الفدرالية بين الواقع والطموح الوطني/ كميل العيد



في خضم النقاشات المحتدمة حول مستقبل سوريا السياسي، يبرز خيار الفدرالية كأحد الطروحات التي يروج لها بعض الفاعلين الدوليين والإقليميين، إلى جانب شرائح محدودة من الداخل السوري. هذا الطرح، رغم ما قد يبدو عليه من عقلانية على السطح، يطرح إشكالات جوهرية حين يوضع ضمن السياق السوري التاريخي والاجتماعي والجغرافي. 

يدفع مؤيدو الفدرالية بأنها صيغة ناجعة لتوزيع السلطة وتحقيق التوازن بين المكونات في الدول المتعددة الأعراق والطوائف، ويستشهدون بتجارب فدرالية ناجحة كألمانيا والولايات المتحدة وسويسرا. كما يرى البعض أن سوريا، في وضعها الحالي، مقسمة فعليًا بين مناطق نفوذ مختلفة، ما يجعل من الفدرالية، برأيهم، خيارًا واقعيًا لإعادة توحيد ما تفرق.                                                                                                                                        

لكن هذه المقارنة تتجاهل السياق المحلي والخصوصية السورية. فالفدراليات الناجحة وُلدت من توافق داخلي نابع من شعوبها، لا كحل خارجي مفروض في لحظة انهيار. وتجارب التقسيم السابقة في سوريا، زمن الانتداب الفرنسي، لا تزال حاضرة في الذاكرة الوطنية. آنذاك، حاولت فرنسا فرض كيانات طائفية منفصلة – كدولة العلويين ودولة جبل الدروز ودولة حلب – لكنها فشلت جميعها أمام مقاومة السوريين وتشبثهم بوحدة بلادهم.                                      

اليوم، حين يُعاد طرح الفدرالية، من المهم التساؤل: هل هذا النموذج سينتج دولة مستقرة أم أنه سيؤسس لنزاعات دائمة بين كيانات ذات ولاءات خارجية؟ في بيئة كالسورية، مثقلة بالتدخلات الأجنبية، ومفتقرة إلى الثقة المتبادلة، فإن الفدرالية قد تتحول من وسيلة تنظيم إداري إلى أداة للتفتيت والتنازع.                                                                        

هذا لا يعني إنكار مشروعية بعض المخاوف التي تُعبّر عنها مكونات مختلفة، خصوصًا تلك التي عانت من التهميش أو الإقصاء. ومن الطبيعي أن تبحث هذه الأطراف عن ضمانات حقيقية لحقوقها ومكانتها في الدولة المستقبلية. لكن الحل لا يجب أن يكون في تغيير بنية الدولة بشكل جذري، بل في تطوير نظام لامركزي إداري، يمنح المحافظات سلطات موسعة في مجالات التنمية والتعليم والصحة والإدارة، مع بقاء السيادة والقرار السياسي مركزيًا موحدًا.                  

الوحدة السورية ليست مجرد شعار، بل هي الضامن الوحيد لاستقرار المنطقة كلها. وقد أثبتت التجربة السورية – رغم ما مرت به من محن – أن الحس الوطني لا يزال قويًا في وجدان السوريين. ولذلك، فإن الرهان الحقيقي يجب أن يكون على عقد اجتماعي جديد، عادل، تشاركي، وشامل، لا على صيغ جغرافية قد تؤدي إلى تكرار أخطاء الماضي.           

إن السوريين اليوم بحاجة إلى خطاب عقلاني، لا يُقصي أحدًا، يعترف بالحقوق، لكنه يحذر من الوقوع في فخ مشاريع ظاهرها التنظيم وباطنها التقسيم. والفدرالية، بهذا المعنى، تبقى خيارًا خطِرًا ما لم تكن نابعة من توافق وطني حقيقي، وضمن ظروف مستقرة، وهو ما لا يتوافر في المشهد السوري الحالي.                                                         

لنخرج من متاهة الشعارات، ولنتوجه إلى بناء دولة مدنية موحدة، عادلة، تحفظ التنوع، وتمنح لكل مكوناته الشعور بالمواطنة الكاملة.                                                                                                                           


CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق