هُـويّـتُـنا ... ومحلّنا من "الأَعْـراب" ومن وحي الإنتفاضة/ محمود شباط

قيلَ وكُتِبَ الكثيرُ عما يعنيه مصطلح الوطن، منهم من اعتبره البيت الكبير، ومنهم ، ككمال الصليبي، من ذهب إلى تفصيل أدقّ حين شبَّه لبنان بـ "بيت بمنازل كثيرة" في كتابه الذي يحمل نفس العنوان، والذي منه، ومن مناهل أخرى، سيرد استاذ التاريخ الدكتور إبراهيم أبو مهاب،  ويروينا.
بعد هـبَّـة 17 تشرين أول 2019، وازدحام الساحات والميادين بشباب وصبايا يحتجُّون على سوء الوضع المعيشي في كافة أرجاء البلد، وسوء إدارة البلاد قبله، اتخذت جمعيّة "بدّك وطن كون مواطن" قراراً بانتداب العضوة القيادية فيها، الصحفية جوليانا مْكَوكَبْ وزميلها زياد جرجي والشاعر حارث البواردي، للقيام بزيارة الدكتور أبو مهاب في منزله الجبلي المطل على بيروت، للتعرف على محتويات كتابه الأخير : "هُويّتنا ... ومحلّنا من (الأَعْـراب)"، كما للتطرق لشؤون وشجون هذه الانتفاضة الأخيرة. 
أثناء انتظارهم على الشرفة، كانت جوليانا وزياد يعيدان النظر في بعض الأسئلة، بينما انشغل حارث عنهما بمتابعة أحب السيمفونيات إلى قلبه وعقله، إلى ريح الوادي تعزف على أوتار الأشجار، وتُـرنّم أغنيةً حزينة كأناشيد العبيد. 
وحين استكانت الريح الخريفية دون أن تستكين  ريح مشاورات تهامسية بين جوليانا وزياد حول صيغة الأسئلة الـمُزمع طرحها على الدكتور، سرح زميلهما الشاعر الشاب بناظريه عبر زجاج الشرفة مُتملـيّـاً بسحر حبيبته بيروت، محاولاً تخمين أين تقع ساحة الشهداء وساحة رياض الصلح حيث تجمّعات الصبايا والشباب من المحتجين. ، وحيث تعوم الأضواء المتناثرة المسترخية على حرير سرير بيروت كحبيبات لؤلؤ وماس وزمرّد ، تبرق في بحر العتمة كخرز مُلوّن يتلألأ على فستان صبيّة صغيرة حلوة، متحسراً على عِفّتها من دبق مغتصبيها. 
اعتدل حارثٌ فجأة وبسرعة في جلسته وأكسبها جديّة أكثر ثم قال لرفيقيه : وَقْعُ خطواته ؟ أليس كذلك ؟
*******************

المقابلة :
بحدود التاسعة مساءً طرحت جوليانا سؤالها الأول :
- "قريباً سيكون قد مرَّ مائة عام على إعلان الجنرال الفرنسي هنري غورو لدولة لبنان الكبير، وثلاثة وسبعون عاماً على نيلنا الاستقلال. ولم نُـفلح كلبنانيين في ترسيخ أسس دولتنا الفعلية كما يجب أن تكون رغم ما ينسبه البعض لنفسه عن وراثته لـشطارة التاجر الفينيقي. لماذا برأيك يا دكتور ؟
- "توقّعتكِ أن تسألي عن الانتفاضة أولاً نظراً لأهميتها". ارتسم نصف ربع ابتسامة على محيا البروفيسور، وهو الذي قَـلَّـما يبتسم، ثم قال : 
- هُويَّة الوطن يا أستاذة هي أبُ وأمّ هوية المواطن، حتى الرضيع حين تناديه باسمه يلتفت بتحبُّب ويستجيب بتودّدٍ كثمرةٍ لإحساسه بكينونته و بهويته. منذ تأسيس لبنان الكبير عام 1920، وما قبله حتى، ما فتئنا نواجه صعوبات تتعلق بتسمية المولود-الوطن، وخلافات على هويته رغم أهميتها. 
نظر صوب بيروت وأشار بيده صوبها:  آمل أن تزرع انتفاضة سوء الأحوال المعيشية والثورة على الفساد بذور ورود هويتنا. عجيب أمر شعبنا، يتضامن أفراده لإطفاء نيران الغابات وضد قانون الإيجارات، وما شابه، و لم يكن توحيد الهوية ضمن اهتماماته يوماً، بل بالعكس، كان هناك من يضع العراقيل والمعوقات.  
- سأله زياد : ما هي أهم المعوقات أمام توحيد الهُوية برأيكم؟
- هي عديدة وسوف أذكر إحداها على سبيل المثال لا الحصر. المسيحيّون، أو لنقل القسم الأعظم منهم، رغم جذورهم العربية الغَسَّانية التي لا شكّ فيها يرغبون في الابتعاد عن العرب. والمسلمون، أو لنقل الجزء الأعظم منهم، يصرّون على الوحدة والاندماج مع محيطهم العربي ولكنهم يخلطون بشكل قاتل بين العروبة والإسلام. وإلى أن تتوحّد نظرة اللبنانيين إلى الهوية والوطن سوف يبقى دُبُّ الـ "نحن والـ أنتم" يعيث تحطيماً بمحتويات الثمانية عشر منزلاً كل بضعة سنين، ما يَحولُ دون حلّ المشكلات القائمة المزمنة والمستعصية، لغاية الآن.
سأله زياد: 
قلت "لغاية الآن" أستاذنا، استنتجتُ من ذلك أن المستقبلَ قد يحمل لنا بشائر حلّها،وبالتزامن، فهمتُ من ردّك تفسيرين متناقضين، في الأول تشاؤم وتخوف من نشوبِ حربٍ "كلّ بضعة سنين"، وفي الثاني تفاؤل بإمكانية حلّ المشاكل المستعصية "لغاية الآن" حسب تعبيرك. أخالك بعبارتك تلك : "لغاية الآن"، تستنهض إضاءة الشمعة وتاريخك العلماني المعروف العابر للطوائف. أتذكَّرُ جيّدا ما قلته لنا يوماً في إحدى محاضراتك: " لا يهمّني كيف يُصلّي الآخر وإلى من يُصلِّي، هذا إن كان يصلّي، أو أراد أن يصلي، بل كيف يُـجَسِّـد إيمانه بصدق مع ذاته أولاً" 
قال الدكتور لزياد: أجل ! أتذكر ذلك، ولكن كيف يمكن للمرء تجسيد إيمانه إن لم يُطهِّر نفسه وجسده من خرافات عششت في كيانه الخانع الخاضع المقموع، وبعقله الإسفنجي الجاهز لامتصاص ما يصله دون تنقية أو تمييز الغث من السمين. الشحُّ في الثقافة ناتج عن شحٍّ في القراءة، كما في وضع الأواني المستطرقة، العلاقة متبادلة كما ترى، ووثيقة، نقص القراءة يستجر نقصاً في الثقافة والوعي وصحة القرار، بالمقابل، استطراداً : يتساءل المرء ببساطة : " ولماذا يقرأون طالما تشبَّع "إسفنج" أدمغتعم بما رواه لهم الآباء عن الأجداد عن تاريخ الطائفة، وبما نقشه رجال الدين في عقولهم اللينة المتبرعمة الطرية؟  
- سألته جوليانا : هل تنوي الترشح للإنتخابات النيابية ؟
- تجهّمَ وحَرَّك رأسه يمينا ويساراً
- أكْمَلتْ الفتاةُ بإلحاح وحضٍّ واضحين في محاولةٍ للتأثير إيجابيا على قراره : "لدينا وعود بآلاف الأصوات من حركات شبابية وجمعيات جديدة مستقلة".
- اعتبري يا ابنتي بأني صدَّقتك ووثقت بحسن نيَّتك، إنّما قولي لي : ما الذي سيبقى من صوتك وأصوات أمثالك ممّن يُغرِّدون خارج أسراب طوائفهم سوى أصداء بائسة يتيمة ؟ وما هو مدى تأثير أصواتكم في عتمة نظام أعدَّه مهندسوه كي يسير على "زِفْتِ" طرقاتهم فقط، ألا يتوجع قلبك وعقلك وكيانك حين تدهس المحادلُ صوتَك... ورأيك؟ ما الذي يتبقى من إنسانية الإنسان بعدها؟ أنا سأقول لك ، سوف يبقى مخلوق يأكل ويشرب ويتنفس ويتناسل وينام ...أقل من نصف انسان ... إن لم يكن أسوأ.
- سأل زياد : هل تعتقد بأن "أصحاب المحادل" ، أو عدداً منهم على الأقل، مقتنعون بصوابية وعدالة استخدامها في الإنتخابات؟ أم أنها بالنسبة إليهم اضطرارا لا خيارا؟ 
- افترض نفسك مقاولاً بين عدة مقاولين آخرين وطلب منكم التقدم بعروض لتنفيذ طريق مشكوك بمشروعيته ويسبب أضرارا للمصلحة العامة. هل تتقدم بعرضك رغم علمك بعدم قانونية العرض والمشروع ؟ أم أنك تلجأ إلى قاضيك الأول والأخير ؟ 
- فهمتُ . بطبيعة الحال سوف أحَكِّمُ ضميري .
- وبعدها، تكون قد أنقذت ضميرك وقناعتك ولكنك قتلت محدلتك. هذا عداك عن الشك في إمكانية وجود مفردة الضمير في قاموس السياسة.  على أي حال، وكما يقول المثل العامي :"لا الموت هين ولا كيد العدا هين"، القرار يحتاج إلى شجاعة ورجولة . أنت من يقرر.
- سمعنا أنه في عدد من الدورات الإنتخابية كان بإمكان المرء أن يجزم باسم القوائم الرابحة بمجرد نشر اسماء المرشحين، وكيف كانت الأصوات المعترضة تتشتت كالرماد في ليلة عاصفة رغم حجمها الفعلي المعتبر . ما الحل؟
- قال الدكتور : لا بصيص أمل في الإصلاح "من فوق"، الخبز الذي تقتات عليه الطبقة السياسية هو تبعثر أصوات المعارضين في عشرات الجمعيات والأحزاب المعارضة الصغيرة. ثم أكمل : كم تشبه جسور الهروب من جحيم اللادولة إلى نعيم الدولة الهروب من اللاعقل إلى العقل. صَمتَ للحظاتٍ ..: مشكلاتنا الموروثة والقائمة تشكل عبئا كبيراً على بلد صغير. خمسة ملايين نسمة مُوزَّعُون على 18 طائفة. نَـدخُـلُ، أو نُدخَـلُ، كل عقد أو عقدين من الزمن ، كما ذكرت لكم سابقاً، في نَـفقِ صراعات الآخرين، أحيانا يُـلبسون الصراع ثوباً طائفياً، وأحياناً عباءة قومية، يتعاملون معنا كسلعة ورقم وصوت غبّ الطلب، لا وميض أمل بالتغيير طالما نحن نرى بعيونهم ونقرأ بأسفارهم، سوف نظلّ نُدَوِّمُ ونُدَوِّمُ ونُدَوِّمُ في حلزون "نحن شعب الله.. أما أنتم فمن أنتم؟ " ونستدعي الخارج كي يناصر فريقاً ضد آخر. إلى أن تنفر منّا وتقرفنا صَدَفَةُ الحلزون وتلفظنا مثل بصقةٍ ملتاثة موبوءة وتلعننا جميعاً .

سألت جوليانا : غريب أمر إصرار زعامات الطوائف اللبنانية على الرغبة بالتفرد والهيمنة على البلد. كلهم حاولوا وكلهم فشل أو سيفشل. أخالهم يتداورون ولايعتبرون.
على الطامح في هيمنة طائفته على الوطن، كائناً من كان، أن يقرأ التاريخ عله يغادر تهاويم غروره، وأن يتذكر ما قاله الخليفة المأمون أثناء عذابه خلال احتضاره، حين طلب جلد دابة، غطوه له بالرماد وصار يتمرغ عليه ويناشد الذات الإلهية :" يا من لا يزول ملكك إرحم من زال ملكه". أو ما قاله الإمام الأوزاعي لأبي جعفر المنصور :"لو دامت لغيرك ما وصلت إليك".
أكمل الدكتور: ليس بإمكان فئة أو شريحة أو طائفة أن تقوم بمهام الدولة، مهما بلغت من قوة ونفوذ وسلطان، ولئن غامرت وفعلت فسوف تنوء وتئن بعد حين من ذلك العبء، ومن عبثية الدب الذي أحضرته إلى كرمها. والذي يتسبب لها بعداوات تجر عليها الوبال والحقد والكراهية من فئات الشعب الأخرى، (شريكاتها في الوطن)، وسوف تكتشف استحالة التفرد والهيمنة وثقلها الباهظ بعد فوات الأوان حين ينتقل زعماء الطائفة إلى مقاعد المتفرجين، وحين يبدأ مسلسل انتقام عامة الخصم من عامة الطائفة. في النهاية على اللبنانيين أن يجدوا أنفسهم ويعرفوا لماذا هم لبنانيون، و المراحل التاريخية التي مروا بها كي يصبحوا لبنانيين. هم، وبجميع طوائفهم، يعلمون بأنهم كانوا في الأصل مجموعات متفرقة جمعتهم الصدف، أو ظروف وأسباب معينة، قسرية أم اختيارية، في منطقة جغرافية واحدة. عليهم أن يعوا من هم فعلاً ، وبغض النظر عن الطريقة التي يُسوُّون بها خلافاتهم في كل مرة، عليهم أن يتفقوا على قراءة موحدة، أو متقاربة لتاريخهم، وإلا فإنهم سيستمرون في البقاء مجموعة من العشائر البدائية المتنافرة أصلاً، يحلو لها أن تسمي نفسها "عائلات روحية". وسوف يبقى لكل "عائلة" امتداداتها الخارجية إقليميا ودولياً، تحمل في صلبها صواعق تفجيرها تنفجر بعد حين، يتولد عنها صواعق جديدة مبرمجة كي تنفجر بعد حين . 
ابن الوطن أم ابن الطائفة ؟
- سألت جوليانا : وباء الطائفية مستشر في بلدان عربية غير لبنان. هل ترى بأن استعدادنا الفطري للخضوع للطائفية بالولادة والنشأة أغرى مبعوث بوش الإبن الأميركي بول برايمر بالتجرُّء على تكريس الطائفية في العراق بعد الغزو الأميركي عام 2003 بدستور مفصّلٍ بمقص طائفي بامتياز.  أنظر إلى ما كان ذات يوم عراقاً عزيزا قويا أبيا غنيا ثريا، وانظر إليه اليوم بمُكوّناته الرئيسية الثلاثة : شيعة وسنّة وكُرد، ترى فيديرالية بثلاث أمم لايجمعها سوى الاسم والعلم. يستغل الأجانب ثغراتها ويَسْتَعْدُونَ  الشقيق على الشقيق، يُقدِّمُون لهم الدعم.. ثُــمَّ ... ، بليلة ما لها ضوء قمر، يتخلَّون عنهم عند أول صفقة مُربحة. هل تعتقد بأننا سنرى العراق الذي كان مرةً أخرى؟ عراقا واحدا موحداً ؟
- لا أظن !! إلا في حالٍ من اثنتين .
- ما هما ؟
- في الحال الأولى : أن يبرز جيل عراقي جديد يعي أين تكمن مصلحته، وبذات الوقت يعلي مصلحة وطنه فوق مصلحة طائفته.
- وفي الحال الثانية : أن يتم توحيد العراق بالقوة وغصباً عن إرادة أهله، في وضع كهذا تكون المكونات العراقية الثلاثة التي ذكرت "محشورون" في وحدة كتلك التي كانت بعض الكيانات العربية الحالية كسوريا والأردن وفلسطين والعراق وسواها محشورة فيها  كجزء من الأمبراطوريات الرومانية والعربية وغيرها، من المؤكد بأنها كانت "موحّدة" لأنها أُرغِمَتْ على أن تكونَ "مُوحدة"  وليس بدافع رغبتها بالوحدة. ذلك كون الوحدة تحتاج إلى قرار ، والقرار لم يكن بيد تلك الكيانات العربية التي ذكرناها.
هَـمَّـتْ جوليانا بطرح سؤالٍ جديد فقاطعها الدكتور بإشارةٍ من يده :" لم أكمل الردّ بعد" . ثم قال : بما يتعلق بطائفيتنا "بالولادة والنشأة" كما ذكرت في سؤالك، أوافقك على مسألة "الطائفية بالنشأة"، ولكن ليس على "الطائفية بالولادة"، إذ ما من طفل أعطي الخيار كي يختار دينه.

- قالت جوليانا بأسى :واحسرتاه! الحال ليست بأفضل أحوالها حتما في العديد من البلدان العربية التي أصبحت مناطق نفوذ إقليمية ودولية، منها ما قُسِّمَ فعلاً، وبانتظار الوقت المناسب لإعلانه، ومنها ماهو على وشك التقسيم. التاريخ يعيد نفسه،ما كان يسمى في عهد الانتداب مندوبا ساميا صار يجول في ديارنا باسم "المبعوث". 
- همهم الدكتور: لما العجب ؟؟ ما يدور حالياً على ساحاتنا البائسة هو التجسيد الفعلي لما توعَّد به الأميركيون من "فوضى خَلّاقة". انتبهي يا عزيزتي! إنها فوضى، انتبهي مرة أخرى ! إنها خلاقة ! خلاقة ماذا ؟ خلاقة فوضى ؟ فوضى ماذا؟ فوضى خلاقة . أرأيت ؟ إنها دائرة لعينة مقفلة. ارتشف جرعة ماء وأكْـمَـلَ : آخر حروب الأوروبيين الدينية كانت في إيرلندة بين البروتستانت والكاثوليك، التي كان أحد أهم روافد تمويلها معمر القذافي، ذلك الرئيس السابق الذي سوَّقَ زعامته لأكثر من أربعين عاماً على أساس عروبي، يموِّل حروبا في بلاد بعيدة ويهمل إكمال بناء مستشفى في بنغازي تأخر افتتاحه عشر سنوات عن الموعد المقرر لإنجازه.  انتهت تلك الحرب الإيرلندية، وكان قبلها حروبا كثيرة منها حرب الثلاثين سنة التي استمرت من العام 1618 إلى العام 1648. تلك الحروب الدينية في أوروبا ذهبت إلى غير رجعة على الأرجح، طواها النسيان عندهم بينما أضرمتها الغرائز العمياء عندنا. هم انتهوا منها ونحن بدأناها عبر ذلك المولود المسخ الذي سُمّيَ بالربيع العربي. هذه ليست التسمية الخاطئة الوحيدة في تاريخنا، ثمة فائض عن الفائض، أذكر منها ما قاله المتنبي هاجياً قاضٍ من آل الذهبي :
لمّا نُـِسبتَ كُنتَ ابناً لغيرِ أبِ
ثم اختُبرتَ فلم ترجع إلى أدبِ
سُـمِّيتَ بالذهبيِّ اليومَ تسميةً 
مُشتقةً من ذهاب العقلِ لا الذهبِ
*****************
انتماء اللبناني بين العروبة والفينيقية.
- سألتْ جوليانا: ثمة شرائح لبنانية - دينية وسياسية واجتماعية وثقافية - ، من مشارب متنوعة، تعتقد بأن لا شأن لنا بالعرب ولا شأن لهم بنا كوننا من أصول فينيقية . بماذا تردون على هؤلاء ؟
عبسة الدكتور أوحت للفتاة بأمر لم تتأكد منه، ولكنها عرفته حين  قال : 
أولاً - بخصوص الأصول : يذكر المؤرخ هيروديتس بأنه حين زار المنطقة في القرن الخامس قبل الميلاد، أخبره شيوخ صور الفينيقيين بأن جذورهم تعود إلى أصول عربية، وبأنهم نزحوا من شبه الجزيرة العربية قبل ذلك التاريخ بثلاثة وعشرين قرناً.
ثانياً – الإرث الحضاري : 
لم يترك الفينيقيون إرثاً حضاريا مكتوباً رغم استخدامهم للأبجدية. الورثة كثر والإرث قليل: بعض القوميين العرب يعتبرون الفينيقيين عربا قدامى نزحوا من شبه الجزيرة العربية إلى سواحل لبنان وأجزاء من ساحلي سورية وفلسطين. الحزب السوري القومي الإجتماعي بدوره يعتبر الفينيقين جزءاً من إرث الأمة السورية. هذا إضافةً إلى الفينيقيين اللبنانيين. ولا تنسي إضافة إلى عنصر اللغة، وهي إحدى أركان القومية، هل تساءل يوماً من يتباهون بأنهم فينيقيين لماذا يتكلمون العربية، وأحيانا الفرنسية، وليس الكنعانية التي كان يتكلمها الفينيقيون؟.  
ثالثاً- الجغرافيا:  كانت حدود المدن-الدول الفينيقية تمتد على ساحل البحر الأبيض المتوسط من اللاذقية شمالاً، حوالي 100 كلم داخل سورية حتى عكا جنوباً بحدود 20 كلم داخل فلسطين. ما أود قوله هو أنه  في عالم مُتَعَولمٍ مُتغيّر تحكمه القوة والمصالح، ما الذي يمكن حدوثه لو أوعزت جهة ما لهؤلاء السوريين والفلسطينيين للمطالبة بالجنسية اللبنانية استنادا إلى "فينيقيتهم" ؟ . 
إذا حاولت السلطات المختصة في وضعنا الحالي تجنيس بضعة أفراد سوف تقوم الدنيا ولن تقعد، فما بالك لو تضخَّم ذلك العدد ليصبح بملايين السوريين والفلسطينيين ... وبأكثرية مسلمة ربما؟ 
- سألت جوليانا : أليس لنا من روابط أخرى بالفينيقيين ؟ 
- زمّ الدكتور شفتيه وبدأ يشرح : شاءَ "المُـتَـفَـيْـنِقُـون" أن تبدأ، وتنتهي، رواية تاريخ لبنان عند مجد خرافي يزيِّن لهم بناء قصور هلامية على رمال اللاذقية وجبيل وبيروت وصيدا وصور، وانتهاء بـ عكّا.ولكن دورة الزمن شاءت أن يتوقف وجه الحظ عن الابتسام لفينيقيا حين غزاها الفرس وأنهوا استقلالها في القرن السادس قبل الميلاد. وبعدها بقرنين غزا الإسكندر الكبير الفرس وطردهم من بلادنا.. ثم، بعد حوالي قرن من الزمن، بدأت أمبراطوريته تتفسّخ بعد موته، حيث تقاسمها كبار العسكريين، فكان لبنان جزءاً من المملكة السلوقية التي شملت معظم بلاد الشام وكانت عاصمتها أنطاكية.
- علَّق زياد: الأمور تسير، كما أراها "من تحت الدلفه لتحت المزراب"، بلدنا ، أو ما أصبح بلدنا لاحقاً، تفلته يد لتمسك به أخرى، انتزعه الرومان من اليونان على ما أعلم ؟ هل أنا مصيب ؟
- صحيح ، في القرن الأول قبل الميلاد جاء الفتح الروماني وأصبح لبنان جزءاً من مقاطعة سورية ضمن الإمبراطورية الرومانية التي تمددت في ذلك الوقت لتضم جميع أنحاء البحر الأبيض المتوسط. واستمر الرومان في بلاد الشام حتى الفتح العربي في القرن السابع للميلاد.
- سأله حارث : أين كان ثقل الوجود المسيحي في تلك الأيام ؟
وضع راحته على جبهته وصمت لبرهة ثم قال :
- دعونا نعود زمنيا بشطحة ضرورية واجبة التوضيح قبل كل تلك الأحداث، أي بحدود القرن الرابع للميلاد، كان قد تم نقل عاصمة الإمبراطورية الرومانية من روما إلى بيزنطه،(القسطنطينية أو اسطنبول حاليا) حيث صارت بيزنطة تسمى روما الجديدة. ومع انقسام الإمبراطورية الرومانية إلى أثنتين : شرقية وغربية ، غزا الغوط الشرقيون عام 476 الإمبراطورية الغربية، وظلت الإمبراطورية البيزنطية–الشرقية بمنأى عن متناول الغوط. 
- حارث يسأل الدكتور :بمناسبة تطرقك للكنيسة ، كيف أثّرت الأحداث على المسيحية ؟ وبالعكس ؟
- كون رسالة الدين المسيحي انطلقت من الشرق، أي ضمن أراضي الدولة البيزنطية، كان ذلك العنصر الفعال في جعل الدولة البيزنطية تأتي مسيحيّة بالنشأة. بينما كانت الإمبراطورية الرومانيّة الغربية البعيدة، وعاصمتها روما وثنية، وبقيت كذلك لحوالي ثلاثة قرون بعد المسيح.

- سألت جوليانا: ما هو الفارق بين الإمبراطوريتين المسيحيتين المذكورتين من الناحية الإيمانية؟

أقدمت بيزنطه منذ البداية على تعريف الإيمان المسيحي عبر ما عُرِفَ بالإيمان الأرثوذكسي، أي "القويم". وذلك خلال مجمع كنسي عُقِدَ في بلدة نيقية في تركيا في العام 325 للميلاد. وهو ما يعرف لدى المسيحيين بالمجمع المسكوني الأول. ثم جاءت المجامع المسكونية التالية فزادت في دِقَّةِ التحديد الذي أُقِـرَّ في نيقية. 
ولكن ... كما في كل المعتقدات والأفكار، ومع بدء تناقض المصالح وتأجج جمر الشخصانية.  بدأت التباينات في التفسيرات الدينية تطفو على السطح، فإذا كانت الأفكار الإيمانية "النيقية" قد لاقت قبولاً مسيحيا عامّاً فإن أيا من التحديدات اللاحقة للأرثوذكسية لم يلقَ إجماعاً عليه. فمجمع خلقيدونيا الرابع في تركيا مثلاً، رأى بأن على المسيحيين أن يعترفوا بطبيعتين للمسيح، إحداهما إلهيّة والأخرى بشرية.
- سألت جوليانا ؟ مَــن قَـبِـلَ  ومن رفض يا ترى؟  
- مَسيحيُّـو مصر الأقباط، ويعاقبة سوريا، ومؤمنو الكنيسة الغريغوية في أرمينيا آمنوا بأن المسيح إله أصلاً، فأصبحت روما وبيزنطه تنظران إليهم على أنّهم "مونوفيزيون"، أي هراطقة من ذوي بدعة "الطبيعة الواحدة".

- سأله زياد : تحت أي حكم كان لبنان في ذلك الحين، ومتى دخل ضمن منطقة الفتح الإسلامي؟  
- قال الدكتور : بدأ النبي محمد دعوته إلى الإسلام في العام 610 م انطلاقاً من مكة والمدينة في منطقة الحجاز في شبه الجزيرة العربية، وذلك بعد أن أفلح في توحيد العديد من القبائل تحت رايته، وظل يدعو ويحشد حتى وفاته في العام 632 م. أكمل الدكتور :
- بعد وفاة النبي محمد بعامين، بدأ الفتح العربي لبلاد الشام في عهد الخلفاء الراشدين. حيث طردت آخر القوات البيزنطية إلى الأناضول عبر جبال طوروس في العام 641 م. ومنذ تلك الأيام وحتى العام 1918 بقيت بلاد الشام، بما فيها لبنان كما هو اليوم، جزءاً من أراضي الدولة الإسلامية التي تتابع على حكمها الخلفاء الراشدون والأمويون والعباسيون ومن بعدهم السلاطين، باستثناء فترة الحروب الصليبية بين  1098 و 1291م. حيث حكم الفرنجة أجزاء ساحلية من الأراضي السورية.
- سأله زياد : ألم يكن للصليبيين من وجود في المنطقة قبل عام 1098؟   
- رد الدكتور: كان الوجود المسيحي، كما أسلفت، وجوداً بيزنطياً وليس تحت راية الصليبيين، حينها كانوا في أنطاكية، في شمال سوريا، على المجرى الأدنى لنهر العاصي، أي بحدود العام 969، وبقوا فيها في مراحل مد وجزر حتى العام 1085 م. يُوسِّعون سيطرتهم من هناك على أجزاء أخرى من وادي العاصي من حين إلى آخر ما بين 976 و 1070 م.

- هَلا تفـضَّلتَ باستعراض الدول التي تواجدت على أرض لبنان بعد الفتح العربي ؟

- قال الدكتور: بدءاً من القرن السابع للميلاد، كانت الدول التي سيطرت على بلاد الشام أو على أجزاء منها، بما فيها لبنان، من الناحية النظرية أو الفعلية، هي التالية:
1- الخلافة الأمويّة وعاصمتها دمشق من سنة  661  إلى سنة 750، وصلت إلى حدود الهند وآسيا الوسطى، عبر شمال أفريقيا، سواحل المحيط الأطلسي، وأسبانيا والبرتغال في شبه الجزيرة الإيبيرية وسموها الأندلس.
2- الخلافة العباسية وعاصمتها بغداد من سنة  750  إلى سنة 1258، شهدت ازدهاراً ونُموّاً ومجداً في قرنها الأول فقط، شملت في ذروة عزها كل الأراضي التي كانت تحت سلطة الدولة الأموية ما عدا المغرب والأندلس. ولكنها بعد العام 861، بدأت بالتفتت عندما ضعفت سلطة الخلفاء المركزية في بغداد، بجانب منها نتيجة اعتمادهم على الأجانب أمنيا وعسكريا، مما أدى إلى نشوء إمارات وممالك في أنحاء مختلفة من البلاد، تدين لبني العباس بالولاء شكلياً. مثل الطولونيين عام 868 والأخشيديين عام 869. والحمدانيين والمرداسيين بين العامين 845 و 1070.

3- الخلافة الفاطمية : ( 909 – 1171) تأسست في مدينة المهدية في تونس حيث اتخذها الفاطميون عاصمة لهم، نقلوها إلى القاهرة في العام 973  بعد فتح مصر وقضائهم على الدولة الإخشيدية هناك (969). بينما كانت الخلافة العباسية في بغداد على مذهب السنة، كانت الخلافة الفاطمية تقوم على مذهب الشيعة الإسماعيلية. تابعوا توسيع نطاق سيطرتهم على بلاد الشام، بما فيها لبنان. وفي ذروة الحكم الفاطمي في بلاد الشام، اعترفت لهم الدولة المرداسية القائمة في حلب بالسيادة ودانت لهم. 

4- السلطنة السلجوقية وعاصمتها أصفهان في إيران من العام  1058  ولغاية العام 1157، كانوا شديدي التمسك بمذهب السنَّة وذلك ما دفعهم لإنقاذ الخلافة في عامي 1055 و 1058 ، وهم في الأصل من قبائل الغز التركية. 
في العام 1070، انتزع فريق من زعماء الترك بلاد الشام من الفاطميين، ثم لحق بهم الملوك السلاجقة فاحتلوا هذه البلاد وتم بسط سيطرتهم عليها في العام 1086. وصارت مدينة حلب قاعدة الحكم السلجوقي هناك. بعد موت أول ملوك السلاجقة بحلب في العام 1095 اقتسم ابناه بلاد الشام فيما بينهما، فأقام أحدهما في حلب والأخر في دمشق. وحصل بعد ذلك أن حكمت في دمشق، كما في حلب، أسر مختلفة من الأتابكة (وكلاء السلطان أو القصر) الذين يدينون بالولاء اسمياً لا فعلياً للسلطان السلجوقي المقيم في أصفهان.

5- السلطنة الأيوبية وعاصمتها القاهرة من عام 1183 إلى عام 1250، أسسها  صلاح الدين يوسف بن أيوب، أصله كردي أرسله الأتابك نور الدين بن زنكي إلى مصر في العام 1169 حيث أطاح بعد سنتين بآخر الخلفاء الفاطميين وتملَّك مكانه باسم صاحبه نور الدين.
بعد وفاة نور الدين في العام 1174، احتلّ صلاح الدين دمشق، ثم استولى على حلب في العام 1183. وبعد وفاته في دمشق، في العام 1193، أعقبه شقيقه سيف الدين حيث استمرت السلطنة في ذريته حتى العام 1250.
6- سلطنة المماليك: (1261- 1517) 
المماليك رقيق أتراك اشتراهم آخر السلاطين الأيوبيين ودربهم كجنود ليشكلوا الكتيبة الممتازة في جيشه.  ورثوا السلطنة الأيوبية عام 1261، وهزموا المغول عام 1260 في مرج عين جالوت القريب من مدينة بيسان في فلسطين. 
 أ- حقبة المماليك البحرية (مزيج من الترك والمغول) : من عام 1261 إلى عام 1382، وعاصمتها القاهرة. كما اشتراهم السلطان الأيوبي كرقيق ترك، هم بدورهم اشتروا رقيقا من الشركس انقلبوا عليهم حين شعروا بأن وسائل القوة صارت متوفرة لديهم.

ب -  حقبة المماليك البرجية – ( من الشركس) : من عام 1382 إلى عام 1517 )

7- السلطنة العثمانية : (1379 – 1922 ) 
بدأت السلطنة العثمانية عام 1379 كإمارة صغيرة في مدينة إيدرنه الواقعة على الحدود التركية البلغارية، ثم بدأت بالتوسع صوب صربيا واستولت على بعض الإمارات التركية الصغيرة. وفي العام 1516 تمكنوا من هزيمة المماليك في معركة مرج دابق شمالي حلب. وبعد أن صارت أراضي ما يُعرف اليوم بالعراق والكويت وسوريا ولبنان وفلسطين والأردن تحت سيطرتهم أكملوا زحفهم ليستولوا على معظم شبه الجزيرة العربية ومصر، واعترفت لهم بلدان شمال إفريقيا بالسيادة باستثناء المغرب.
على أثر هزيمة الدولة العثمانية عام 1918 في الحرب العالمية الأولى، فقدت السيطرة على أراضيها، ألغيت السلطنة، وصارت بقايا الإمبراطورية جمهورية تركية في العام 1922. ولكنها استمرت كمركز للخلافة الإسلامية لغاية عام 1924 حيث ألغيت الخلافة في ذلك العام ولم تعد قائمة بعده. 
8- الإنتداب الفرنسي لغاية عام 1946.
بين الدين والسياسة:
كما الدم يستسقي الدم الدين يستسقي السياسة، والسياسة تستسقي الدين.
دائرة أخرى مقفلة تزيدها النوازع الخفية في النفس البشرية غموضاً ووحلاً ودما. وغالباً ما يُفلحُ "الطامحون" بإضفاء ستر على طموحاتهم.
ما حدث بعد موت المسيح بين الطائفتين المسيحيتين الرئيسيتين في حينه، الأرثوذكسية والكاثوليكية، وبعدهما البروتستانتية، تكرّر بصيغة أخرى عند الإسسلام بعد وفاة النبي محمد بين السنّة والشيعة، وبعدهما الاسماعيلية وفرق أخرى. إذ كان الشيعة، وهم من أهل بيت الرسول، يُصرُّون على أن تستمر الخلافة في بيت الرسول، بحيث تكون من حق الإمام علي، وهو ابن عم النبي وزوج ابنته فاطمة، وذريته من بعده. بينما كان السنّة يرفضون ذلك.

وبعد أن تولى منصب إمامة المسلمين ثلاثة من الخلفاء الراشدين وهم : أبو بكر الصديق، عمر بن عبد الخطاب، وعثمان بن عفان، تم انتخاب الإمام علي كخليفة رابع عام 656 . وعلى أثر اغتيال الإمام علي عام 661. آلت الخلافة بالدم إلى الأمويين ثم العباسيين، ولكن أيّا من تينك الأسرتين العربيتين لم تكن على صلة قرابة بالنبي، إذ أن الأولى، (الأمويون) تزعم بأنها من قريش، وهي القبيلة التي ينتمي إليها النبي. أما الثانية فقد ادعت أن جذورها تعود إلى العبّاس عم النبي.
ولكن الشيعة لم يعترفوا لأيّ منهما بالشرعية. 
سأل زياد : والشيعة بدورهم توزعوا على فرق متنوعة .
- أجاب الدكتور : أجل 
أهم فرق الشيعية التي كانت في الشام هي الطائفة الشيعية السبعية، أو حسب تسميتها المعروفة الإسماعيلية. 
- سأل زياد مرة أخرى : لماذا سُمِّيت سبعية ؟
- ذلك بسبب انشقاقهم عن الشيعة الاثني عشرية في عهد الإمام السابع وبسببه. 
- ومن هو الإمام السابع ؟
- هنا ثمة إشكالية ، فلو كان الذي سيردّ على سؤالك شيعي سبعي، أي إسماعيلي، لقال لك بأنه اسماعيل، الابن البكر للإمام جعفر الصادقً.  أما لو كان المجيب شيعياً اثنا عشرياً لقال لك بأن الإمام السابع هو موسى الكاظم بن جعفر الصادق، أي الأخ الأصغر لاسماعيل. 
أكمل الدكتور: باختصار، أتباع اسماعيل قالوا بأنه اختار "الستر" وبذلك فإن مكانه لم يعد معروفاً إلا لقلة من أتباعه، كما اعتبرت الطائفة بأن عدداً من الأئمة بعد اسماعيل اختار الستر أيضاً، وبأنه سوف يعود "ليملأ الأرض عدلاً بعد أن ساد الجور والظلم". 
أما أتباع موسى الكاظم فقالوا بأن اسماعيل مات وأصبحت الإمامة من حق أخيه الأصغر موسى. وهكذا أكمل موسى بصفته الإمام السابع من ضمن سلسلة الأئمة الشيعة الإثني عشرية، أما أتباع اسماعيل فزاحوا عن المسار وانفردوا بِخَطّهِم "الاسماعيلي" المستقل. والذي بدوره سوف يتعرّض لمزيد من الانشقاقات.

خطر لأحد هؤلاء الأئمة الذين قرروا أن يذهبوا إلى "الستر" أن يخرج منه في تونس، وهو الإمام عبيد الله ، فلقّب نفسه بالمهدي وأصبح مؤسس الخلافة الفاطمية في تونس، ثم نقل خلفاؤه عاصمتهم إلى القاهرة، كما سبق ذكره، وكان الخلفاء الفاطميون يمارسون الخلافة على أساس كونهم أئمة إسماعيليين.
درج الإسماعيليون على الإعتقاد بأن أئمتهم معصومون عن الخطأ. ومنهم من نسب إلى هؤلاء الأئمة صفات من الألوهية تسمو بهم وتجلّهم عن سائر البشر. واعترف بعض الإسماعيليين لأحد الخلفاء الفاطميين ، وهو الحاكم بأمر الله، (996- 1021) ، بكونه إماماً ذا صفة فريدة، ألا وهي كونه التعبير الأخير عن الوحدة في ذات الله. ولكن هذه الدعوة الإسماعيلية الخاصة لم تجد لها نجاحاً في الشام، حيث سمي أتباعها بالدروز . وكانت هذه الدعوة تطلق على أتباعها أصلاً اسم "الموحدين".

أما الطائفة الشيعية الثانية التي تعاظم أمرها في الشام فهي الطائفة الإثنا عشرية أو الشيعية الإمامية التي تعترف بتوالٍ لاثني عشر إماماً أولهم الإمام علي، الحسن، الحسين، علي بن الحسين، الباقر، جعفر الصادق، موسى بن جعفر، علي بن موسى، محمد الجواد، علي الهادي، الحسن العسكري، محمد الحسن العسكري.
إن الشيعة الاثني عشرية تقول بأن الإمام الثاني عشر، محمد الحسن العسكري أو محمد المهدي، دخل العام 874، أو في العام 879، في "غيبة" عن العالم "سيعود منها حتماً" عندما يحين الوقت ليملأ الأرض عدلاً بدلاً من الظلم السائد.
وبالإضافة إلى الشيعة الاثني عشرية والشيعة الاسماعيلية السبعية التي تفرع عنها الدروز يوجد طائفة شيعية أخرى هي طائفة النصيرية، أو العلوية. 
يتبع - قريباً

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق