نحن عائلة مسيحية سورية. لم نحمل سلاحًا، ولم نهتف لزعيم، ولم ننتظر سفينة نجاة من أحد. كل ما أردناه، كان بيتًا دافئًا لأبنائنا… لا خيمة، ولا قاربًا مطاطيًا يبتلعه الموج.
لم نغادر حبًا بالغربة، ولم نبقَ فيه شجاعة. فقط كنا نعلّق أيامنا على حبل الاحتمال، وكأننا في غرفة انتظار طويلة… لا يُنادى فيها على أحد، ولا تنطفئ فيها الأنوار، ولا يصل فيها الدور.
لكن الحرب لا تهدم الجدران دائماً… بل تمحو ظلالنا عن الجدران، وتتركنا نعيش بلا معاني، كما لو أننا لاجئون في لغتنا.
في البداية، آثرنا البقاء. كان مجد في سنته الجامعية الثالثة بدمشق، وجورج في الصف الحادي عشر. أقنعنا أنفسنا أن الأزمة مؤقتة… لكنها، يومًا بعد يوم، تحوّلت إلى مصيدة.
مجد غادر أولًا. حمل حقيبته والتحق بالجامعة الأمريكية في شمال قبرص. تخرج مهندسًا مدنيًا، وبدأ يعيد رسم مستقبله من الصفر.
أما جورج، فاختار البقاء في دمشق. التحق بكلية الصيدلة، وتمسّك بالأمل، حتى بدأ القلق يطارده كما طارد جيله.
متى سيأتي دوري في هذه الحرب… لا كمقاتل، بل كأحد الذين تُغلق الأبواب في وجوههم؟
قال لي ذات مساء: "ما بدي كون رقم جديد ينحط على طرف… أنا ما بشبه حدا من هالصراع."
هرب جورج مع أصدقائه ـــ لم يكونوا من طائفته، بل من قلقه المشترك، عبروا البحر والغابات، لا بحثًا عن رفاه، بل عن هوية لا تتطلب دمًا. لم يكن يريد اسمًا فخمًا… فقط لقبًا بسيطًا: لاجئ… لا مقاتل.
في تلك اللحظة، أدركت أن معركتي الحقيقية ليست في السياسة، بل في حماية حياة أولادي — لا من أجل وطن مجرد، بل من أجل حياة ملموسة، قابلة للتنفس.
وبفضل دعم أعمامهم في الغربة، تمكّنا من دفع البدل النقدي. لحظتها صدّقنا أن كل شيء انتهى، وأن مجد وجورج نالا حريتهما. اعتقدنا أن ذلك يكفي. لكن الوطن، في نسخته الجريحة، لا يغفر حتى لمن لم يخطئ.
عاد مجد إلى تركيا بعد تخرّجه، وعمل مع منظمات إنسانية تعنى بالنازحين، خاصة في مخيمات إدلب. لم يكن ناشطًا، ولا ممولًا، فقط شابًا قرر أن يمنح الآخرين ما استطاع من كرامة مؤقتة.
قال لي ذات مرة: "بالخيمة ما حدا بيسأل عن الهوية… البرد بيقرص الكل، والرحمة ما إلها طايفة."
لكن الوطن، في نسخته المكسورة، لا يرى إلا بعين واحدة. في ملف أمني مجهول، وُصم مجد بأنه "مموّل إرهاب". لأنه أعطى بطانية لطفل… فكان ذلك، في نظرهم، دليل إدانة.
قال لي بصوت مبحوح عبر الهاتف: "ما سرقت، ما قتلت، بس عطفت على طفل… واليوم مطارد! إذا هي العدالة، فشو ضل من هالبلد؟"
صرنا لا محسوبين على الميّتين… ولا مقبولين بين الأحياء.
جورج، في المقابل، شقّ طريقه نحو البرمجة في ألمانيا. قال لي مرة بابتسامة متعبة: "الكود … ما بيسألني مين أنا… ولا بيطلب أوراق انتماء. الكود يا بيّ… بيشتغل، أو ما بيشتغل."
وبقينا نحن، نمشي على سلك مكهرب بين الداخل والخارج. لا نحن في الغربة تمامًا، ولا الداخل يحتملنا. كل واحد منّا في غرفة انتظار… لكن الانتظار لا ينتهي.
فيما كانت الحرب تواصل فصولها، وتُراكم موتًا بلا أسماء، كانت ابنة عمّي — شابة صغيرة، عائدة من مدرستها في ساحة باب توما — تمشي بخطى عادية، في يوم عادي، حين باغتتها قذيفة.
سقطت عليها فجأة، كما تسقط الحقيقة على حلم. دفنّاها بصمت، كما يُدفن الحلم حين يفقد معناه — بهدوء، وعلى عجل، كأن الحزن نفسه أصبح طقسًا روتينيًا في هذا البلد.
بعد أيام، نجوت من قذيفة أخرى في برج الروس. السيارة تضررت، جسدي نجا… لكن قلبي لم يخرج من تلك اللحظة أبدًا.
السوري لا ينجو… هو فقط يؤجّل موته، ثم يكتبه لاحقًا في قصة، أو يرويه كأنه حلم سيئ.
كل ما أردته حينها، أن يُكتب على وجوه أبنائي لقب "لاجئ"… لا "شهيد".
واليوم، بعد أن أسدل الستار على مرحلة، كُشف عن أخرى… ما زلنا نبحث فيها عن هوية لا تتناقض مع قناعاتنا.
لا نعرف إن كنا سنبقى، أو إن كان من غادر سيعود، ولا إن كان في هذه البلاد متسعٌ لمن اختار أن ينجو بإنسانيته بدل أن ينتصر بسلاحه.
كنا ضد الحرب منذ بدايتها، لا عن خوف… بل عن وعي بأن الدم لا يُبني عليه وطن.
رفضنا القتل، ورفضنا التبرير. رفضنا أن يتحوّل أولادنا إلى جنود في جبهات لا تشبههم.
ربما يحدث شيء… وربما يستمر الصمت كأنه قدر. لكن كل ليلة، حين نطفئ ضوء البيت، نشعل شمعة في القلب. شمعة لا تنير الطريق، لكنها تمنع العتمة من ابتلاع ما تبقى فينا من إيمان.
نحن الذين لا نعود… لأن لا شيء يشبهنا هناك.
ولا نغادر… لأن شيئًا فينا لا يزال هناك.
نحن الذين لا نعود ولا نغادر… لكننا لا ننسى… لأننا لا نملك ترف التجاهل.
0 comments:
إرسال تعليق