من خوازيق السياسة الفلسطينية الحرب على الإعلام- قناة الجزيرة نموذجاً/ فراس حج محمد
في السياق العام للسياسة الدولية والمحلية والتحالفات الإقليمية والسلوكات غير النزيهة للأنظمة والحكومات العربية، ومواقفها المنحازة ضد الحق والعدالة الإنسانية، وخضوعها للإملاءات الاستعمارية الخارجية، والتخلي الدائم عن دعم الشعوب المظلومة ما دام أن هذا الدعم يتناقض مع المصلحة الاستعمارية، لكل هذه الاعتبارات دائما ما يبحث الفلسطيني المغلوب على أمره عمن يقف إلى جانبه، ويشدّ من أزره، ويشعره بأهميته ووجوده وإبداعه وحقه في الحياة الحرة الكريمة، ليعبر عن معاناته، وهو الإنسان المسحوق في معيشته اليومية، اقتصاديا، وسياسيا، جراء ما يمارس ضده من انتهاكات، بعضها نابت في سياق الاحتلال المكثف والشرير، وبعضها الآخر يأخذ شكلا مختلفا متمحورا حول أوهام المصلحة الوطنية العليا، وإذا ما فتشت وراء تلك المصلحة، لا تجد إلا محاولة دائمة لجر الفلسطيني البسيط إلى سياق الاستعمار، وإخضاعه بشتى الطرق، فالسلطة الفلسطينية بجهازيها المدني والأمني- العسكري متحدان ضد مصلحة شعور الإنسان الفلسطيني بالحرية والأمان، وهذا ما تتفق عليه قلبا وقالبا مع الاحتلال، فمن يحارب الشعب والمصلحة الفلسطينية الوطنية العليا هي "هذا النظام العربي المهترئ" المتشكل فلسطينيا في هيأة سلطة لا تملك من أمر السياسة وإدارة الحكم النزيه شيئا، فهي لا تتقن سوى سياسات الفساد بكل أشكاله، سياسات لن توصل السلطة أو الشعب إلا إلى الهاوية.
هذا وضع السلطة الفلسطينية منذ زمن بعيد، وربما منذ أن أنشئت، وهي مهيأة لتكون نظاما عربيا تابعا تابعية مباشرة مصلحية آنية ووجودية مع الاحتلال، لذلك فدورها التي أنشئت من أجله ليس التحرير، وإنما مد حبل النجاة للمآزق التي يتعرض لها الاحتلال دوليا، فمنظمة التحرير التي بنيت على أنقاضها، أو خرجت من رحمها هذه السلطة هي من أنقذ الاحتلال من المأزق الدولي في الانتفاضة الأولى، حيث شهد العالم مثالا جبارا للمقاومة السلمية التي استخدمت الحجر سلاحا مقابل الدبابة والنار، فلم يكن من المنظمة إلا وأخرجت الاحتلال من ورطته، وقامت بتجفيف الانتفاضة، وأحجم المناضلون المنضوون تحت هذه المنظمة عن الفعل المقاوم تمهيدا لتوقيع الاتفاقيات المشئومة التي لم نجن منها شيئا، لكنها ساعدت الاحتلال في ترميم صورته الدولية، وتعززت بأن منح أحد قادته المعرفين بالقبضة الحديدية تجاه الفلسطينيين في الانتفاضة جائزة نوبل للسلام.
لقد كانت تلك الاتفاقيات أكبر خدمة "استعمارية" تقدمها منظمة "وطنية" لاحتلال أراضي شعبها التي تدعي أنها تريد تحريرها، ثم توالدت الخدمات المصلحية المتبادلة بين الاحتلال وهذه السلطة، حيث يحصل رموز السلطة على المال والامتيازات ويتغول الاحتلال في الأرض، وبقي الحال على ما هو عليه وما هو متفق عليه بين الجانبين حتى خلال حرب غزة الأخيرة التي صنعت السلطة فيها خطابا إعلاميا هزيلا متواطئا ضد المقاومة، وسبق أن ناقشت ذلك في وقفات أخرى، لكن أكتفي بترسيخ هذه الحقيقة المتمثلة في أن هذا الخطاب الإعلامي كان يبث الهزيمة، ويثبت صورة في ذهن الفلسطيني بعدم جدوى المقاومة المسلحة من خلال تركيزه على صور الدمار المتعددة في غزة، والمآسي الإنسانية دون أن يتبنى أي وجهة نظر فلسطينية مقاومة، وقد خلا الإعلام الرسمي من أي ذكر لعمليات المقاومة في غزة، فخالفت بذلك ما يجب أن تضطلع به الصحافة والإعلام حيث يكونان "مجندين لدولتهم بغية بث الروح المعنوية لدى المحاربين في ساحة القتال" (حرب المصطلحات في الصراع العربي الإسرائيلي، 2024، عبد الرحمن مرعي، ص 18).
في هذا السياق كانت فضائية الجزيرة ملتحمة مع القضية الفلسطينية، وتبث الصورة كاملة، المآسي والدمار والتوغل الشيطاني للاحتلال، لكنها أيضا كانت تعرض صور المقاومة وما أنجزته وما أحرزته من إيلام لعصابات الاحتلال المنفلتين من القانون، وساهمت بشكل كبير في فضح هذا السلوك غير الأخلاقي لهؤلاء "المنضوين" تحت ألوية وفرق "جيش الاحتلال"، وساهمت مع الفلسطينيين في القطاع المنكوب بدفع ضريبة الدم من أرواح مراسيلها ومصوريها وصحفييها، فكان من فريقها الشهداء والجرحى والمعتقلين، واستضافت المعلقين والسياسيين الذين كانوا متسقين مع هذا الخط، فكانت بمثابة الإعلام البديل الوطني للإعلام الرسمي التابع والمنقاد للرؤية الاستعمارية، فظهرت الجزيرة بصورة مضادة لكل ذلك الفريق فلم تسِر في ركب ما يروج له الاحتلال من أخبار وأكاذيب. هذه الأكاذيب التي اتفق معها إعلاميون عرب، وفضائيات عربية كثيرة ومشهورة، ومحللون تماهوا مع الاحتلال ومجازره، وأخذوا يحملون المقاومة وزر الجرائم الاحتلالية، وعلى الرغم من أن الأمر واضح ومكشوف إلا أن هذا الفريق كان أشبه بالنعامة التي تصرّ على دفن رأسها في الرمل، وتظل سادرة في غيها، ولا ترى غزة إلا بعين واحدة.
وفي تطور لافت بعد أكثر من 14 شهرا على هذه الحرب الظالمة، استعد الأمن الفلسطيني وبالتنسيق مع الأمريكان والاحتلال، كما جاء في تقارير صحفية عالمية متعددة أن يكمل المهمة في مخيم جنين، كونه جيبا من جيوب المقاومة، لكنه شيطن المخيم والمقاومين، وأخذ الإعلام الرسمي يشن حملة ظالمة ضد المقاومة عبر وصفها بصفة الخارج عن القانون، وجندت لذلك أفرادا من "فتح" ومن الإعلاميين والكتاب، والفيسبوكيين ليكوّنوا رأيا عاما ضد من يحمل السلاح ضد المحتل، هذه "السردية الآثمة الأفاقة" ترافقت مع ما أطلقت عليه السلطة حملة حماية وطن، وسلكت سلوك الاحتلال نفسه تقريبا في تعاملها مع الناس وقتل الصحفيين، والاعتداء على المدنيين، وانتهاك حرمة المستشفيات، وقطع الماء والكهرباء، وتوقف العملية التعليمية، وطالبوا المقاومين بتسليم السلاح والخروج من المخيم، وهذا طلب تردد في غزة، حيث كانت مطالبة الاحتلال للمقاومين بتسليم السلاح والخروج من غزة.
خلال هذه المعادلة صار المقاوم الفلسطيني غير مدعوم من الفلسطيني، وصار مشتتا بين أن يحمي ظهره من طعنة في الظهر تأتيه من "القريب" أو ينتبه لرصاصة مفاجئة تأتيه من الأمام، فلو حذر من أحدهما تصيبه الأخرى بالتأكيد، وأصبح مكشوفا عاريا حافياً، واقعا بين فكي كماشة تمسك بها وتضغط بها عليه عصابة الشر والإجرام العالمية، فتنفذ بأيدٍ صهيونية هناك في غزة، وهناك في جنين بأيدٍ أمنية فلسطينية، فكانت هذه العملية تنفذ في جنين وفي مخيمها وقوات احتلالية أخرى صهيونية تقوم بأعمال عسكرية في طمون وفي طوباس، فتقتل وتعتقل عدا العمليات الأخرى في نابلس وطولكرم، وكل أنحاء الضفة المحتلة، وحماية المستوطنين في أفعالهم ضد أبناء القرى الفلسطينية، ليطردوا السكان من بيوتهم، ويستولوا على المزيد من الأراضي، ويقيموا عليها بؤرا استيطانية، وكل ذلك يحدث بالتزامن، فالشعب كله- على ذلك- أصبح في مرمى النيران، ولا يجد له من يحميه أو ينقل أخباره، ويتضامن معه سوى القليل من الإعلاميين والفضائيات العربية، وقد أبلت قناة الجزيرة الفضائية في هذا بلاء حسناً.
ومن المفارقات المؤلمة- كما ورد في كثير من التقارير الصحفية- أن تتوسط أمريكا لدى قادة الاحتلال ليمدوا السلطة بالسلاح اللازم ليواجهوا به "المقاومين" والاحتلال يرفض ذلك، لأنه في أسوأ الأحوال لا يريد الاحتلال أن يستقر الوضع للسلطة، مهما كانت تدافع عنه وتحميه، بل يريد أن يكون ميزان القوى متعادلا بين الطرفين؛ ليستمر الصراع أكبر فترة ممكنة، ولأن في هذا تعميق للشرخ الاجتماعي بين الفلسطينيين، وإنهاك للمتصارعين، وإشغال للمقاومة بشأن أجبرت على الدخول فيه، بعيدا عن مقاومة الاحتلال، فالصراع المحتدم هو بين فلسطينيين، لكن اختلفت أماكن سكناهم وأدوارهم الوظيفية، ويتحتم الخروج من هذه المحنة بخسائر أعظم من خسائر الحرب مع المحتل، لأنها ستدوم فترة أطول، كونها جراحاً بيد الأخ، يُشرّح فيها الأخ جسد أخيه لمصلحة عدوه، ما يعني تمزق النسيج الداخلي واشتعال الثارات وسلسلة الانتقامات، ليدخل الجميع في دوّامة لها أول، ولن يكون لها آخر، وكأن السلطة لم تتعلم من الشرخ الحادث في غزة بعد عام 2007، فما زلت النفوس تفيض وجعاً، ولم تهدأ، فالكل يتذكر أهوال تلك الأيام، بل إنها أخذت تستعاد مع هذه الحملة، فينظر أتباع السلطة وأبواقها إلى تلك الوقائع بمنظور السلطة نفسها، واتهام الطرف المقابل بأنه هو صاحب الجريمة الأوحد.
ترافقت هذه الشيطنة الإعلامية الرسمية للإعلام الفلسطيني، مع الدفع بقوات الأمن للتخلص من المقاومين في جنين، فبرزت في هذه الأثناء قناة الجزيرة الفضائية لتنقل من قلب المخيم أحداث هذه الهجمة الأمنية غير المسبوقة، بهذا الشكل الذي لا يذكر إلا بأفعال الاحتلال، ما أزعج السلطة الفلسطينية، فقررت إيقاف الجزيرة عن العمل في أراضي السلطة الفلسطينية، ومنعتها من تغطية الأحداث، وخاصة في جنين لأن خطاب السلطة الإعلامي في هذا الجانب ضد الجزيرة كان يدعي أن الجزيرة تناقض في خطابها المبثوث عبر القناة "السردية الفلسطينية"، فمن تصفهم الجزيرة بالمقاومين هم في نظر السلطة "خارجين عن القانون"، وبهذا انتبهت السلطة إلى أن الجزيرة عبر هذا التناقض بين الخطابين تمارس عملا تحريضيا ضد أفرادها، وتنحاز لطرف ضد طرف آخر، ما يعني أن الجزيرة غير موضوعية وغير نزيهة، وبالتالي فهي منحازة، وجاء قرار الإيقاف عن البث هذا بعد أن أوقف الاحتلال الجزيرة عن البث مدة تسعين يوماً، وبعد أن قتل الاحتلال شيرين أبو عاقلة باستهداف مباشر في جنين، تقوم القوات الأمنية بالعمل نفسه، بوقف البث، وقتل الصحفية شذى الصباغ أيضا في جنين، هذه الصحفية التي استهدفتها بشكل مباشر عناصر الأمن الفلسطينية، كما جاء في بيان لعائلتها.
إن السلطة وهي تبني قرارها في منع الجزيرة من العمل، فإنها كانت وما زالت تعيد مبررات صاغها كتّاب وأكاديميون، هؤلاء الكتّاب المعروفون بأنهم تابعون للسلطة، ويرددون مقولاتها، ويعملون على إنتاج خطاب إعلامي يتساوق مع مهمتها في الحرب علينا نحن الفلسطينيين الرافضين للاحتلال، ففي التحقيق الصحفي الذي نشرته صحيفة القدس يوم الجمعة 3/1/2025 يرى الدكتور محمد أبو الرب مدير مركز الاتصال الحكومي "أن الجزيرة لم تلتزم بتنبيهات متعددة وجهتها الحكومة ونقابة الصحفيين، خاصة فيما يتعلق بالتحريض والتعبئة الخطابية التي اعتُمدت في تغطياتها، والتي تسببت في توتير الساحة الفلسطينية وزيادة الانقسام بما يتعلق بالأحداث في جنين"، والدكتور محمد هذا هو مؤلف كتاب "الجزيرة وقطر- خطابات السياسة وسياسات الخطاب"، الصادر في طبعته الأولى عام 2010، وأعيدت طباعته عام 2012. يعيد في هذا الكتاب الخطاب نفسه، لكن بصياغات أخرى، وقد قدم له الدكتور وليد الشرفا الذي عاد ليتبنى الخطاب ذاته في كتاب له بعنوان "الجزيرة والإخوان- من سلطة الخطاب إلى خطاب السلطة"، الصادر عام 2014، وكلاهما أبو الرب والشرفا يمتحان من النظرة العدائية ذاتها لقناة الجزيرة التي تنظر بها السلطة الفلسطينية لهذه الفضائية التي وقفت في صف لم يقف فيه غيرها للدفاع المستميت عن حق الشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال والمقاومة.
إن العداء لفضائية الجزيرة استفحل في السنوات الأخيرة في الأوساط الثقافية الفلسطينية والعربية المحسوبة على النظام العربي الرسمي، وصار له تجليات عدة، منها ما جاء في كتاب "نهاية عصر الجزيرة" الصادر عام 2017، الذي أعده وجمع مادته وترجمها الباحث السعودي د. حمد العيسى. إذ يصف الكاتب التونسي الحبيب الأسود في مقال له مستعرضا الكتاب دور الجزيرة الإعلامي بأنه دور "تخريبي على نطاق واسع في المنطقة العربية"، ولا داعي لتأكيد الفكرة المسبقة في الجمع والانتقاء والترجمة، وما لها من أهداف تصب في هدف مخفيّ أشد وضوحا مما قد يروج له الحبيب الأسود بادعاء أنها "صادرة عن أقلام أغلبها أجنبي، بحيث لا يمكن التجريح فيها، أو حسبها على تيارات سياسية أو جهات حكومية عربية".
كل هذه العدائية الظاهرة سابقة لعمليات حظر السلطة لقناة الجزيرة، فقد عملت على تجنيد كثير من الكتاب ليبثوا هذه الأفكار- ليس في المؤلفات والبحوث الأكاديمية فقط- بل من خلال منشوراتهم القصيرة على الفيسبوك، أو خلال أحاديثهم ومناقشاتهم العلنية أو البينية، وبالتالي فقد نجحت في خلق فئة من الكتّاب الأغبياء المنتفعين آنيّاً، ونسوا المصالح العليا للشعب الفلسطيني، ففقدوا بذلك أهم سمة قد يتميز بها المثقف العامل للتغيير والتحرير، وبدلا من ذلك أصبحوا مثقفين تنتعلهم السلطة لتجوز بهم وحول المراحل الصعبة.
كل هذه الأجواء، وما جيشته من ضجيج ومسيرات دعم وتأييد يعني فيما يعني له- عدا أنه غير قانوني وغير أخلاقي- أنه مبيّت له، ووجدت الفرصة المواتية لمثل هذا الفعل في ظروف مشبعة بالتعب والإرهاق العام عند الكل الفلسطيني مما يجري في غزة، وفي ظل الصمت العربي والدولي الرهيب على كل ما يحدث من فظائع يندى لها جبين الإنسانية. ولكن هل تستطيع السلطة الفلسطينية وسلطة الاحتلال والأنظمة العربية التابعة للاستعمار أن تمنع الحقيقة من البزوغ والتحليق كل لحظة، وقد تخطت الأخبار أبراج المراقبة الفلسطينية والصهيونية والعربية على حد سواء، فصار يأتينا بالأخبار من لم نُزوّد؟
0 comments:
إرسال تعليق