في العلاقة الجدليّة بين"تزييف الوعي"ونظام التفاهة!/ د. مصطفى الحلوة



مصطلح "الوعي الزائف"، الذي أتانا به كارل ماركس،في كتابه "الأيديولوجيا الألمانيّة"، وأسبَغَه على الظاهرة، التي تنطلق من الأيديولوجيا وتعمل على تشويه الحقائق وتزييفها، بقصد تبرير موقف السلطة، كان للأكاديمي السوري صابر جيدوري أن ينزاخ به(أي بهذا المصطلح) إلى مجال"النفاق الاجتماعي الذي نعيشه، على صفحات التواصل الاجتماعي، كأن يكتب أحدهم قصيدة شعر ضعيفة هزيلة، لا تمتُّ إلى الشعر بِصِلة، ثمّ تنهال عليه التعليقات، لتصوّره لنا أنّه المتنبي، إلّا قليلًا! هنا يكون تزييف الوعي قد تمَّ باتجاهين: تزييف وعي الجمهور وإقناعه أنّ من كتب القصيدة شاعرٌ، لا يُشقُّ له غُبار، من جهة (..) وتزييف وعي الشاعر نفسه، الذي صدّقَ أنّه شاعر، من جهة ثانية". ويُضيف الباحث جيدوري:" ليس كلّ من رسم لوحة أصبح فنّانًا، ولا كلّ من ألّف كتابًا أصبح مؤلّفًا، ولا كلّ من خبزت خبزًا يؤكلُ خبزُها. ولهذا نجد أنّ صُوَر  تزييف الوعي كثيرة، في حياتنا الثقافية المثيرة، التي انحدرت بمستوى وعي الإنسان العربي، في طرحه للقضايا الكبرى".

إذْ نشاركُ الباحث جيدوري رؤيته الثاقبة، فقد سبق لنا أن أعَرْنا المسألة اهتمامًا إستثنائيًّا، جرّاء المخاطر، التي تترتّبُ عنها، على عدة مستويات،  وأبرزها "تسطيح" العقل، وسيادة الفكر الضحل وتعميم الرُخص الثقافي. هكذا أفردنا لها حيّزًا واسعًا، في مقارباتنا النقديّة، التي أكبّت على عشرات الكُتُب، التي أوردناها في مؤلّفاتنا المُنجَزة، ناهيك عن تخصيص فصل كامل حولها، في مؤلَّفنا العتيد، الذي سيُبصر النور عمّا قريب، بعنوان:"من بيادر الكتابة الإبداعية والأدب الفلسفي".

ولقد كان لوسائل التواصل الاجتماعي أن تساهم بفعالية في تزييف الوعي، إذْ وفّرت مساحة إعلامية ومنصّة إعلانيّة رحبتين لكل مستخدم لهذه الوسائل، فيغدو لسانَ حاله الفرد، والناطق باسمه..يجول ويصول من دون حسيب أو رقيب! وتكون الطامة الكبرى في ردود الفعل على ما يبوح به، فإذا هو، بنظر المنافقين من أصدقائه ومشجّعيه، الشاعر المُلهم، الذي لن تجود الأيامُ بمثله، والكاتب النحرير، والصحفي مالك أسرار المهنة، و..و..الخ

هذه القضية/الاشكالية شكّلت محور كتاب بالفرنسية، وضَعَه الفيلسوف الكندي Alain Deneault ، صدر في مونتريال وباريس، في العام 2015، بعنوان:"la Médiocratie". وقد تمّت ترجمته إلى العربية، من قبل الكاتبة الكويتية مشاعل الهاجري، بعنوان:"نظام التفاهة".

هذا الكتاب، الذي اعتُبر من "أدبيات ما بعد الحداثة"، أحدث ضجّة في الأوساط الفكرية، فرُئي إليه من أهم إصدارات العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين! أمّا عن الفكرة المركزية للكتاب، ففحواها أن نظام التفاهة نظام إجتماعي، تُسيطر فيه طبقة من الأشخاص التافهين، على جميع مناحي الحياة، حيث تتمّ مكافأة الرداءة والتفاهة، عِوَض العمل الجاد والملتزم. ومن أبرز ما يتوقّف عنده Deneault أنّ الفضاءات، التي يُفترض بها أن تجابه الرداءة، وفي مقدّمتها الجامعة، أمست لَبِنَة أساسية، في نظام التفاهة. بل راح الكثير من خرّيجيها، من خبراء و"أشباه خبراء" يُضفون الشرعية على الاوليغارشية الاقتصادية المهيمنة (الاوليغارشية، أي القلّة)، والتعمية على تجاوزاتها والارتكابات. وهذه أكبر عملية لتزييف وعي الجمهور. ومن يتتبّع البرامج السياسية والاقتصادية لدينا، التي تتوفّر لها مساحة واسعة من قِبل الفضائيات، يُدرك مدى خطورة غالبية البرامج الحوارية، من سياسية واقتصادية. وغالبًا ما يُستضاف إعلامي مأجور، أو "خبير"،  يعمل لإحدى الجهات السياسية أو الاقتصادية، فيجهد لتنزيه فاسد وتبرئة مرتكب، متوسّلًا مختلف أساليب التسويق!

وعلى جبهة التواصل الاجتماعي، وبما يعود للمجال الفكري والثقافي والأدبي، فإن تزييف الوعي قائمٌ على قَدَم وساق! ففي خضّم الطفرة الثقافية المشوّهة، لا سيما لدى الجنس اللطيف، الجانحات إلى مجال الشعر، فحدّثْ ولا حرج! ففي هذا المجال نجدُنا بإزاء أكبر عملية تزوير وتزييف للوعي، الفردي والجمعي، إذْ يتمّ "التطبيل والتزمير" للشعارير من كلا الجنسين(الشعارير جمع شعرور، والشعرور تصغير شويعر، والشويعر تصغير شاعر!)، كما للكُتّاب الفاشلين (جماعة خزِّقْ ولزِّقْ)!. والأنكى أنّ ثمة منتديات ومرجِعيّات أدبيّة، "إقليمية" و"دولية"، تمنح شهادات تقدير- بل كراتين-، تُطلق على فلان من "المبدعين" لقب كذا، وعلى علّان لقبّا آخر، وهات على ألقاب، ما أنزل الله بها من سلطان! أضف إلى ذلك أنّ بعض الجهات "عالية الكعب" الثقافي والعلمي تمنح شهادة دكتوراه فخرية لأحدهم، فيحرص على مناداته بِ دكتور، فذلك حقٌّ له! ولا يقف الأمر عند هذا الحدّ، بل يعمد المكرَّسون وذوو الألقاب ،على اختلافها، إلى نشر صورهم ونشر "الشهادات/الكراتين"، التي حصلوا عليها، جرّاء أعمالهم  "الإبداعية" على الفيسبوك..وهاتِ، ساعتها، على عشرات بل مئات " اللايكات" وتعابير المديح والاطراء والاشادة، من قبل المنافقين والمسايرين، على أمل أن يأتي دور هؤلاء مُستقبلًا، فتُردُّ لهم التحية، بمثلها أو بأحسنَ منها. وفي هذا المقام كان لنا أن نخلص إلى هذه المعادلة:" يللي بيشوفك بِ لايك like لازم تشوفوا بِ لايكين 2 like"!

إنها عملية تزييف للوعي موصوفة،  لوعي المتلقّين والممدوحين، على حدّ سواء، ول"تكبر الخسّة"، في رأس الأخيرين!

هذه المسألة لم تغِبْ عن الفيلسوف Deneault، في كتابه آنف الذِكر، فقد ذهب إلى أنّ الفنّ والثقافة لم يفلتا من سيطرة التافهين، أصحاب الذوق الهابط، في حين غدت الأعمال الفنية والثقافية الراقية والمُعتبرة، التي تحترم ذائقة المتلقي، كما العملة النادرة.

وبحسب هذا الفيلسوف، فإن إطاحة نظام التفاهة لن تكون إلّا عبر حراك جمعي، بل من خلال "القطيعة الجمعية"، وليس عبر الخلاص الفردي!

(من بيادر الفسابكة/قراءة نقديّة في قضيّة)

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق