لهذين الكهلين الظاهرين في الصورة، كما لهذه الصخرة قصة تروى.
كان ذلك في يوم خريفي حين كنا صغيرين، بحدود الخامسة أو السادسة من عمرنا، صديق فجر الطفولة قريبي الشيخ أبو طليع معروف زوين وكاتب هذه الخاطرة، لم نكن نعلم بأننا فقراء جدا جداً، فقراء حتى العظم، في قرية لم يتسنَّ لنا الخروج من حدودها الجغرافية حتى ذلك الحين.
نُسيمات أيلول الخريفية عادت مع موسم قطاف عنب الكروم ومعاصر الدبس، طيور أيلول تنساب على مهل سابحة عكس الهواء والغيوم في هجرتها جنوباً، لاحقتُ ظلالها على الأرض كي أدوسَ عليها ولم أُفلِح، ثم ضحكت على ذاتي قبل أن يسخر الآخرون من دونكيشوتيتي.
النسيمات تعبر باردة هفهافة في خَـلَّـةِ كروم العنب في منطقة "وادي المغاير" في قرية عيحا البقاعية في لبنان. كان عدد الأفراد الذين يقطفون عناقيد العنب يقارب العشرين، جميعهم منهمكون في عملهم باستثناء الطفلين الصغيرين في حينه محمود ومعروف، يتضايق الكبارمن حركتنا المفرطة ويطردوننا كي لا نُعيقهم في آداء عملهم، أحدهم قال لي “ حلُّـو عَـنّـا رُوحُو العَـبُـو".
لم نُكَذِّب خَبَراً، عَدَونا بخفةِ ورشاقةِ طفلين صغيرين، نتسلق أرض مُـنحَدَرَ أرض "العريض"، بطريقةٍ أقرب إلى الحَبو والزحف بسبب حدة زاوية المنحدر، نصارع انزلاق أقدامنا، الصغيرة على تربة مترعة بالتربة الناعمة المقلقلة المغطاة بالحصى الصغيرة، نتقدم خطوتين ونتراجع واحدة.
بعد جهد بلغنا المغارة المحفورة في الصخر (الصورة المرفقة) بارتفاع ستة أمتار، ينتهي أعلاها بجسم مخروطي مساحة سطحه مُـحَدّب الشكل بحدود نصف متر مربع.
وقفنا أنا ومعروف (أخي وصديقي الشيخ أبو طليع اليوم) على رأس ذلك المخروط الحجري، صرنا ننظر إلى الأسفل بكل اطمئنان، لم يساورنا أدنى شعور بالقلق أو الخوف، شبكنا ذراعينا وشرعنا نغني، ولكن من كان يتابع المشهد من ذوينا وأقاربنا ارتعب حتى حدود الهلع، منهم من صار ينادينا لتحذيرنا من السقوط، فصارت تأتينا الأصوات بتعليمات متضاربة متناقضة : "ما تتحركوا! ، انقبروا نزلو بسرعة!"نزلو شواي شواي".
رحم الله أرواح من خاف علينا، لم يبق منهم أحد على قيد الحياة. ولكن الصخرة باقية بعدهم، وبعدنا. إنها سنَّ الحياة وقوانين الطبيعة، فسبحان المكون والـمُـقَـرِّر.






الله يطول بي عماركن
ردحذفتظلو بصحتكم يا رب
ردحذف