لقد كانت قرابتي بالكاتب يوسف جزراوي فرصة نادرة مكنتني من مواكبة تطوره الأدبي والفلسفي والحسي على مدى ما يقارب العقدين. في هذه السنوات، عايشت تحولات شخصيته التي كانت دائماً مزيجاً فريداً من الفكر والنضج، فتجلت فيه صورة الإنسان العادي الذي يمر بتجارب الحياة، تأثره العميق بالكهنوت كرجل دين، وحساسيته الرفيعة كشاعر وأديب.
يوسف جزراوي، في أبعاده المتعددة، لم يكن مجرد كاهن يقرأ الكتب السماوية ويتأمل في الخلق، بل كان إنساناً يحمل داخله قلباً مفعماً بالشعر، وروحاً تواقة لفهم العالم من زوايا مختلفة. ورغم تحمله الكثير من الأعباء التي ترافق الكهنوت، إلا أن قلبه الشاعر أبى إلا أن يتنقل بين كلمات ناعمة وصور فنية تلامس عمق الوجدان. لا شك أن رحيل والده شاباً قد شكل نقطة تحول كبرى في حياته، حيث غيّر الكثير من مساراته، وأثر في شخصيته بشكل غير مباشر، مما أضفى على نصوصه بعداً مفعماً بالحزن، والحكمة، والفقد. كما تنقله بين بغداد، وطنه الذي لا يفارق ذاكرته، وبين الشام الحبيبة، ودول أوروبا، وأستراليا، ثم أمريكا، خلق في داخله دورة إسطوانة متعددة النغمات؛ فكانت ثقافات وأعراف وفن هذه الشعوب ملهمة له ومؤثرة في شخصيته الأدبية.
هذا التنوع الثقافي أفرز نصوصاً فريدة، فهي نسيج متداخل لسمات متنوعة تتداخل فيها الذاكرة الشعبية مع الفلسفة الروحية، وتبرز فيها لغة منفتحة على العالم لكنها متمسكة بجذورها العميقة. الكتاب الذي بين يديك هو عبارة عن خلجات نفسية للشاعر، وتدوينات نثرية صادقة تعكس أحداثاً عايشها الكاتب مع أشخاص من ثقافات متعددة، فكل وجه مر أمامه كان له تأثيره في تشكيل رؤيته للحياة. وبين سطور هذه النصوص تجد حكايات عن الحب، الخيانة، الفقد، الأمل، والبحث عن الذات في وسط محيط متغير. ومن خلال هذه القصص، تظهر فلسفة الكاتب الخاصة بالمرايا، تلك الأداة التي تعكس لنا وجوهنا، لكنها في الوقت نفسه تخفي جزءاً منا. كان إدخال المرايا في عنوان الكتاب بمثابة دعوة لتأملات فلسفية حول كيفية تأثير الصور والوجوه في حياتنا، وكيف ننسى أحياناً ملامحها ولكننا لا ننسى انعكاساتها على نفوسنا.
إنه كتاب ذو أبعاد فكرية ونفسية عميقة، يغوص في أعماق الإنسان وتجارب الحياة، بل هو رسالة في البحث عن المعنى والحقيقة، يتنقل عبر زمن ومكان ليصل بنا إلى عالم مليء بالإحساس والفكر الذي لا يهدأ.






0 comments:
إرسال تعليق