ما قبلَ الموت/ د. عدنان الظاهر

 


 

1ـ كشفُ الغيب

( لا تكشفْ سرّا. ما جدوى أنْ تكشفَ سرّا ؟. )

الشمسُ على بحرِ الشامِ هديرُ

 أفيهدأُ في بحرٍ مدُّ

وقلوعُ سفائنَ كنعانَ توابيتٌ للغرقى ؟

ما زلتُ أُقاومُ صوتَ الصرخةِ أياً ما كانتْ 

التوبةُ إنذارُ

ـ ممَّ يتوبُ الراهبُ والمُختارُـ ؟

لا تحملْ فأساً للثارِ

إحملْ كأسا

لا تنقلْ يمناكَ لأخرى

اللونُ الأقسى تهريجُ الفِرقةِ في السوقِ

هل عافاكَ الطبُّ

هل قوّمَ هيكلَكَ العظميَ وقوفا

لا تحزنْ ... الحزنُ طويلٌ كالظلِّ الممدودِ

الحزنُ خُلاصةُ عصفِ القادمِ والماضي

قالت " صَمْداً صمْدا "

لا تتهالكْ أنتَ الأقوى

كنتَ وما زلتَ الأنقى والأصفى  

تلتقطُ الجمرةَ والحبّةَ من زهرةِ عينِ الشمسِ

تسألُ ما جدوى أنْ أتفحّصَ تأريخَ الإنسانِ

أتقلبَ صفحةَ مأساةِ الجُرحِ الدامي

ما دامَ الأبدُ الضاربُ يبقى أزلاً كالسكّةِ مضروبا 

الأفضلُ أنْ تبقى 

ما كنتَ وما كان الطائشُ مجهولا

دعْ هذا الزمنَ المتلوّنَ يمضي ملويّا

يرطنُ لهجاتٍ شتَى

يرسمُ لوحاتٍ غامضةَ الجوهرِ والمظهرِ والمعنى

لا تبقَ على السطحِ طويلاً مشلولا

الجُرعةُ أكبرُ مما فيكَ وللشرفةِ أحكامُ

2ـ (مثلُكَ لا يموتُ / كاسترو)

قالوا ما قالوا

قالوا جفَّ البحرُ وغادرَ خلجانَ الكاريبي

أضربتُ وأضرمتُ النارَ فطارَ صوابي

الضاربُ والمضروبُ سواءُ

مُزدَوجٌ تخنقهُ شاراتٌ صمّاءُ

ماذا تنتظرُ الخيلُ السودُ ؟

شاخَ الجملُ الأشقرُ إذْ جفَّ الماءُ 

الماءُ صفيرُ

الطُرقُ المُثلى ضاعتْ

بدّلت الآثارَ جميعا

لم تحفلْ بالعُقبى

لم تندمْ

لم تستقبلْ شمساً أو عيدا

لم تُشركْ أحداً في حفلٍ أو عرسِ

الطرقُ الأخرى سُدّتْ

نطقتْ ثم انفجرتْ

فتفحّمَ رأسٌ يتدلّى مشنوقا

الهوسُ الباقي حفنةُ رملٍ في كأسِ

محفوفٌ برمادِ التفجيراتِ

حيثُ الخطرُ الأكبرُ لم يأتِ بعدُ

ينتظرُ الزمنَ الأنسبَ قبلَ فواتِ الوقتِ

لا يدري أنَّ المركبَ معطوبٌ مثقوبُ

هل يجنحُ للساحلِ معصوبَ العينينِ ؟

3ـ التصفيق

كيف أُصفّقُ للرائحِ والغادي

وأرشُّ الماءَ بعتبةِ داري

هل حتفي خنجرُ جزارِ ؟

لا ...

كلاّ ...

أنا مَنْ قيّمَ أقدارَ الجُلاّسِ

الكأسُ كؤوسٌ شتّى

تتفاوتُ لوناً أو فعلاً أو وزنا

فارهنْ نفسكَ للصوتِ المكبوتِ

لا تحزنْ

لا تيأسْ

 الحزنُ اليائسُ محكومٌ بالعزلِ

الدارُ الأولُ والآخرُ تأريخٌ مأهولُ

قفْ !

إنكَ في ساحةِ إنذارِ

في منطقةٍ لا يدخلُ فيها إلاّ المجنونُ المخبولُ

فتخيّرْ بين الموتِ جزافاً

والموتِ بإطلاقةِ جنديٍّ مخمورِ

الموتُ هو الموتُ

والجندُ سواءُ 

عينُكَ كحلٌ في الليلِ وأصداءُ

تنتظرُ الآتي هل يأتي

الموتُ قريبُ

الموتُ قريبٌ جدّاً

دعهُ ...

الكائنُ لا بدَّ يكونُ

هل أستسلمُ أمْ أبقى خارجَ تغريدِ السربِ ؟

" اللهُ أكبرُ لا تكفي "

لا تروي ظمآنا

لا تُشفي جُرحا

هل أندمُ أم أعلنُ إفلاسي ؟

التيهُ ينظّمُ أسفاري شرقاً غربا

حيثُ النازفُ يبقى نزفاً منزوفا

عرباتٍ تسحبها قضبانُ

يسألُ يستنكرُ قصفَ الرعدِ

الأمّةُ فوضى

صخبٌ يرتدُّ

قاصيها دانيها

سَفَرٌ يتأجّلُ جيلاً جيلا

في البرزخِ بين الصحوة والنومِ

فرّقنا حولاً حولا

لا أخشاهُ

لا أخشى عدواهُ

أيّاً ما كانتْ بلواهُ

لكني أخشى فقداني في عزِّ هواهُ

أخشى الضجّةَ في السطحِ العالي

حيثُ الأرضُ تدورُ

مثلَ اللولبِ في أجسادِ الموتى

تركونا نبكي

نطلبُ نجواهمْ

ونزورُ شواهدَ مثواهمْ

أُفٍّ يا ليلُ !

4 ـ حصارُ الأحزان

الصوتُ الأعلى يبقى صوتاً عُلويّا

يتحدى ويُحاصرُ أحزاني 

من شرقِ الجبِّ القطبيِّ لأخرِ بئرٍ في الدنيا

هل يتمددُ ناقوسُ الحظِّ المتعثرِ بين خطوطِ الكفِ اليسرى واليمنى

أو يتشكّى مُحتجّا

مما يجري للناسِ زمانَ مناسكِ صكِّ الغُفرانِ

 يتحدونَ الخطَّ الأقصى

أحمرَ لونا

حتى في موجِ بحارِ الظُلُماتِ

لا ندري كيفَ تُحاصرنا آمالٌ لا ريبةَ فيها

تأتينا فجرا

تسألُ عنّا

تُطلقُ صفاراتِ الإنذارِ

الموتُ يحاصرنا أشباحا

في عزِّ النارِ وبردِ صقيعِ الأقطابِ

لا مهربَ منهُ

لا الطبُ يُخففُ لا مِشرطُ جرّاحِ

إخترْ موتكَ قبلَ صياحِ الديكِ الغجريِّ الفجري...

رحلوا 

ماذا تركوا من بعد الترحالِ

تركوا ذكرى

تنعقُ فيها غربانُ اللوعةِ والشؤمِ

وفراغاً لا يفهمني

لا أسمعُ فيهِ صوتا

سدّوا الأبوابَ وناموا .

5 ـ هل مات كلكامش ؟

هل كُتبَ الموتُ على كلكامشَ أيضا 

أمْ أنَّ الطاغوتَ استثناءُ 

وقرارُ الموتِ قرارٌ فضفاضُ

يأتي أو لا يأتي شأنٌ ثانِ

لا يخشاهُ الطاغوتُ ولا يبحثُ عن حلِّ

الموتُ فِرارُ

هل أكسرُ شوكته أمْ أكسرُ مرآتي

لا أكسرُ شيئا

لا مرآةً لا أنفا

فيها أسلافٌ غابوا 

ما زالوا أحياءَ

صعدوا لكني لم أصعدْ

فضّلتُ الهجعةَ في طاحونِ الدارِ

فضّلتُ الظُلمةَ في النارِ

لا أفقهُ ما يجري من حولي

مُحتارٌ جدّاً في أمري

ماذا سأقولُ لأهلٍ عبروا قبلي

تركوني في الدنيا مقصوصَ الأصلِ

مكسورَ الخاطرِ والعلّةُ في صدري

طعمُ الغيبةِ مُرٌّ مُرُّ

واصلْ كابوسَ الموتى

الموتُ ثقيلُ

يحملُ لي أخبارَ الأهلِ

يُنسيني دمعةَ مَنْ غابوا

تركوا جُرحاً مفتوحا

تركوا ذكرى

إنهضْ واحملْ تابوتكَ فوقَ الأكتافِ.

6 ـ الآتي

لي فيهِ شأنٌ ثانٍ

شارِكني فيهِ أو دَعْهُ 

ينتظرُ الفجرَ الآتي قبلَ الفجرِ

يوماً يوماً ... ساعاً ساعا

يتقلّبُ فوقَ سرير الحُمّى 

يُحصي ما لا يُحصى عدّا

ينتظرُ المجهولَ الآتي .. قد يأتي

الصوتُ قريبٌ

أدنى ممّا بين القوسين

فتمهلْ لا تستعجلْ

لا تذرفْ دمعا

الآتي يأتي حتما

مهما كان الخطبُ كبيرا

أَنزلْ صورَ الموتى

الحائطُ لا يكفي

يتكلّمُ لا يبكي

لا يقرأُ فاتحةً أو يحفرُ قبرا

لا يشهدُ أنَّ الموتَ رهيبٌ حقّا

أنزلها 

جدّدْ أُطُراً صدئتْ حالت لونا

7 ـ الصور والرؤيا

جُدرانُ البيتِ متاحفُ لوحاتِ الأقدارِ

تتكاثرُ عاماً عاما

فيها مَنْ فيها

أحسبهمْ أيقاظاً أحياءَ

خبّرني :

أفلمْ أبلغْ شأوي حُرّا

أتناسى .. أسلو .. ألهو .. أتغاضى

أكتمُ أنفاسي

لا أخشى إعياءَ

الصوتُ الصِرفُ قنابلُ تفجيرِ الإرهابِ

في الظلمةِ أقوى أضعافا

أكشفهُ وأُغطي أطرافي

فإلامَ أُقاسي

وأظلُّ أُقاسي حتّى تتقطعَ أنفاسي

سلّمتُ أموري للقاصي والداني

للقابضِ مفتاحَ الريحِ وفردوسِ الأرواحِ

أنْ يرحمَ داراً جمعتهمْ يوماً أحياءَ

ضربتْ كفّاً فيها أعلاهمْ شأنا

صر ختْ ( ما هذي الفوضى ) ؟

شافتْ رؤيا

ما أقساها من رؤيا

في تلكَ الليلةِ ماتت أُمّي

هذا تأويلِ الرؤيا !  

8 ـ ما بعد الموت

( لا أرفعُ صوتا )

( لا أنطقُ حرفا )

 ( لا أذرفُ دمعا )

( جدرانُ الدارِ تُفسّرُ أحوالي ) 

هَبْ أني

أكملتُ نِصابَ فروضِ مداراتِ الميزانِ

هل أنزلُ فيها أمْ ينزلُ فيها غيري

القبوُ المحفورُ ملاذُ أمانٍ

وعقاربُ شاراتِ الزمنِ المتحكّمِ في ساعاتِ الحيطانِ

هل أرفضها أو أُلقي أسلحتي وأُكسّرُ أقلامي 

أحرقُ سقفاً لا يحميني

أمْ أُصغي للصوتِ الغارقِ في النومِ ؟

ضاعتْ واأسفا ضاعتْ

تركتني أتخبّطُ عشوائيّا

أقضي وقتي في سالفِ ذكراها

أدمنتُ الذكرى حتّى صارتْ أقوى منّي !

 9 ـ النكبة الأولى

ضحّتْ من أجلي

حملتْ أتعابَ الدنيا

زارتني في شتى حالات الدنيا طقساً طقسا

كانت أمّاً ـ ربّا

جئتُ الدنيا مولودا

أُمّي : هل من لقيا ؟

غادرت الدنيا في أحضاني

لم تنطقْ حرفا

لم تفتحْ عيناً أو جفنا

لم تطلبْ شيئا

رحلت أمّي في المستشفى 

10 ـ النكبة الثانية

يرتادُ المقهى

شيخٌ ـ شّبحٌ خانَ وغادرَ مأواهُ

هل أشكوهُ أمْ أشكو منهُ

هل يُجدي أنْ أشكو

تُخفي الظُلمةُ ما لا يُحصى

أخشاها

أتكلّمُ لا أسمعُ نجواها 

فيها أحبابٌ غابوا

كانوا في الأوجِ تحيةً وسلاما

أتمنى رؤياهم أمواتاً ـ أحياءَ

الموتُ غيابٌ موقوتٌ

مرحلةٌ فيها يرتاحُ الإنسانُ . 

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق