تقديم بل شهادة!
شيبان هيكل عُنوان لقصة نجاح تستحق أن تُروى وبها يُقتدى!
فيهِ شيءٌ بل الكثير من انتظام العسكر، كما بأسهم! وفيه من العسكر روح القيادة، فهو قياديٌّ، يتحلّى بالحكمة وفصل الخطاب!
هو طموحٌ، جِدِّيٌ، مُلتزمٌ كلَّ أمر يُوكلُ إليه! "يُنيشنُ " على أي هدفٍ يُريده، فيُصيبُ منه مقتلاً! مِقدامٌ جريء، لا يخشى في الحقِّ لومة لائم!
هو صاحبُ عقل منظَّم، منهجيٌّ في عملِهِ وسلوكِهِ.. وإِذْ يُسألُ عن ذكائه طالبًا، يُجيبُ بأنه وطلبة قريته "أردة" قد شربوا من مياه "عين الذكا"، في تلك القرية، من أعمال زغرتا الزاوية!
... مجتهدٌ، بلغ في دروبِ العلم درجاتٍ عُلى، وهو الآتي من عائلةٍ مُتواضعة، مؤمنة، "مُستقيمة الرأي" عمادُها أمٌّ وأبٌ تشتهيهما كل عائلة!
هو محبٌّ للاكتشاف، دائم التوق إلى المعرفة، في رأسِهِ أسئلة لا تنتهي، مما يُدلّلُ على نزوعٍ فلسفي مُتأصِّل لديه!
وهو محبٌّ، بل عاشقٌ للتملِّي من الحياة الدُنيا، فبلغ في جَوَلانِهِ أقصى المعمورة، وليغدُوَ في سجلّه السياحي زيارات لأكثر من أربع وثلاثين دولة، في أربع جهات الأرض!
اجتماعي بامتياز، وكان أن حقّق كينونته الاجتماعية، من خلال انخراطِهِ، عضوًا وقياديًّا، في العديد من الهيئات الأهلية والمنتديات الفكرية والأطُر النقابية، لاسيما الجامعية.
.. من هُنا حقَّ لأجيالنا الطالعة أن تتعرّف على سيرته، بل مسيرته الحياتية المتشعِّبة والمهنية، من ألفها إلى يائها، كي تقبسَ منها الكثير من الدروس والعِبَر!... هي مسيرةٌ نضالية، من أيِّ الجهاتِ أتيتها!
إنها مسيرة نجاح قلَّ نظيرُها، نسجها شيبان هيكل بخيوط قلبه وحبالِ تفكيره، وعمّدها بدموع العين وعرق الجبين ونجيع القلب ورضى الوالدين!
لا نوافقُ صديقنا شيبان، إِذْ يُقلِّل من شأن سيرته، إذْ يقول: "أما عن سيرتي الذاتية، فيمكن أن تكون مُتواضعة، ولا تُقاس بمقياس السِيَر الذاتية لرجال كبار، تركوا بصماتٍ واضحة في التاريخ والسياسة، في العلم والأدب والفلسفة..". لا، عزيزي شيبان، سيرتُكَ بل مسيرتك الظافرة لا تقلُّ شأنًا، في أبعادها، عن هؤلاء وأولئك الذين تدعوهم بالكبار، ذلك أن السيرة، غالبًا ما تُقيَّمُ بذاتها، وليس ربطًا بمقام صاحبها، عُلوَّ شأن أو انخفاض شأن!
ولعلَّ أبرز ما نتعلّم من مسيرتك أنْ ليس في قاموسك "مفردة" مُستحيل! فكلُّ هدفٍ قابلٌ للتحقيق، إذا تسلَّح المرء بالوعي وحُسن التخطيط والإرادة، ومعرفة السُبُل المفضية إليه، كما بالصبر والأناة!
.. شيبان هيكل عرفته، منذ ربع قرن، رفيق نضال وزمالة في جامعتنا الوطنية، هو في كلية الهندسة (الفرع الأول – طرابلس)، وأنا في كلية الآداب – قسم الفلسفة (الفرع الثالث – طرابلس). ولعلَّ ما يجمعنا ما خطّه الفيلسوف أفلاطون على باب أكاديميته في أثينا "لا يدخل منزلنا من لم يكن مهندسًا! " .
هكذا دخل شيبان "منزلنا"، فجَمَعَ الهندسة إلى الفلسفة!
تعرّفت إلى شيبان بداية العام 2001، يوم دعونا في "مؤسسة الصفدي"، وكنت مُنسّقًا لقطاع التربية فيها، إلى ورشة عمل في فندق "الكواليتي إنْ" (طرابلس)، حول أزمة الجامعة اللبنانية – فروع الشمال، حيث كان يومٌ تربوي جامعي طويل (24 آذار 2001). وقد انجلت هذه الورشة عن تشكيل "لجنة المتابعة" للبناء الجامعي الموحد في الشمال، وتولّيت مهمة التنسيق في هذه اللجنة طوال خمس عشرة سنة. وكانت مسيرة نضالية، تبسّط فيها شيبان في واحدٍ من فصول هذه السيرة.
وقد كان لشيبان أن يضع الأمور في نصابها، قاطعًا الطريق على مُدَّعي أبوّة ذلك الحراك، من أجل الجامعة اللبنانية شمالاً!
وقد كان لشيبان أن يكون لولبًا في حراكنا الجامعي، يعمل على جبهتين:
جبهة "لجنة المتابعة"، التي كان من مهماتها التحشيد وإقامة اللقاءات الواسعة في الجامعة وفي مقرّ نقابات المهن الحرّة، لدفع السير بالمشروع قُدُمًا، ناهيك عن اللقاءات مع المرجعيات الرسمية (رئيس الجمهورية، رئيس الحكومة، الوزراء المعنيين..)، فكان عضوًا فاعلاً في هذه اللجنة. كما تمّ تعيينه، في إطار لجنة رباعية، عضوًا فيما سُمِّيَ "اللجنة الفنية" من قبل رئاسة الجامعة اللبنانية، لمواكبة أعمال البناء والتجهيز وكل التفاصيل العائدة للمشروع العتيد.
.. خارج هذا الإطار – وهو ما عزّز علاقتي بشيبان – بشكل شبه يومي أو أسبوعي، كوني مُنسِّقًا لـِ "لجنة المتابعة" ومُكلّفًا بتحضير كل الملفات والبيانات والمحاضر العائدة للحراك، كما المراسلات مع نواب الشمال ومع المرجعيات المسؤولة - فإنّ في هذه السيرة "الشيبانية ما يستحق التوقّف عنده مليًّا.
في الإكباب على هذه السيرة، بفصولها وعناوينها، التي تنطلق من ولادته في عائلة مُتواضعة ، إلى مدرسة القرية ، إلى ثانوية زغرتا الرسمية ، إلى مسيرته الجامعية في كييف – أوكرانيا (أمضى سنة واحدة في الجامعة اللبنانية – كلية العلوم ) ، التي امتدّت بين عامي 1975 – 1985 ، إلى تفوقه في تلك المرحلة الجامعية ، في واحد من أهم المعاهد (معهد البوليتكنيك / مدينة جامعية مترامية الأطراف ، من 22 مبنى ، تضم 25 ألف طالب)، مما مهّد له الكثير من النجاحات والصداقات في جمهورية أوكرانيا، مع قياديين في الإدارة التعليمية الجامعية والسياسية، إلى جولاته السياحية، انطلاقًا من كييف إلى أربع جهات الأرض، سائحًا ومكتشفًا ورحّالةً .. إلى زواجه، إلى التحاقه أستاذًا في الجامعة اللبنانية (كلية الهندسة – الفرع الأول )، إلى سفره لأستراليا بعد تدهور الأوضاع المالية والمعيشية في نهاية الثمانينيات واستحالة العيش بكرامة ، إلى عودته للبنان، إلى تولّي إدارة كلية الهندسة (2012)، إلى إنجازاته في هذه الكلية، إلى خوضِهِ غمار الانتخابات النيابية كمستقلٍّ وتغييري (أيار 2022)، ثم عودة الابن الضال، في "الزمن الضائع" كما يسمّيه، إلى أستراليا، وطنه الثاني ... كل أولئك يضعنا بإزاء شخصية عصامية مُناضلة، راحت من أبواب واسعة، تشهدُ لزمنها، وخير شهادات الإنسان ما كانت لزمنه، وللحقيقة العارية!
أجل! شخصيةٌ نسجت قصة بل ملحمة، تستحق أن تُوضع برسم الأجيال، فتكون عبرة لمن يعتبر!
ومما يلفت في هذه السيرة أن شيبان أظهر مقدرة في الكتابة رائعة، وهو الآتي من المجتمع العلمي الهندسي، من الجداول والأرقام والمادة الجماد! فقد تميّز أسلوبه بسلامة اللغة، والسلاسة والانسيابية. ناهيك عن النزعة القصصية لديه. فهو في كل حدثٍ برويه يضعك أمام مأزق، ويروح في فكفكة العقد، عبر مسار درامي مشوِّق، إلى أن ينتهي بك غالبًا إلى نهاية سعيدة!
لقد استمتعت بقراءة هذه السيرة، فأكببتُ عليها في جلسة واحدة، بدأتُ بها عصر ذات يوم حتى منتصف الليل، ولم أشعر بتلك الساعات التي مرّت، وأنا مُتسّمِرٌ، أقرأها بنهم.
شيبان هيكل، في هذه السيرة، قدّم لنا بأمانةٍ سيرة ذاتية غنيّة رائية، ونمَّ عن مؤرّخ ناجح حكّائي، وعن سوسيولوجي، يغوص إلى أعماق الأحداث دون ظواهرها. والأجمل أنه بدا لنا رحّالةً من طراز رفيع "بطّوطي"، إذْ جال في أرجاء العالم، وقد أخذنا معه، لنعيش تجربته، وهو ينقلها إلينا بكلّ تفاصيلها، وبكل الجمالات التي عاشها، فسرت إلينا، فكنّا شركاء في غالبية الأحداث والمشهديات التي عاينها.
شيبان هيكل... دُمتَ لأجيالنا قدوة، تترسَّمُ خُطاك، وما ضلَّ من كان شيبان هيكل قدوته!.
الثلاثاء الواقع فيه ٢٩ نيسان ٢٠٢٥
0 comments:
إرسال تعليق