انعكاسات مرايا ( ظلان يشبهان وجهي ) للشاعرة ريما فاضل/ نزار حنا الديراني


يعتبر النص الشعري من الوسائل التي مكنت الشاعرة من أرسال أنويتها المحملة بآهات الشجون أو لحظات الفرح والأنبهار بكل ما هو جميل عبر مفردات من ذوات العلاقة الوطيدة بحياتها اليومية، والقرببة من الفؤاد ، تتشظى في اعماقنا وتنقلنا بتجربتها الشعرية الى مديات بعيدة مما يسمح لإنعكاسات صورها الشعرية من ذوات تزويق فني لائق من ملامسة ودغدغة أحاسيسنا الداخلية بكلمات وجمل مموسقة فيما بينها بالتوالد والانصهار في دواخلنا للكشف عن الأنا الكلية والتي تعمل مجتمعة كي تنحو بالإبداع نحو التوازن في تجربة الشاعرة ريما محفوض . 
من هنا تأتي أهمية الصورة الشعرية كعنصراً من عناصر الإبداع في الشعر، والتي أصبحت واحدة من المعايير التي يُحكَم بها على أصالة التجربة الشعريّة، وعلى قدرة النص على التأثير في نفس المُتلقِّي من خلال ما ينفثه الشاعر / الشاعرة من عواطف ومشاعر تجعل من الصورة هي الشعور، والشعور هو الصورة. 
هذا يعني الصورة الشعرية هي عمليّة تفاعل متبادل بين الشاعر والمُتلقِّي من خلال قيام الصورة مقام المرآة بعكس أفكار وحواس الشاعر والمرتبطة بخياله لا بل هي وليدة الخيال .
قراءتنا للمجموعة الشعرية ( ظلان يشبهان وجهي ) للشاعرة ريما فاضل محفوض والصادرة عن مؤسسة سوريانا للأنتاج الاعلامي عام 2018 نتلمس من خلال ما قامت به الشاعرة في (42) قصيدة على التعبير عن ما تكنه أنويتها المتفاعلة مع الحدث بلغة شعريّة تستند إلى الاستعارة، والتشبيه؛ مستفيدة من فن القص والمونتاج بهدف استثارة إحساس المُتلقِّي واستجابته كرد فعل لذلك الاحساس الذي يتلقفه المتلقي من خلال ما تعكسه مراياها على مستوى التصوير الشعري .
فولدت تجربة شعرية متميزة على الصعيدين الفكري والفني؛ كونها تحمل نضجا فنيا واضحا في الصورة المعبرة ، واللفظة الموحية ذات القدرة على التأثير، وطرق وجدان المتلقي، بعيدا عن تعقيدات اللغة بمجازاتها وتوظيفاتها الأسطورية ، فصورها الشعرية والتي تدخل في سياق الرؤيا وتكاد تتوحد بالحلم وتقوم مراياها بعكس أفكارها المصورة بواسطة لغة جميلة مبسطة لترسم على المساحة المتاحة لدى القارئ لوحة فنية تتشظى في أنويته وتنقله الى عالم الأحلام ليزاوجها مع صورة الواقع الذي يعيشه ليتخيل المشهد كقولها في قصيدتها (سلمية) وهي فاتحة مجموعتها ..
أنا أبنة مدينةِ
يسامح فيه العجينُ
رغيفَ الخبزِ والخباز والنارَ
على كل ما فعلوه بطحينهِ ...
أنعكاسات الصورة تكون على شكل تساؤل على القارئ للأجابة عليه ، الشاعرة تسألنا : هل يمكننا نحن البشر أن نتشجع ونكون على مستزى المسؤولية كرغيف الخبز لنسامح الآخرين رغم ما أقترفوه بحقنا ... من أجل هذا الوطن الذي هو أسمى ؟؟؟؟ ...
فالسؤال هنا يمثل بؤرة الحراك الشعري، ومكمن تفجير الدلالات؛ وحراكها وتوالدها المستمر، وإنتاجها الخصيب والصورة هي الاخرى أصبحت أداة مهمة تستكنه دواخل الشاعرة ومن خلالها خرقت التفكير المنطقي فاكتسبت صورتها المعكوسة من خلال مراياها مرونة التفكير بعد أن رطبتها بنفحات الخيال الذي بث الحركة والحيوية في الصورة لتتشظى في مدارات سياقية جديدة كي تتوشح القصيدة بصور مفكرة ، فجرت الدلالات المكبوتة في قلب القارئ ...
أنا أبنة المدينة
التي يتشابه فيها
القمح والسرِوُ
ارتفاعا ولونا
وبستحيل فيها القطن
الى عزاء
قلوبنا سكر في زمن الملح
وأيدينا جسورُ للشهداء
 فالشاعرة تقترب بصورها من الوضوح في إجلاء الصورة الشعرية من خلال الأخذ بالمعطيات الحسية لتقوم بعكس العلاقة الشعرية بين المشبه والمشبه به على وجه يرتضيه المنطق وتقره الذائقة البلاغية. فالتشابه بين القمح والسرو عكست من خلاله صورة التعايش في مدينتها بين أجناس شعبها للعيش المشترك على أعتبار الجميع متشابهون ومتساوون في الحقوق والواجبات وجعلت من صورة القطن تتشظى لترسم لنا أكثر من صورة فمن جانب ، من القطن يصتع الكفن وفي الاخرى بياض القلوب في مدينتها هي التي تجمعهم سوية في العزاء كمصير مشترك حين تتشابك أياديهم مكونة جسرا تعبر من خلاله الشهداء .
وفي قصيدتها (لأني أحبك ) وغيرها من القصائد تجد الصورة هي التي تحمل الواقع الحسي على عاتقها كمعين لتسوغ الشاعرة من خلالها العلاقات الشعرية وتنيطها بمرجعية حسية لا يدركها العقل ألا من خلال قيامها مقام المرآة لعكس الصورة في ذهن المتلقي والتي بدورها تدخل في مختبر المخيلة الشعرية ليقوم هو الآخر بطبع تلك الصورة بعد أن زاوجها بالواقع اعتماداً على حركة النفس والتي قادته الى تفجير الدال عنده ، واشراكها في المعاناة :
تخيلت السحب مرارا
تتكور على البلاد
فتحجب عنها القذائف
والأشجار تصدُ الريحَ
وطلقات الرصاص
وأنك بمسحة يدك
ستلغي 
الحدود بين الأوطان
الشاعرة أستطاعت أن تنسج قصيدتها من مجموعة صور تخترق الوضوح لتجسد دلالات الرؤية والتخيل من خلال الربط بين هذه الجزيئات ( الصور) للحصول على اللوحة البانورامية الجميلة جدا بعوالمها الوامضة والمحفوفة بظلال المشاعر لتقوم بدغدغة مشاعرنا وحثها على الأستفاقة لتأخذ أماكن السحب والأشجار كمصدات للشر الذي يحصد الأبرياء ....
الشاعرة ريما فاضل أعتمدت الخيال مناخا تتنفس من خلاله صورها الشعرية، بعد أن اعتمدت التشخيص لمكان الألم ومن ثم تجسيم ذلك الألم ليتسنى لها تصويره من خلال الحلم وتراسل الحواس لذا جاءت صورها محملة بالوجدانية التي طبعت في قريحتها دلالات عكستها مراياها كصور مقلوبة في مخيلة القارئ لتقوم هي الأخرى بعكسها على الواقع وكأنها قناعا للصورة المجسدة للكيان وصراع الانسان في الحياة بشكل عام . وكما في قصيدتها ( ومضات 1 ) تقول :
كلما أبتلعت
سمكة أشتياقي 
طعم سنارة غيابك
جفَ البحر
بكاءً ... وتبخَر 
الشاعرة ومن خلال ما لديها من تقنيات وأخيلة فكثيرا ما تقوم لغتها على الثنائيات المتقابلة والمتشابهة والتي سرعان ما تتلاحم وتتتوحد فيما بينها في الصورة  الشعرية ، لذا جاءت عنونتها لمجموعتها الشعرية ( ظلان يشبهان وجهي ) موفقة في عكس المضمون الداخلي لتقترب أكثر من الذات وتتوغل أكثر في الخيال و الحلم  ... ليتسنى لها المزج بين المحسوس والمعقول والمتخيل وكما الحال في قصيدتها ( طفل قبل الولادة ) تقول فيها :
أيامك هي هروبُ
النهايات نحو البدايات
التوقيت لديك
كدرجات الحرارة
في قطب مجمد
دائما تحت الصفر
أنتظاري لك 
عند الصفر
جعلني في مكاني
الشاعرة تحاول دوما نسج علاقات جديدة بين أجزاء الصورة الفنية، من خلال تبادل المدركات؛ وذلك بإضفاء الصفات المادية على المعنوية وبالعكس، وبأساليب وأشكال فنية مختلفة كالتجسيد من جانب، والإمعان في التشخيص من جانب آخر بمعنى إحياء المواد الحسية الجامدة وإكسابها إنسانية الإنسان وأفعاله ونقل المعنى من نطاق المفاهيم إلى المادية الحسية" كما في الجمع بين ألأنجماد في القطب المتجمد وأصرار أنتظارها بدون حركة للمولود الجديد مما ساعد على توسيع الصورة وتناميها وجماليتها لدى المتلقي؛ وذلك لوجود مساحات مديدة من الإيحاء الذي يؤكده الانسجام بين المشبه "صوت الأم" والعناصر الأخرى .
لقد استطاعت الشاعرة اأن تقيم بناءها المعماري الصوري الشعري الحسي، وتصور لنا الحالات النفسية والوجدانية والشعورية التي تنتاب الأم وهي تنتظر مولودها الجديد في زمان ومكان يدعوان الانسان الى 
الهجرة والابتعاد ، فرسمت لنا المشاهد واللوحات من خلال العلاقات االتي تقيمها بين طرفي الصورة من خلال استخدامعا تبادل الحواس وتراسلها .
ومما يلاحظ في لغة الشاعرة انها لغة انفعالية، تمتاز بنغمتها الصاعدة أحيانا ، ولعل هذه الانفعالية الواضحة، حملت الشاعرة على اختيار مفرداتها القادرة على استيعاب طاقاتها الانفعالية، بما يثير المتلقي، وبمعنى آخر تصدمه بما تحمله من شحنة توترية، يقوم اساسها على محورين: محور الذات الشاعرة  المتأثرة، ومحور الموضوع، والعلاقة القائمة بينهما، التي اما ان تكون علاقة تنافر وخصام، وأما ان تكون علاقة توافق وانسجام وكما الحال أيضا في نصها الآخر ( وجع الماء ) :
صدقني يا دجلة
إن كنت تثق برياحٍ
لا تقف عند الحدود
لتقدم جواز السفر
صدقني
سمعت الفرات يهذي
وصوت الماء
يخاطب ترابه
 فقد قامت الشاعرة ببناء لوحتها الشعرية السردية على تراكمية تجميعية لمحسوسات منها ما هو بصري (نهري دجلة والفرات ، الحدود ، جواز سفر ..) ، ومنها ما هو سمعي، كما في ( الصدق ، الثقة ، الوجع، صوت الماء ، الهذيان) ، ومن ثم زاوجت بينهما في بنية لغوية تعتمد التشبيهات المتعددة التي تتداخل مع حدود الاستعارة مكوناً نصاً جميلا تتآزر وتتناصر محسوساته لإنتاج الصورة الكلية للقصيدة والتي قامت على جملة من التعابير الاستعارية .
فاستخدامها للمكان وعناصر الطبيعة لم يكن مجرد وسيلة بلاغية بل يتمثل بالصورة الكاملة وحيث أرتبطت في رؤياها عناصر الطبيعة بما يماثلها من الواقع الأنساني المؤلم والمفرح في أحيان أخرى لترتبط فيما بينها ارتباطا عضويا جعل الصورة كلها تفرض لنفسها وجودا خلال منطق الخيال ليكون أكثر واقعية من الواقع نفسه . وهذا ما نتلمسه في قصيدتها ( فصول من حب ) :
بين كفي وكفك
تصطف مئات الفصول
لنحمل رائحة الليمون
بين السنابل
لا تبحث عن السنونو
كلها
قد هاجرت الي
فان شئت تعال ...
فلقد أصبحت الصورة الشعرية لدى الشاعرة ريما كيانا خاصا يحمل في طياته زخما وافرا من الأحاسيس والمشاعر المشتعلة والتي أستقتها من الواقع المرير الذي تشغله قضية الانتماء، والوطن في كثير من الحالات كنتيجة لما تفرضه الحياة المعاصرة بمختلف تعقيداتها ومعطياتها الجديدة التي تتطلب منطقا خاصا يتماشى وهذه التعقيدات.
كما لا بد من الأشارة لعب المونولوج دوراً هاماً في صورها الشعرية للتعرف على مدوناتها الجميلة في ملفوظات مشحونة بالدلالة الحسيّة معتمداً فيها على ملامحها الشخصية وأفكارها ومشاعرها الداخلية بصور تتكئ على السردية أحيانا وفي الأخرى الغنائية لتهز الوجدان بإنسيابية تمليها المشاعر والأحاسيس والإنفعالات، متشابكة في لوحة تعبيرية واضحة المعالم رغم كثافة ظلالها فتتحرك هواجسها بالنيابة عن الرعب المتأصل في ذاتها المصابة بخوف مستديم بسبب الأحداث والمآسي التي عمت المنطقة لتمكنها من الولوج إلى الباطن فتتحرك هذه الهواجس مشكلة القسم الغنائي في قصائدها المتحفزة في أعماق الذات كما هي رؤى الأحلام والكوابيس والمرئيات التي يتحسسها المعني . وكما في قصيدتها ( ومضات 4 ) حيث تقول :
يحدث
أن تدق كؤوس أحزاننا
لنرتشف الفرح
من قلب يحب حد الثمالة
وتعود لسكرة دموع
في زجاجة صمتِ
لا تنضب ... !! 
تستحضر الشاعرة في هذا المقطع ، عناصر من الحياة اليومية ( دق الكؤوس ، الثمالة ، زجاجة مشروب...) كل منها تحمل دلالة مستقلة تضفي طابع ما تحمله الشاعرة من مآسي وأفراح الواقع للبحث عن معاني الحياة من خلال نشوة أقداح النبيذ في واقعنا حين تكون المحبة سيدة الموقف لدى المجتمعين، وهذا ما يولده الاتفاق المطلق بين الشاعرة وواقعها، هذا الاتفاق الذي يفرز ظاهرة هروبية من مآسي الأحزان التي أصبحت ترافقنا قلا سبيل للتخلص منها إلا من خلال قرع الكؤوس وأرتشاف لحظات الفرح.
كل هذا هو أنعكاس للصورة التي تعكسها مراياها لتجسد لنا الصراع الداخلي الكامن  في عمق الشاعرة بين ثنائية ( الفرح والحزن ) وهو صراع يومي تعانيه الشاعرة أسوة بأبناء شعبها بسبب الصراعات المستمرة في أوطاننا ، أنه صراع حقيقي متجذر في أعماقنا ، مما دفع الشاعرة في قصيدتها ( لم أعد أريدُ طفلاً ) لتنصح مولودها الجديد بالبقاء في البطن وحيث الدفئ والحنان  :
لا تأت
ما الجدوى أن أتيت
وأنا أشيعك في وجداني
مع كل طفل شهيد ...
ومن ثم تزيد وتقول :
بين الطفولة والواقع
تقسم الحياة
نصفين
نصفُ يموت سريعا
ونصفُ يموت كل موت
فلماذا تفكر بالحياة
وأنت مخير يا صغيري !!
يتواصل الصراع الداخلي الذي تعانيه الشاعرة بين مظاهر الموت والفناء التي تحيط بنا من كل جانب، رغم كل ذلك فالشاعرة لا تستسلم بل على العكس من ذلك ولد لديها الرغبة في المقاومة من خلال الصورة المكابرة التي تجسدها صورة الوطن . كقولها في قصيدتها ( ومضات 5) :
حدائق دمك مزروعة في روحي
لي أن أمنحها ضحكة تشبهني وتشبهك
هكذا يكون الأرتواء شبيها بقلبي
جميلا كنبض سرقتهُ وردة من كقك
وختاما أقول لقد نجحت الشاعرة من الأستفادة من بنية الاستعارة القائمة على التشخيص وبث الحياة والحركة في الجمادات والأشياء فأفرزت لنا نصوصاً شعرية جميلة ساهمت في نقل الأشياء من طابعها المجرد الى المحسوس، لتجعلها تولد دلالاتها الموحية، التي تعبر عن فاعلية التخييل وأنسنة الأشياء من خلال إضفاء الصفات الإنسانية عليها.. فظهرت الحياة والوطن لديها بمظهرها اليومي الحقيقي المبني على الحزن الذي يخبئ أحلام الطقولة لغد قد يكون مجهولا أو هو مجهول حقيقة . 

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق