبي الفنون الجميلة، عضو نقابة الصحفيين، وعضو مؤسس لنقابة الفنانين التشكيليين ، عضو مجلس إدارة أتيلية القاهرة والأمين العام للجمعية، وعضو شعبة الفنون بالمجالس القومية المتخصصة، وشارك في المعارض الفنية المصرية الجماعية ومنها معرض الفن المصري المعاصر بألمانيا  1985 ومعرض الفن المصري المعاصر بأمريكا 1989 والمعرض العربي بألمانيا  1990 وبدعوة من الجامعة الليبية أنشأ قسما للفنون الجميلة والتطبيقية لطلبة كليات جامعة بنغازي 1970ـ 1974   

 

يلخص الدكتور صبحي الشاروني في حديثه عن رؤية الفنان صدقي الجباخنجي أن ما عرف عنه هو التزامه بأسلوبه الأكاديمي الذي دأب عليه معظم حياته حتى أبصر في نفسه بعد أن تجاوز الستين ميلا لمذهب الواقعية التحليلية ، وهو بهذا لم يختلق الحداثة والمعاصرة وإنما التقى بها بطريقة طبيعية فأصبحت أعماله الأخيرة من أكثر لوحات المعارض العامة نجاحا وجذبا للمختصين والمهتمين وأعمق تأثيرا في نفوس المشاهدين المعاصرين وبقيت أكثر متعة في عيون الأجيال اللاحقة .

يعزف الفنان صدقي الجباخنجي كما قال عنه الفنان الأستاذ سعد عبد الوهاب  لحنه الفني الخاص على قيثارة لا يمتلكها أحد سواه ، فهو من جيل الأساتذة  الرواد الذين صوروا الحياة في مصر وتغنوا بسحر ريفها و وجمال حضرها فامتزجت دراساتهم بحضارة مصر . 

حمل الاستاذ الفنان صدقي الجباخنجي مهمة التنوير في الفلسفة والفن التشكيلي ، وعكست أعماله كما يذكر الأستاذ محمود بقشيش في مقاله " الجباخنجي .. وداعا " عشقه الكبير  للطبيعة الغنّاء والمساحات الخضراء والطريق الريفية فرسم شعرا يتغنى بالألوان والظلال والهواء ، ولم تخل لوحة من شجرة تظلل مدخلا لمنزل أو ساقية تدور في حضن ظلال شجرة باسقة ، وقد عرفته الحياة الثقافية المصرية ناقدا فنيا صريح الموقف وواضح العبارة ، فأثرى المكتبة المصرية بإسهامات بارزة في المجال النقدي، وواصل في مراحله الأخيرة نفس الأسلوب الذي التزم به وهو الأسلوب الوصفي ـ التسجيلي لمظاهر الطبيعة يختار منها ما يعبر عن موقف شعري فيرصد لتفاصيل الدقيقة وكأنه يدعونا إلى المشهد كما رأته عينه وعلينا نحن بعد ذلك أن نستخرج منها المعاني ما نشاء. 

عهد إليه بتصوير جميع لوحات عصر ما قبل التاريخ وأربع ديورامات بمتحف الحضارة المصرية 1950 وتخصص الأستاذ صدقي الجباخنجي في تدريس تاريخ الفن انطلاقا من قناعته بأن التاريخ يشكل مادة هامة بالنسبة لأي فنان أو أديب مبدع ، وأن الفن يغرف موضوعاته من ينبوع التاريخ ويرتوي من الواقع المعاش وأن الفنان ليس مؤرخا مكلفا بتوثيق الحقيقة ولكنه يستعمل الحقيقة التاريخية كوسيلة للتعبير عن أفكاره وآرائه وتصوراته، فإذا كان تحقيق الصدق التاريخي هو غاية المؤرخ ، فإن الصدق الفني هو أهم شيء  بالنسبة للمبدع الفنان، وقد يتم غض النظر عن قضية الالتزام بالحقيقة فالفنان حر في نظرته للتاريخ ، ومن حقه أن يفسر الشخصيات والحوادث بما يخدم رؤيته وغايته الإبداعية ، وأن الإيمان بحرية المبدع لا تعفيه من تحمل المسؤولية تجاه فنه ، ذلك لأن الحرية لا تعني العبث والتحامل والتزوير ، بل تعني الالتزام بقيم الحق والخير والجمال ، فكان كتابه القيّم " الحس الجمالي" باكورة غنية بدقة المعاني البليغة التي أصبحت نبراسا لأجيال من طلبة الفنون الجميلة وأصبح إلى جانب كتبه " الفن والقومية العربية" "مراجعات في حديث الفنون" " تكنولوجيا التصوير الزيتي" " فنون التصوير المعاصرة " مراجع في معظم كليات الفنون الجميلة في بلدان الوطن العربي. 

أما كتابه الشهير " عاشوا للفن " فقد أحدث دويا فنيا هائلا في الأوساط الفنية المصرية والعربية تقديرا وإعجابا بما تضمنه من جهد بحثي ميداني للسيرة المفصلة و الدقيقة للغاية لحياة أشهر الفنانين العالميين وقد تناول بالدراسة  المناهج الفنية لأربعة من رواد الفن التشكيلي التي انعكست على انتاجهم الخصب وهم  ليوناردو دافنشي، بيتر بول روينز ، رمبرانت هارمينزون فان دين و أوجوست رودان، ويعتبره الكثيرون واحدا من الشخصيات المركبة والنادرة جمع بين التربية والفن ، فهو أستاذ متمكن لمادة تاريخ الفن ، ورسام يتمتع بحساسية فائقة وقد اعتبرته مجلة " المجاهد" الجزائرية في نعيها يوم وفاته " أنه كان الفنان الوحيد في العالم الذي جمع بين الريشة والقلم " حيث نشر الكثير من المقالات الفنية والنقدية بالصحف اليومية ، وأصدر العشرات من الكتب الفنية المتخصصة وألقى عددا هائلا من المحاضرات ، وعمل جاهدا لسنوات طويلة من أجل محو أمية العين وردم الفجوة بين الناس وفنونهم الجميلة محاولا الجمع في كتاباته بين الصرامة النقدية والروح العلمية والوهج النضالي والمسحة الإنسانية  ، وكانت رسوماته تتنفس من خلال لوحاته صعداء العشق الأصيل الكامن في نفسه منذ صغره خلال بحثها عن الطريق  الجمالي لإيصال القيم الاجتماعية والثقافية، انطلاقا من قناعته بأن العمل الفني الصحيح لابد أن يكون له جانب تاريخي واجتماعي وإنساني، لذلك جسدت العديد من لوحاته الفنية وقع حركة الحياة اليومية ببساطة وعفوية في تصوير مشاهد العمل بمصانع الحديد والصلب وخلال مراحل بناء السد العالي، إلى جانب تصوير مناطق ريفية تلتحم  فيها زرقة السماء واخضرار الأرض في تكامل ساحر وعجيب وحيث الحرية والصفاء والأصالة والتشبع بالجمال والهدوء الذي ينعكس على الوجدان، لقد خبر الفتنة الخفية للبيئة وللطبيعة فكانت ملهمته وشكلت وعيه البصري وكان نجاحه انعكاسا لمقدار الصدق الذي مارسه مع نفسه عندما حاول وضع الرسم في سياقه الروحي، لقد كان تقديره للحياة من مدى تقدير ما فيها من جمال، وصاغ أسلوبه الفني من تقديره للأشياء، فكان العرض أروع إبداعا والفكرة أكثر عمقا، فشحنت المخيلة بجرعة عالية من الدهشة والتفاعل مع فكرة اللوحة وانعكس أثر ذلك في إبراز جمال الريف المصري واٍلاسكتلندي في الكثير من لوحاته. 

المقتنيات الخاصة لأعماله نجدها في المجاميع الخاصة في القاهرة وفي أدنبرا وبون وفرانكفورت وبرلين وآيسن ، كما نجد مقتنيات رسمية بمتحف الفن المصري الحديث الملحق بدار أوبرا القاهرة ، وبمتحف كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية ، والهيئة العام للاستعلامات التي أدرجته في موسوعة أبرز الشخصيات المصرية ، وكذا بوزارة السد العالي ، وشركة المقاولون العرب، وشركة مصر الإسمنت المسلح والمتحف القومي بدمشق ـ سوريا.

حصل الأستاذ محمد صدقي الجباخنجي على عدة جوائز منها جائزة عمل فرسك مجمع المحاكم 1958 وجائزة وزارة الثقافة للمناظر الطبيعية 1959 وجائزة وزارة الثقافة في النقد الفني 1961 وجائزة نقد صالون القاهرة الثامن والثلاثين من جمعية محبي الفنون الجميلة 1962وجائزة تبسيط حديث الفنون مع ميدالية وشهادة تقدير من وزارة الإرشاد القومي في معرض الكتاب العربي عن مؤلفة يعنوان الفن الفرعوني 1964 وجائزة النقد في المؤتمر العام الأول لنقابة الفنانين التشكيليين 1989

الفنان صدقي الجباخنجي متزوج وأب لخمسة أبناء ، ولا تزال أعماله محل اهتمام الطبقة الفنية في مصر حيث يشهد  معرض لأعماله بقاعة ضي بحي الزمالك في القاهرة إقبالا كبيرا ويدوم شهر يونيو 2023     

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق