أقفُ معك على رصيفِ الانتظار، أقف معك يا أبتي على المفارقِ التي باتت سواراً لظلال الهاربين، ألوّح لشمس نينوى، أراقص قناديل ليلها، وأوقد شموعاً على تراب الذين رحلوا.
أقف معك يا يوسف على قارعةٍ بعيدة أحمل كتبكَ الثلاثة، أنسجُ من غبار المسافةِ أثواب غمامٍ بغدادي، فلا جلجامش أوقد جمرَ قصيدتي، ولا سندبادُ أعادني الى الرافدين. دعني يا صديقي أهمسُ في أذن الرحيل، دعني أرفع ساعديّ أقواسَ محبة، دعني أهزّ كتف السماء، علّها تسدل أراجيح النخيل جسورَ عبور الى مرابعنا.
وأنتَ البغدادي العاشق، خذْ بيدي الى حيث الكلماتُ كنوزُ الورّاقين، والسطور بلاسمُ الكتاتيب، خذني الى حيث الضفافُ تبلّل ريقَ المساءات وحيث المواويلُ البغداديةُ أكاليلُ الكنارات وأغاني الصيادين ترسمُ أشرعةُ الضياء.
ها أنت يا يوسف ترتادُ الجزرَ البعيدة، تحملُ مصابيح الأمس زاداً لحروفك وتولم للمسافة زهور عمرك في غربة تجرعت كأسَها في مرابعك الاولى الى غربة أفرغت فيها قرائحك الحبلى بأسى الحقيقة والشوق، فهنيئاً لنا بكاتب يبلسم بالحرف لواعج الهجُرات وملاحٍ ينصب على ضفافِ المراسي خيمة عشقهِ الأبدي.
كأنك في كتبك الثلاثة تكرّم ارضك واهلك، تزنّر مساحة الوفاء سياجاً يلفّ محبيك.
كأني بك تسمعُ نداء تلك الارض تنهل من ورودها نقاء النفوس وتخطفُ من جراحِ البُعد بلاسم شفاءٍ.
كأنك ترصف المداميك العتيقة ترصّعها تقبّلها وترفعها أبراجاً بابلية لحلمك الآتي.
عبرتَ المسافة متشوقا ومحباً، وأجمل العابرين مَن يحمل تاريخه وأرضه في دفّتي كتاب، نذرتَ الوطنَ فعلَ حياة، نذرتَ البُعدَ حنيناً وصبابة،عينٌ على الأرض، عينٌ على التاريخ وعينٌ على الإغتراب.
نعترف أنَّ العمرَ سرق سنين كثيرة، نعترف ان الشيب أشعل رؤوسنا ونعترف ايضاً ان حبًّ العراقِ كالخمرة يطيب في حنايانا وان مطارحه ما زالت تنبت امام عيوننا.
قدرنا أن تسدل حقائبنا مراسي على ضفاف العالم والحطّابون الصُفر يعيثون في جنائن بلادنا.
قدرنا أن نشرّع مناديلنا تؤائمَ الصباحات ، والكهفيون هناك يخطفون الضوءَ عن سطوحِ قرانا والبسمةَ من ثغورِ أطفالنا.
قدرنا أن نستظلَّ غماماتِ الصيف الهاربة من سُحُب اليوضاسيين.
قدرنا يا صديقي أن نُصلبَ في كلِّ جلجلة ونرقدَ تحتَ كلِّ تراب، قدرنا أن ننأى بعيداً عن العشّارين والفرّيسيين، هكذا أرادنا المعلِّم مبشِّرين على اسمهِ حبّاً وصلاة.
نحن أبطال الرواية يا يوسف،بعضُنا عانق التراب شهيداً، بعضنا امتشقَ الريحَ درباً للرحيل، وبعضنا مثلك تسمّر حارساً للقضية يخبّئ المزامير بانتظار صبحٍ عتيد.
بوركت كتبك الثلاثة تجمعُنا اليومَ في قطارٍ واحد ، بورك الحرفُ ينسلُّ طيَّ صفحاتِك فعلَ وفاءٍ قبلِ أن يكونَ فعلَ إبداعٍ وحياة.
أيّها الآتي من وطنٍ يطحنُ مثقّفية ويغلُّ معاصمَ مواطنيه، أرى فيكَ ذاتي لأننا مشدودَين الى ذاكَ الشرق السابحِ على هامة المدِّ والجزر، ندفنُ الحيرةَ عندَ قبر أبيكَ وأبي وننسلُّ مع سِفر العودة الى بوابة الفجرِ الجديد.
غداً يا صديقي يعصرنا الوجعُ واحداً في مناسكِ ذاك الشرق، نطلِّقُ جوعَ الغربة ونشبعُ من نعمةِ اللقاء، لن ندعَ الغفلةَ تحاصرُنا، ولسنا كذاك الملّاح الذي سرقهُ المحيطُ ولم يعُدْ.
سنبقى نعلّقُ المصابيح، سنبقى أشرعةً للنخيل، نسرج أكمام الغمام عطراً لربوعنا ونحن نقول:
قُمْ إلى النهرينِ دمعاً يُذرَفُ
نسمةُ الشرقين عادتْ تعصِفُ
واعصر الأنداء ريقاً للسنا
بلّلِ الأوراق حُبّاً يورفُ
دُجلة الريّانُ أمسى موجةً
من دمِ الأطفالِ باتت ترشفُ
نينوى في مقلتيها دمعةٌ
في رُبى بغدادَ راحتْ تهتفُ
أين طفلٌ كنتُ ألقاهُ هنا
أخبروني أنَّ طفلي ينزفُ
أين نخلٌ غصنه طال السما
أين نهرٌ منه عطراً نغرفُ
إطمئني قالها صوتُ المدى
أنتِ أمٌّ مَنْ سواها نعرفُ
ساحةُ الفردوسِ باتت ها هنا
أحرُفاً في سما سيدني تدلفُ
كاهنٌ أيقظ النجوى لهيباً
شوقُه مجدَ العراقِ يرصفُ
هللي بغدادُ إن طابَ الهوى
فالذي أرسى هواكِ يوسفُ
0 comments:
إرسال تعليق