العديد من الأمور اختلطت على بعض اليساريين والقوميين و بعض شرائح الليبيراليين، حيث هم، تلقائياً، بالفطرة والسليقة والفهم الماشيني للأمور، ضد كل ما تفعله الولايات المتحدة، وضد ما يصدر عنها، وضد قيمها بالمطلق، وبالتزامن يلتصقون بدبق وهم العلاقة والتشابه بين روسيا الحالية والإتحاد السوفياتي السابق. تستنتج من أحاديثهم وكتاباتهم بأنهم بالكاد يلحظون الفرق بين نظامين يتمايزان حتى الإفتراق داخلياً وخارجياً، في الاقتصاد والسياسة، سيما العلاقة مع إسرائيل، على سبيل المثال لا الحصر.
الهوى الشخصي للكثيرين منهم يماهي التمني بالواقع، يدافعون عن الرئيس الروسي بوتين بالحدة نفسها التي يدافعون فيها عن ماركس ولينين وستالين وتروتسكي وبريجينيف وأندروبوف وسواهم، ولا يدرون بأنه منذ مجيء بوتين جرت الكثير من السواقي باتجاهات متنوعة تحت أرض روسيا وفوقها.
يكرسون بوتين بطلاً تقدمياً ويساندونه ويشيدون بإنجازاته، لأنه باعتقادهم، من خلال مغامراته في السنوات القليلة الماضية، التي بدأها في الشيشان مروراً بجورجيا وأوكرانيا واحتلاله لشبه جزيرة القرم، وأخيراً تنمّره في سوريا، إنما هو ينتقم "لَـهُـم" من الولايات المتحدة الأميركية بسبب دورها في انهيار الاتحاد السوفياتي، وبأنه مناصر للثورات واليسار ورفيق ممانعة، ولعله يوماً ما، أجل يوماً ما، يعيد مجد الاتحاد السوفياتي السابق.
ليتهم يسألون أنفسهم، هل يمكن لمن يتصرف كبوتين في شؤون دولته، وفي خارجها، أن يمت إلى الإشتراكية بصلة؟ نخشى أن يمنعهم غول المكابرة من الإعتراف بالحقيقة بعد إضاءتنا هذه على سيرة الرئيس يلتسين.
بحرص وعناية مميزين أقدم بوتين، حين كان يمسك بزمام المخابرات بين عامي 1998 وعام 2000، على التسلل بأولى خطواته صعوداً على سلم السلطة والنفوذ والمال والهيمنة الشمولية والبلطجة السياسية، إذ شرع بإرساءِ مداميك بناءٍ لخطته للوصول إلى منصبهِ الحالي كرئيس للإتحاد الروسي عبر التشييد على ثلاثة ركائز تتمثل بـ : 1- الإمساك بالمفاصل العامة للدولة، 2- الإمساك بالشركات التي تملكها الدولة، 3- استقطاب رؤساء الشركات الخاصة المملوكة للمقربين من بوتين، ثم بدأ بعدها أعمال البناء لبنة لبنة.
نبدأ بالحلقة الأولى. بعد أن تبوأ بوتين منصب الرئاسة عام 2000 عمد إلى السيطرة على أجهزة الإعلام وهيمن عبر رجاله على القضاء، ما أمَّن له أكثرية مريحة في انتخابات عام 2003 في المجلسين الأعلى والتشريعي، وبعدهما هيمن على مجلس الأمن الروسي عبر تثبيت ثلاثة من محسوبيه من كبار الجنرالات في المراكز القيادية الأولى وهم : سيرجي إيفانوف ونيكولاي بتروشيف وألكسندر بورتنيكوف.
كرجل مخابرات، وبمكره ودهائه اللذين اكتسبهما خلال عمله في الـ كي جي بي، آخرها في ألمانيا الشرقية سابقاً، انتقل بوتين بعدها إلى الحلقة الثانية لجني ثمار الشركات المملوكة للدولة، مبتدئاً بالهيمنة على عملاق الطاقة غازبروم عبر تعيين ثلاثة من أتباعه كمدراء تنفيذيين وهم : إيغور سيشين وألكسي ميلر وسيرجي شيميزنوف. أعقب ذلك بإحكام قبضته على القطاع العام أثناء فترة رئاسته الثانية عام 2007 من خلال إنشاء شركات عملاقة خاصة، جميعها بتمويل شكلي رخيص مدعوم من الخزينة العامة.
وبما أن بوتين يدرك جيداً بأن ضمان نجاحه يعتمد إلى حد كبير على تركيب الضلع الثالث لمثلثه المتمثل بحيتان رأس المال عبر التعاون مع الشركات الخاصة التي يمتلكها أصدقاؤه المقربون : جينادي تيمشينكو، أركادي روتنبرغ، يوري كوفالشوك، و نيكولاي شامالوف، اجتذبهم لضفته عبر تأمين حماية قانونية لنشاطاتهم المشبوهة، ومنحهم امتياز حق شراء أصول من شركات حكومية بأسعار تقديرية، إضافة إلى منحهم حق التعاقد مع الدولة لتلبية المشتريات الحكومية دون منافسة.
حين غدا وضع بوتين المريح جداً في القرن الواحد والعشرين أشبه بوضع القيصر في القرن السابع عشر، وذلك بعد شده بعقارب زمن الديمقراطيات إلى عهد ما قبل عصر فصل السلطات، وبعد أن أمسك بيديه مفاتيح السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية، أمَّـن لنفسه سلطة مطلقة بما فيه حماية النشاطات غير المشروعة لأتباعه كالاستيلاء على ممتلكات الدولة والثراء الفاحش على حساب الخزينة العامة وغسيل الأموال وما شابه.
أضحى من الواضح بأن أي دولة لا يكون فيها القضاءُ مستقلاً لا تستحق اسمها. يستشهد مناصرو استقلالية القضاء بعبارة لرئيس وزراء بريطانيا الأسبق ونستون تشرشل حين ردّ بثقة حيال تخوّف شاع على مصير بريطانيا الشبه منهار في حينه، أثناء أحلك ظروفها في الحرب العالمية الثانية : "لا قلق على بريطانيا طالما قضاؤها بخير" .
عِـبرةٌ أخرى تأتينا هذه المرة للأسف من عدو، جرت أحداثها بعد نجاح النواب الأربعة عن حركة حماس: خالد أبو عرفه و محمد أبو طير و محمد عمران وأحمد التون في انتخابات 2006، تم اعتقالهم يومذاك من قبل سلطات الاحتلال بإيعاز من وزير الداخلية في حينه روني بار، وتم تجريدهم من حق تصريح الإقامة، وكثمرة لنعمة استقلالية القضاء تم إلغاء الإجراء حين طعن القاضي عوزي فوجلمان به عام 2011 مسوِّغاً طعنه بما يلي :" القانون لا يعطي وزير الداخلية حق إلغاء تصريح الإقامة لمجرد "عدم الولاء". علماً بأن عدم الولاء في ظل العديد من الأنظمة، ومن ضمنها نظام بوتين، يعطي حق الضرب بالسيف لمن بيده السيف. بوتين ليس رفيقكم أبداً يا سادة! يا من أصِبتم باعتلال الحَـوَل السياسي.
يحق للمرء أن يتساءل : هل كان بوتين ليجرؤ على العبث بمكونات الدولة وثرواتها وتغطية المخالفين لو كان القضاء في روسيا مستقلاً ؟ ، ولو كانت السلطة التشريعية حرةً؟ . "عدم الولاء" عبارة مطاطة قابلة لأن تحرم المواطن من وظيفته ولقمة عيشه، وربما أدت به إلى حبل المشنقة. يا لهول جريمة "عدم الولاء" بعين المستبد !!
0 comments:
إرسال تعليق