الكاتب والنّاقد الأردني المبدع عاطف الدّرابسة يغوصُ عميقاً فيما كانَ يُتوِّجُ عمان في الماضي والحاضر/ صبري يوسف




يخاطبُ الكاتب والنَّاقد عاطف الدَّرابسة عبرَ كتاباتِهِ الشّعريّةِ ونصوصِهِ الأدبيّةِ المرأةَ تارةً برهافةٍ رومانسيّةٍ، كما يكتبُ عَنْ حالاتٍ إنسانيةٍ اجتماعيّةٍ حياتيّةٍ تارةً أخرى، وعندما يخاطبُ الآخر سواءً امرأةً كانتْ، أو حالةً ما أخرى لا تتعلّقُ بالمرأةِ، كأنَّهُ يخاطبُ نفسَهُ أو يناجي نفسَهُ. ففي هذا النَّصِّ المجنّحِ نحوَ فضاءاتٍ موغلةٍ في أصفى حالاتِ التَّجلِّي، نتلمَّس مشاعرَ متداخلةً، ومحتبكةً بالحنينِ والتَّساؤلِ، وفيهِ الكثيرُ مِنَ التَّوجُّعِ، لِما عشناهُ، ولِما نعيشُهُ، ولِما يُمكنُ أنْ نعيشَهُ في مستقبلِ الأيّامِ، فهو يبدأ بِما كانَ معشَّشاً في مخيلّتِهِ، فمِنَ الجملةِ الأولى وهو يخاطبُ عمانَ، يبدأُ بِما كانَ يراودُهُ، وما كانَ محلِّقاً في مخيّلتِهِ الممراحةِ، إذْ تتدفَّقُ انبعاثاتٌ وأنغامٌ موسيقيّةٌ لا تُحصى، وأغاني مِنْ أرقى الألحانِ، مِنَ الزَّمنِ الجميلِ، ومِنْ أيَّامِ البوحِ الرَّصينِ، وسرعانَ ما تتراءَى أمامَهُ إيقاعاتٌ بهيجةٌ ورقصاتٌ مدهشةٌ للعيانِ، ومنعشةٌ للخيالِ، ويتساءَلُ: هَلْ هذهِ الجمالياتُ الفرحيّةُ الموسيقيّةُ الغنائيةُ والرَّقصُ البهيجُ، عشناها أمْ أنَّها مِنْ وهجِ انبعاثِ الخيالِ؟! وتتراءَى لَهُ أجملُ اللَّوحاتِ التَّشكيليّةِ الموشّحةِ بأسئلةٍ ومعانٍ وأفكارٍ وترميزاتٍ تقودُهُ إلى درجةِ طفوحِ الدَّمعِ مِنْ وهجِ الحنينِ إلى جمالياتِ أيّامِ زمانٍ، ثمَّ ينبلجُ أمامَ محيّاهُ ضياءُ المسرحِ في ذروةِ عطائِهِ في تجسيدِ أفكارٍ في غايةِ المضامينِ والّتي كانَتْ تعكسُ ما كانَ يموجُ في أذهانِ ذلكَ الوقتِ مِنْ طموحاتٍ وآراءٍ، يشعرُ وكأنَّهُ يرى أداءَ الممثِّلينَ ويسمعُ أصواتَ أقدامِ خطاهم وحركاتِهم وحواراتِهم، مركِّزاً على دلالاتِ الحوارِ ومضامينِ الحكايةِ والقصّةِ الّتي كانَ يقدِّمُها الممثِّلونَ بإيحاءاتٍ متعدِّدَةٍ، ويجمحُ بِهِ الخيالُ عابراً فضاءَاتِ وعوالمِ السِّينما، حيثُ حضرَ العديدَ مِنَ الأفلامِ في صالاتِ السّينما المحتشدةِ بجمهورٍ غفيرٍ، يملأُ الصَّالاتِ، كَمْ كانَ تفاعلُ الجمهورِ مَعَ الأفلامِ عميقاً، يصفِّرونَ ويهتفونَ ويصفِّقونَ، يفرحونَ ويتفاعلونَ بطريقةٍ بديعةٍ ويصبحُ موضوعُ الفيلمِ جزءَاً مِنْ حياتِهم، مندهشاً مِنْ عطاءَاتِ تلكَ المرحلةِ الخلّاقةِ، ومتسائلاً أينَ اختفتْ وتقلَّصَتْ كلُّ تلكَ العطاءَاتِ الإبداعيّةِ بمختلفِ أنواعِها وتجلّياتِها مِنْ ربوعِكِ يا عمان؟! 

كَمْ كانَ الكاتبُ مولعاً في فضاءِ القراءةِ، حيثُ غاصَ عميقاً في قراءةِ عوالمِ الشِّعرِ، تتراقصُ قصائدُ لا تُحصى في مروجِ الذِّهنِ ومرامي الذَّاكرةِ والخيالِ، منتعشاً ومتمتِّعاً في قراءةِ أبهى القصائد، ومجنَّحاً في قراءَاتِهِ نحوَ رحابِ السَّردِ، مستعرضاً قصصاً وحكاياتٍ في أرقى زمنِ الإبداعِ، مذهولاً مِنْ طاقةِ التَّخيُّلِ عندَ كتّابِ ذلكَ العهدِ وأهدافِ قصصِهم وتجلِّياتِ خيالِهِم الخلّاقِ، ويغوصُ عميقاً في عوالمِ الرِّواياتِ الَّتي قرأَها بشغفٍ كبيرٍ ومتعةٍ غامرةٍ، وكَمْ كانَ للقصائدِ والقصصِ والرِّواياتِ حكاياتٌ ومواضيعُ وأفكارٌ ورؤيةٌ عميقةٌ في فضاءِ التّاريخِ والخيالِ المجنّحِ نحوَ عوالمِ الأساطيرِ، نادراً ما نتلمَّسُهُ الآنَ في فضاءَاتِ مبدعي هذا الزّمنِ، مذهولاً ممّا كانَ سائداً آنذاكَ مِنْ إبداعٍ رغمَ حالةِ الفقرِ الّتي كانَتْ تحيطُ بظروفِ الكاتبِ، ورغمَ الفسادِ الّذي كانَ يحبو آنذاكَ في رحابِ يومِهم وحياتِهم! 

والغريبُ فيما كانَ سائداً آنذاكَ، هو تكاثرُ السُّجونِ، وتوالدُ الدِّيكتاتوريِّينَ، وهذا ما يجعلُنا نسترجعُ أيّامَ وعهودَ الثَّوراتِ، والمواجهاتِ العنيفةِ للانقلاباتِ الدّمويّةِ الّتي كانَتْ تقعُ بينَ حينٍ وآخر. 

ينظرُ الكاتبُ إلى أعماقِ ما كانَ يجولُ في خاطرِهِ، وإلى مراحلِ حياتِهِ على مدى العقودِ الآفلةِ، بكلِّ ما شاهدَ مِنْ تجاربَ متنوِّعةٍ ، فلَمْ يجدْ نفسَهُ يوماً منجرفاً إلى أيّةِ مغرياتٍ مِنْ أيَّةِ تجربةٍ مِنْ تجاربِ عمرِهِ، فما كانَ يشغلُهُ أيُّ إغراءٍ مِنْ إغراءاتِ الشُّهرةِ، أو المالِ، وظلَّ بعيداً عَنْ حبيبتِهِ عمان مِنْ هذهِ الجوانبِ الإغرائيّةِ السَّقيمةِ. كَمْ كانَ يشعرُ أنّهُ بعيدٌ عَنْ جوهرِ ما يجبُ أنْ يكونَ، وما كان بوسعِهِ، أنْ يردمَ هذا البونَ الشَّاسعَ بينَهُ وبينَ حبيبتِهِ عمان وهوَ مطوَّقٌ بالجوعِ والحرمانِ، والإقصاءِ، ودكنةُ الزَّنازينِ في الإنتظارِ لو فتحَ فاهُ بكلمةٍ خارجَ مساراتِ أصحابِ الصًّولجانِ، ومحاصرٌ بكلِّ آفاتِ الكَبحِ والقُبحِ والانكسارِ. 

شعورٌ بالقهرِ هيمنَ على عالمِهِ وأحلامِهِ وعلى فضائِهِ الشّعريِّ، والإبداعيِّ، وكأنَّ مَنْ يحيطُ بِهِ على عداءٍ مميتٍ مَعَ انبلاجِ شهقةِ القصيدةِ ومرامي الشِّعرِ ورحابِ الموسيقى والغناءِ، وهذا ما جعله يشعرُ بالأسى والأنين، كأنَّهُ محشورٌ في زنزانةٍ معتمةٍ، بعيداً عَنْ مهجةِ الجمال والكلمةِ الخلّاقةِ ورهافةِ الحرفِ!

صراعٌ مريرٌ كانَ ينتابُهُ، ورغمَ كلِّ ما كانَ ينتابُهُ مِنْ مراراتٍ، لَمْ يفكِّرْ يوماً بالهجرانِ والابتعادِ عَنْ ترابِ بلدِهِ. يشعرُ أنَّهُ جزءٌ مِنْ وطنِهِ، رغمَ كلِّ هذهِ الإنكساراتِ والفسادِ المستشري في أرجاءِ البلادِ، واقفاً بكلِّ صلابةٍ في وجهِ الصُّعوباتِ، حتّى أنَّهُ وصلَ إلى قناعةٍ أو شبهِ قناعةٍ أنَّهُ لا يلومُ الحكَّامَ بما اقترفوه مِنْ كبحٍ وقمعٍ وظلمٍ، كما لا يلومُ الفاسدينَ بمختلفِ استطالةِ أنيابِهم الحادَّةِ في افتراسِ خيراتِ البلادِ كأنَّهم مِنْ فصيلةِ الحيتانِ، مَعَ هذا لا يلومُهُم، بقدرِ ما يلومُ نفسَهُ، ويلومُ مَنْ هُم على شاكلتِهِ، لربّما يقصدُ بملامتِهِ لنفسِهِ أنَّهُ كانَ مِنَ الأجدى عليهِ وعلى مَنْ هُم على شاكلتِهِ الوقوفُ منذُ البدايةِ في وجهِ الأغلاطِ والانحرافاتِ والفسادِ والظُّلمِ، لأنَّهم لو وقفوا هذا الموقفَ منذُ البدايةِ، لِما تمكّنَ أحدٌ مِنِ ارتكابِ هذهِ الفظاعاتِ ونشرِ الفسادَ في أنحاءِ البلادِ، فهَلْ هذا ما يريدُ قولَهُ في ملامتِهِ لنفسِهِ ولمَنْ كانَ على شاكلتِهِ، معتبراً أنَّ مَنْ يُلقِي أسبابَ تعاستِهِ على الآخرينَ ولا يعالجُها وكأنَّهُ هو سببُ تعاستِهِ وتعاسةِ غيرِهِ، فلا يمكنُ أنْ ينهضَ بلدٌ ما، مجتمعٌ ما، ما لَمْ يتعاونِ الجميعُ مَعَ بعضِهِم بعضَاً ويقفِ الجميعُ ضدَّ الاعوجاجاتِ السَّائدةِ والقمعِ والفسادِ المستشري في البلاد، وإلَّا سيستمرُّ الوضعُ على حالِهِ ويزدادُ الفسادُ فساداً، لأنَّ الفسادَ يفرّخُ فساداً مضاعِفاً. 

كَمْ شعرَ بالغربةِ وهو يتمشّى في شوارعِ مدينتِهِ عمان، شعورٌ مريرٌ بالغربةِ هيمنَ عليهِ، حتَّى أنَّهُ شعرَ أنَّ المدينةَ نفسَها غريبةٌ عنهُ، وهو غريبٌ عنها، ما أصعبَ أنْ يشعرَ المرءُ بالغربةِ في عقرِ دارِهِ ووطنِهِ، وبلادهِ، إنَّها حالةٌ مريرةٌ وغربةٌ مزدوجةٌ، بدَتْ أمامَهُ غريبةً في لغتِها وتطلُّعاتِها وآفاقِ رؤاها وتوجّهاتِها، بعيدةً كلُّ البعدِ عَنْ رؤاهُ وما يرمي إليه، وشعرَ في قرارةِ نفسِهِ أنَّ المسافةَ بينَهُ وبينَ مدينتِهِ المدلَّلَةِ شاسعةٌ جدّاً وتفاقمَتْ المسافةُ إلى حدٍّ لا يطاقُ، وكأنَّها تقلِّدُ غيرَها مِنْ مدائنِ العالمِ، تقليداً أعمى، مركّزاً على المالِ ثمَّ المالِ، ونسيَتْ أنْ تركِّزَ على تاريخِها وحضارتِها وعالمِها وأخلاقيَّاتِها وما تربَّى في كنفِها مِنْ أجيال الماضي البعيدِ والقريبِ، وفقدَتْ رصانتَها المعهودةَ، وغدَتْ كأنَّها وليدةُ عواصمِ الغربِ، وبطريقةٍ وحشيَّةٍ تضاهي تطلُّعاتِ ووحشيَّةِ الغربِ في الكثيرِ مِنْ مساراتِ الحياةِ، فهي تبدو وكأنَّها ضدَّ أفكاري ورؤاي قلباً وقالباً، تتطوَّرُ بطريقةٍ غيرِ معهودةٍ لدينا، فمسحَتْ كينونتَنا وما كنّا نهواهُ ونعشقُهُ، وقضَتْ على عفوِّيتِنا وعيشِنا الكريمِ، وتحوَّلَتْ إلى غولٍ يفترسُ وجودَنا وعالمَنا الَّذي ترعرعْنا فيهِ، وبنَتْ بناياتٍ وناطحاتِ سُحابٍ، كأنَّها تريدُ أنْ تنطحَ ما يقفُ في طريقِها حتَّى أوشكَتْ أنْ تنطحَ السَّماءَ، وكلُّ هذا جعلَ الكاتبَ يشعرُ بالضَّآلةِ والتَّقهقُرِ والانهزامِ أمامَ هذا الغولِ الَّذي افترسَ الأخضرَ واليابسَ على حسابِ تقليدِ مجتمعاتِ الغربِ في كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ على حسابِ جماليَّاتِ حياتِنا وعالمِنا وتقاليدِنا وحضارتِنا فإلى أينَ نسيرُ في هذا الزَّمنِ الأخرقِ؟!

قادَتهُ مشاعرُ الأسى والأنينِ لِمَا طرأ مِنْ تغيُّراتٍ على بلادِهِ، إلى حالةٍ أنينيَّةٍ منبجسةٍ على شفيرِ التِّيهِ والضِّياعِ إلى درجةِ الشُّعورِ بالعدميّةِ والتَّلاشي والانهيارِ، تغلغلَتْ هذهِ المشاعرُ إلى أعماقِهِ، ثمَّ تراءَتْ لَهُ العوالمُ الرُّومانسيَّةُ الَّتي عاشَها أيَّامَ زمانٍ، في أعماقِ السُّهولِ والحقولِ بينَ سهولِ القمحِ والغاباتِ والحدائقِ والطَّبيعةِ الخلَّابةِ، هذا ما قادَهُ إلى الشُّعورِ بالغربةِ المميتةِ في ربوعِ عمان، وأدركَ أنَّ المسافةَ بينهما أصبحَتْ عميقةً، لأنَّ هذهِ التَّطوُّراتِ الاقتصاديةَ رغمَ مدنيّتِها وشموخِ مبانيها وأبراجِها بعيدةٌ كلَّ البعدِ عَنْ عوالمِهِ ومبتغاهُ، فهوَ يريدُ أنْ يعيشَ بطريقةٍ تناسبُ عوالمَهُ المضمَّخةَ بالحنانِ والوئامِ مَعَ بيئتِهِ وشعبِهِ وسهولِ قمحِهِ وحدائقِهِ وجماليّاتِ طبيعةِ بلادِهِ، لا يريدُ ناطحاتِ السَّحابِ تكتسحُ معالمَ الجمالِ والبهاءِ في بلادِهِ، لأنَّ هذا التَّقدُّمَ المدهشَ في معالمِ العمرانِ والقطاراتِ والباصاتِ والطَّائراتِ، لا تستطيعُ أنْ تردمَ الهوَّةَ الموحشةَ الَّتي تفصلُهُ عَنْ عمانَ، فهو يريدُ عمانَ كما كانَ يحبُّها أيَّامَ زمانٍ، لا يريدُ عمانَ وهي ترتدي ما لا يناسبُها ولا يناسبُ شعبَها ومواطنيها، وكلُّ هذهِ المفارقاتِ قادَتِ الكاتبَ المرهفَ إلى أنَّهُ أدركَ نفسَهُ على مسافةٍ بعيدةٍ وشاهقةٍ بينَهُ وبينَ عمانَ، فقَدْ كانَتْ حبيبتَهُ ومرتعَ حياتِهِ، والآن غدَتْ غريبةً عنْهُ، وهو غريبٌ عنها، وأدركَ تماماً أنَّ عمانَ تفرِّخُ زمناً لا يُشبِهُ نهائيَّاً زمنَهِ، وكأنَّهُ في عالمٍ لا يمتُّ بصلةٍ على الإطلاقِ إلى زمنِهِ وحياتِهِ وشهقاتِهِ، ودندناتِ موسيقى وغناءٍ ورقصٍ وفنونٍ كانَتْ تلامسُ عوالمَ أحلامِهِ الوارفةِ.

***

يكتبٌ الشَّاعر والكاتب عاطف الدَّرابسة نصوصَهُ بطريقةٍ مدهشةٍ، لِما في انبعاثِ حرفِهِ مِنْ انسيابيّةٍ رهيفةٍ في تأمٌّلاتِهِ وتدفُّقاتِ رؤاه. فهو يمتلكُ رؤيةً شاهقةً في رحابِ الأدبِ والفكرِ والنَّقدِ، فقدْ تشرِّبَ ثقافةً موسوعيّةً حولَ الكثيرِ مِنْ قضايا الحياةِ. يكتبُ حرفَهُ وهوَ في أوجِ تجلِّياتِهِ، كمَنْ يترجمُ حلماً طافحاً بالألوانِ والذِّكرياتِ والحنينِ والبكاءِ والفرحِ، كمَنْ يغنِّي لذاتِهِ الجريحةِ رغمَ ضراوةِ الانكسارِ، يكتبُ لنفسِهِ الهاربةِ مِنْ هذا الزَّمنِ المحيِّرِ لكلِّ ما نراهُ مِنْ تشابكاتٍ مريرةٍ، وغريبةٍ عمَّا عهدناهُ في مسارِ عمرِنا المكلَّلِ ببهجةِ الحياةِ، بأبسطِ أمورِ الدُّنيا. ونراهُ في النّصِّ الَّذي حملَ عنوان: "ما أبعدَ المسافةَ بيني وبينَها" قاصداً بينَه وبينَ عمان، مجنّحاً في تأمُّلاتِهِ نحوَ أبهى توهُّجاتِ بوحِ الانبعاثِ، ومركِّزاً على الهوَّةِ السَّحيقةِ بينَهُ وبينَ عمان، مقارناً بينَ ما كانَ يعانقُ عمانَ في العقودِ الماضية وأيّامنا الحاضرة، فيخرجُ بمفارقاتٍ مُدهشةٍ ومُؤلمةٍ للغايةِ!  

ينبعُ هذا النَّصُّ مِنْ توهُّجاتِ مخيَّلةٍ منبلجةٍ مِنْ انبعاثٍ خلّاقٍ، لا تستطيعُ اللُّغةُ الإمساكَ بهذا الفيضِ مِنَ انسيابيّة البوحِ المتدفِّقِ مثل شلَّالٍ ينهمرُ مِنَ الأعالي، فيلجأُ الكاتبُ إلى شهقاتِهِ الموغلةِ بالحسراتِ والأوجاعِ، والموسومةِ بأسئلةٍ لا تخطرُ على بالٍ، كي ينسجَ رؤاهُ بما تُسعِفُهُ منارةُ الحرفِ وآفاقُ الخيالِ، تاركاً ما لا يمكنُ الإمساكُ بِهِ لتهاطُلِ تجلِّياتٍ أخرى!  

عاطف الدَّرابسة كاتبٌ مشحونٌ بلغةٍ طافحةٍ بوهجِ السَّردِ والشِّعرِ والقصَّةِ والحوارِ والتَّأمٌّلِ العميقِ، ومسبوكةٍ برؤيةٍ نقديّةٍ في مساراتِ إشراقِها، فهو كاتبٌ معجونٌ بما يدورُ حولَهُ مِنْ مماحكاتٍ وتصادماتٍ في الكثيرِ مِنَ الرُّؤى الممجوجةِ، فهو يريدُ تصويبَها بإيقاعٍ شعريٍّ تارةً وسرديٍّ تارةً أخرى، واضعاً مشرطَهُ النّقدي في حنايا النُّصوصِ كي تأتي كتاباتُهُ مشبّعةً بتطهيرِ شهقةِ الحرفِ بأصفى ما يمكنُ التَّعبيرُ عنهُ!  

يحاورُ الكاتبُ نفسَهُ عبرَ نصوصِهِ، ويحاورُ قرَّاءَهُ وقارئاتِهِ، كما يحاورُ نموَّ ما يزهو في أبجديَّاتِ المكانِ  ومحطَّاتِ ما يتراءَى لنا في دوراتِ الزَّمانِ، ثمَّ يسألُ تساؤلاتٍ مفتوحةً للذاتِ، للزمنِ، للحياةِ، ولا ينتظرُ نهائيَّاً أيَّةَ إجاباتٍ لتساؤلاتِهِ، لأنَّ إجاباتِه محفورةٌ في أعماقِ السُّؤالِ والنَّصِ نفسِهِ، وكأنَّهُ يحفرُ رؤاهُ وتساؤلاتِهِ فوقَ أجنحةِ الحرفِ بكلِّ ما يحملُ بينَ هِلالاتِهِ مِنْ تجلّياتٍ شاهقةٍ، بالألغازِ ومسروجةٍ بالأسرارِ! 

أرى الدَّرابسة كاتباً، وشاعراً وناقداً مزنَّراً بحرفٍ مشتبكٍ بخيالٍ خلّاقٍ، لا يرتوي إلّا مِنْ إشراقِ وهجِ النُّورِ، خيالُهُ مِنْ لونِ الفرحِ المصحوبِ بأنينِ الانكسارِ، يؤلمُهُ كلُّ هذهِ المتغيِّراتِ الَّتي قضَتْ على الجمالِ والفرحِ والبسمةِ وفضاءَاتِ التِّيهِ، لكنَّهُ لا يقفُ صامتاً عندَ هَولِ الجراحِ، ولا يعرفُ معنىً للهزيمةِ، فهو يستمدُّ قوّتَهُ مِنْ انكساراتِهِ وهو في حالةٍ بحثٍ دائمٍ عَنْ فرحٍ غيرِ قابلٍ للانكسارِ، عبرَ حرفٍ مصفّى مِنْ ضياءِ الحياةِ، كمَنْ يستولدُ مِنْ أحزانِهِ أفراحاً، وكلُّ هذا ينمُّ عَنْ طموحاتٍ شاهقةٍ في أعماقِهِ، تغلي مثلَ غليانِ نصوصِهِ، بحثاً عَنِ رؤيةٍ مضيئةٍ في نهايةِ النَّفقِ، كي ينقذَ ما تناثرَ فوقَ أجنحةِ مجتمعِهِ مِنْ شراهاتِ الانزلاقِ! 

المبدع عاطف الدَّرابسة، كاتبٌ غيرُ عاديٍّ في مختلفِ كتاباتِهِ الأدبيّةِ والنَّقديّةِ، لأنَّ رؤاهُ مجنّحةٌ نحوَ فضاءِ الإبداعِ الرَّصينِ، يحرِّضُ القارئَ على التَّفكيرِ والكتابةِ ويمنحُهُ متعةَ القراءَةِ ووهجَ الاندهاشِ، فهو يحلِّلُ ما يراهُ وما يحلمُ بِهِ وما يراودُهُ، وما يمكنُ أنْ ينبعثَ مِنْ آفاقِ بوحِ الخيالِ، وخيالُهُ مفتوحٌ على ما لا نتوقَّعُهُ وما لا يتوقَّعُهُ هو بالذّاتِ، لأنَّهُ عندما يكتبُ لا يعرفُ تماماً ماذا سيكتبُ، لأنَّ الكتابةَ عندَهُ حالةُ تدفُّقٍ وانهمارٍ، مثلما ينهمرُ المطرُ فوقَ أرضٍ عطشى، وهوَ حالةٌ مطريّةٌ في تدفُّقاتِهِ الشّاهقةِ، شهقاتِ الحنينِ إلى البيتِ العتيقِ وإلى الماضي البعيدِ، المتوَّجٍ بالأصالةِ والإشراقِ، والمبلَّلِ بحرفٍ صافٍ صفاءَ السَّماءِ!


ستوكهولم: 22. 9. 2023

صبري يوسف

أديب وتشكيلي سوري مقيم في ستوكهولم


CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق