سنعرج في هذا الفصل على علاقة النظام (المقطعي ) اللغوي الشعري الحديث مجازاً(1) بوحدات الخليل وتفعيلاته ، ثم على الترقيم العروضي إلى المدى المتاح والقدر المباح .
بادئاَ نقول : للصوت اللغوي العربي خصوصيته المتميزة بالنسبة لبعض اللغات الأخرى ، واللغة نطق قبل أن تكون كتابة ، وهكذا الشعر ، ولكل من الحروف الساكنة والمتحركة والحركات وحتى حروف المد مدى زمني جزئي صوتي خاص بها ، تبثه الحنجرة وأعضاء النطق ، أو ما يسمى بالجهاز الصوتي ، بتردد معين ، والتردد هو عدد الذبذبات الصوتية في الثانية الواحدة ، ويرجع إليه تحديد درجة الصوت ونغمته ، وبنبرة خاصة ، والنبرة يكتسبها المتكلم من بيئته المناطقية أوالقبلية ...حتى تقترب من اللهجة المحلية ، ولا تؤثر النبرة في العربية على إيقاع الشعر الكمي ، ولكن في بعض اللغات الأجنبية - كالفرنسية - لها دور فيه تؤدي إلى كسره آو استقامة وزنه ، حسب الحالة الشعرية. (2)
وفي النظام اللغوي المقطعي الكمي قسّم العلماء الحدث اللغوي إلى أجزاء حسب الفترة الزمنية المقطوعة إلى ( مقاطع ) ، والمقطع ظاهرة صوتية عضوية ، تعريفه أقل كمية لصوت ملفوظ يصدر خلال حدوث نبضة صدرية ، وقد يعتبر حركة قصيرة أو طويلة ، مكتنفة بصوت أو أكثر من الأصوات الساكنة وفي العربية المقطع لا يبدأ بصائت ، ولا يحتوي على صامتين متتاليين بداية ، أعني الحشو ( 3) و المقاطع منها :
أولا: المقطع القصير :
ويرمز له بالرمز ( ب) ، ويتكون من : صامت + صائت قصير ، يعني ( حرف منطوق بحركته في اللغة العربية ، والسكون ليست منها ) ، مثل : حرفي الجر الباء واللام .
ثانيا : المقطع الطويل :
ورمزه ( - ) ، ويتكون إما من :
صامت + صائت طويل (حرف + حرف مد ) مثل : لا ، وهو المفتوح .
آو من : صامت + صائت قصير + صامت (حرف بحركته + حرف ساكن) مثل : لـَمْ ، وهو المغلق .
وهذا هو السبب الخفيف ، وهنا فقط يلتقي النظام المقطعي الحديث مع الوحدات الوزنية الخليلية.
.
ثالثاً : المقطع زائد الطول :
ورمزه ( ^) ، ويتكون إما من : صامت + صائت طويل + صامت مثل : دارْ ، وهو مغلق بصامت .
أو من صامت + صائت قصير + صامتين مثل : حَبْرْ ، وهو مغلق بصامتين ( 4) .
وهنا يلتقي النظام المقطعي الحديث مع السبب المتوالي الذي أقر به القرطاجني ، وهو نادر الحدوث في اللغة العربية .(5) .
ويذكر تمام حسّان مقطعا سادسا ، يمكن أن نسميه بـ (المقطع الأقصر ) ، وهو حرف صحيح مشكل بالسكون، مثل لام التعريف ( 6 ) ، ويمكن للصائت القصير أن يشبع إلى حرف مد للضرورة الشعرية ، ولكن لا يساويه تماما .
هنا قد نلجأ إلى إيجاد صيغة المقطع شبه الطويل ، ويجب التمييز عند التقطيع بين حروف العلة ( الياء والألف و الواو ) إبان مدّها ولينها ، فالحرف عند المد تكون حركة ما قبله تجانسه ، ويقف بالسكون ، ومخرجه من الجوف ، وحرف العلة نفسه عند اللين تكون حركة ما قبله الفتح دائما ، ويقف ساكناً أيضاً ، ومخرج الواو عندئذ من الشفتين ، ومخرج الياء من وسط اللسان ، وهنالك فروق أخرى .
و(الكم ) يعتمد على ترتيب عدد المقاطع حسب التفعيلة والبحر وحتى صورة تكوينه ، وقد تأتي التفاعيل من مقطع واحد ( فعْ ) ، أو مقطعين ( مفـْعو ) أو (فعْلنْ ) - التي كثرت في شعر التفعيلة - أو ستة مقاطع ( متفاعلاتن ) (مَ تَ فا ع ِ لا تنْ ) ، وهذا أمر قليل أو نادر ، ولكن معظمها تتكون مابين ثلاثة أو خمسة مقاطع (7 ) ، ويمنع العروضيون أنْ تتوالى في الشعر خمسة متحركات ( خمسة مقاطع قصيرة ، أو أربعة مقاطع قصيرة يليها مقطع طويل ) ، والواقع لم يرد في الشعر أكثر من ثلاثة مقاطع قصيرة متتالية ، نعم وردت أحيانا في الرجز - وهو حالة خاصة - التفعيلة ( مُتـَعَلـَنْ ) ، وهي تتكون من ثلاثة مقاطع قصيرة يليها مقطع طويل ، وإذا جاءت ثلاثة مقاطع قصيرة متتالية في القافية ، أوسموه بـ ( المتكاوس ) ، ويقول التبريزي ، إنما سمي بذلك للإضطراب ، ومخالفته المألوف ، كتكاوس الأبل إذا مشت على ثلاث قوائم (8) . أمّا المقاطع الطويلة ، فقد تأتي أربعة منها بشكل متوال ٍ، تقبله الأذن العربية ، ومما ألفته كـ (مستفعلن مفعولن ) ، اوكما في كثير من أبيات بحر (المتدارك ) : ( يا ليل ُ الصبُّ متى غدهُ ) ، أو ( مالي مال إلا درهمْ.......أو برذوني ذاك الأدهمْ) ، ولكن نادراً ما تتوالى أكثر من أربعة مقاطع طويلة في غير شعر (التفعيلة ) .(9)
وعلى العموم قراءة الشعر العربي ، وحدوه وترتيله بلسان أصحابه ، أقرب إلى وحدات الخليل الوزنية منه إلى المقاطع الحديثة ، ربما يعود للممارسة والتعويد على طيلة العهود العربية الموروثة ، ثم أن المقاطع تؤدي إلى وحدات الخليل فالسبب الثقيل يساوي مقطعين قصيرين (ب ب) ، والوتد المجموع يساوي (ب -) ، والوتد المفروق هو (- ب) ، والفاصلة الصغرى (ب ب -) ، والفاصلة الكبرى (ب ب ب -) ، وتفعيلة : فعولن تصبح ب - - ، وتفعيلة : مفاعلتن تقطع ب - ب ب - ، وهكذا دواليك ..تعوض أجزاء التفاعيل بما يساويها من المقاطع .
وذهب آخرون إلى تسهيل دراسة العروض وتعقيداته المزعومة بلغة الأرقام اللينة ، أو قل ليتأملوا فيه بعقلية الرياضي المستنبط للأمور من دقائق حساباتها، ورسم خرائطها ، للإنطلاق إلى الإبداع النظري المفتوح ، وللناس فيما يعشقون مذاهب ، وأوسموه بالعروض الرقمي الشمولي أو القياسي ، وهذا ربما يفيد لوزن الشعر وإبداعه كتابيا بتان وتفحص ٍ وتقليب ، وبالتالي يلجأ إليه النقاد إبان بحوثهم ودراساتهم وتحليلاتهم ، أما إذا أردت البديهة العاجلة والسرعة الخاطفة ، ولديك الملكة الشعرية النافذة ، والأذن المرهفة العارفة ، أرى أن اللجوء إلى التفعيلات ووحداتها ، أو الأجزاء ومقاطعها مباشرة ، دون وساطة الأرقام ، أجدى وأسرع للإفهام ، فللأرقام البحث والأقلام ، ربما تأتي بلذيذ جديد غير مكتشف في عالم القصيد ، من بعد " هل غادر الشعراء من متردم " و" معاداَ من قولنا مكرورا " منذ علم الجاهليين ، وجهل العارفين !!
على كل حال ، تـُعطى الرموزالرقمية كالآتي :
الرقم 1 : للحرف الواحد المتحرك ( / ) ، أو الساكن ( ه ) ، ( ويمكن لا يُعطى للساكن الرقم :1 ويبقى على سكونه ( ه ) .
الرقم 2 : للمتحرك يليه ساكن ( /ه ) ، وهو السبب الخفيف ، وللمتحركين ( // ) ، وهو السبب الثقيل .
والرقم 3 : للمتحركين يليهما ساكن (//ه )، وهو الوتد المجموع ، وللمتحركين بينهما ساكن ( /ه/ ) ، وهو الوتد المفروق .
والرقم 4 : لثلاث متحركات والرابع ساكن ( ///ه ) ، وتساوي الأربعة سبباً خفيفاً وسبباً ثقيلاً (الفاصلة الصغرى ) .
أما الرقم 5 : لا يستخدم تطبيقياَ ، وإنما تُرجع ( الخمسة) إلى أعدادها الأولية 2 ، 3 ، لأنها تمثل الفاصلة الكبرى ( ////ه) ، التي تتشكل من السبب الثقيل والوتد المجموع ، والتكرار للإفادة والإعتبار .
الوحدتان الرئيسيتان في العروض الرقمي هما 2 ، 3 ، ومنهما تُستنبط التفعيلة - التسمية مجازية - الأساسية السباعية من سببين ووتد دون ترتيب (2 ، 2 ، 3 ) ، فإذا كان الوتد متصدر ا (3 ، 2 ، 2) سميت تفعيلة الصدر ، و إذا كان الوتد يتوسطها (2 ، 3 ، 2) دعيت تفعيلة القلب ، وعندما يقع الوتد في نهايتها ( 2 ، 2 ، 3 ) أطلق عليها تفعيلة العجز(10 ) .
للدكتور محمد طارق الكاتب طريقة رقمية تجعل المتحرك : صفر ، والساكن : 1 ، فمثلا (مستفعلن ) قدرها ( مُسْ 10 - تـََفْ 10 -عَلـُنْ 100) ، ويحولها إلى (2-2-4) ، أما مزاحفتها ( مُفـَتـْعلنْ ) فقدرها (100- 100 ) ، وتتحول إلى ( 4 - 4 ) ، وبالتالي حاصل ضرب الأرقام (الجداء ) له القيمة نفسها.
أمّا الدكتور أحمد مستجير فيفترض رقماً للحرف المتحرك الذي لا يتبعه ساكن (مقطع قصير) - وهو بالأساس سبب خفيف حذف ساكنه - ، فمثلاً الشطر ( مستفعلن مستفعلن مستفعلن ) له الأرقام ( 3 -7-11) . (11) أي ألأسباب الخفيفة ، الثالث والسابع والحادي عشر التي حذفت حروفها الساكنة في الشطر المحصور بين قوسين ، لاحظ معي : ( مسْ تفْ عَ 3 لنْ مسْ تفْ عَ7 لنْ مسْ تفْ عَ11 لنْ ) ، وهذه الأراء لاتستقيم مع جميع البحور والزحافات والعلل التي تعتريها ، فهي حسابات رياضية نظرية وللباحثين فيما يذهبون ترقيم ، والله فوق كل ذي علم عليم .
الشاعر بين ملكة حفظه وقدرة رياضيته ، وسعة تخيّلة ، وقصيدة نثره :
والحق هنالك علاقة وثيقة جداً بين الموهبة الرياضية والإلهام الشعري فكلتا العبقريتين تستندان على القدرة التحليلية والتركيبية الخاطفة حتى الدهشة والإعجاب ، وما الموسيقى والإيقاع والأوزان - ولكلّ مفردة دلالتها الخاصة - إلا انعكاساًت مظهرية و عملية لهذه المواهب ، إضافة للسعة التخيّلية و التفكير الاستدلالي والمنطقي ، والاستخدام الرمزي للتكامل العبقري ، ومن يتخيل أن القابلية الهائلة للحفظ كالمسجل لها أن تولد شاعراً كبيراً عملاقاً ، فهو في خطأ كبير ، ووهم شديد ، إلا إذا جمع هذا العبقري كل هذه المواهب حتى الحافظة القوية ، فلله لله درّه .
وبالرغم من أنني أزعم أن لا شعر عربي دون موهبة موسيقية مرهفة حتى الإبداع قد جبل عليها الفنان الشاعر منذ بويضته الملقحة ، وتتضمن هذه الجبلة بقية الخصائص المذكورة آنفاً ، وقد تسلب الطبيعة منه بقدر ما وهبته من نواح ٍ أخرى ، أي أن الإلهام الشعري موهبة موروثة متكاملة على درجات ، والدنيا قسم ،وهنا يكمن السر بين الشاعر الشاعر ، والشاعر ، والناظم الذي يوّلد القصيدة الميتة أقول بالرغم من هذا ، فعلى الشاطر الشاطر أن يتدارك الأمر ، وينتبه إليه ، ويأخذ الدنيا غلاباً ، للمجد والخلود ، فيستكمل ما وهبه الله ،بما يجب أن يتعلمه من الحياة ومعانيها ومدرستها ، ودروسها النحوية واللغوية والفكرية . من هنا نستطيع أن نتفهم قول ابن رشيق في ( عمدته) عن الشعر : " الوزن أعظم أركان حد الشعر، وأولاها به خصوصية وهو مشتمل على القافية وجالب لها ضرورة " (12) ، وعن الشاعر : " إنما سمي الشاعر شاعرا؛ لأنه يشعر بما لا يشعر به غيره . فإذا لم يكن عند الشاعر توليد معنى ولا اختراعه أو استظراف لفظ وابتداعه، أو زيادة فيما أجحف فيه غيره من المعاني، أو نقص مما أطاله سواه من الألفاظ، أو صرف معنى إلى وجه عن وجه آخر؛ كان اسم الشاعر عليه مجازا لا حقيقة ولم يكن له إلا فضل الوزن، وليس بفضل عندي مع التقصير " ، (13) وأن نوفّق بين قوليه ، وقولي الجاحظ في (حيوانه) أنّ الشعر " صياغة وضرب من النسج وجنس من التصوير " (14) ، والقرطاجني ، واعتماده التخاييل " والتخاييل الضرورية هي تخاييل المعاني من جهة الألفاظ، والأكيدة والمستحبة تخاييل اللفظ في نفسه وتخاييل الأسلوب وتخاييل الأوزان والنظم، وآكد ذلك تخييل الأسلوب " (15)
ولا أتكلم أنا في هذه الفقرة عن الخصوصية العربية للشعر ، وإنما عن الشمولية الإنسانية له ، ولا أزعم أنّ موسيقى الشعر وأوزانه ملزمة ببحور الشعر الخليلية وأنواعها المتشعبة ، بل ولا بمهملاتها وزحافاتها وعللها ، ولا بشعر تفعيلته المتجدد على يد الرواد أنفسهم ، ولكن مع التجدد الموهوب بعبقرية ، وقد أشار أدونيس نفسه إلى مثل هذا بقوله : " الزيف الذي ينتشر باسم التجديد خصوصا أن الكثير من هذا المزعوم تجديدا، يخلو من أي طاقة خلاقة ، وتعوزه حتى معرفة أبسط أدوات الشاعر: الكلمة والإيقاع" (16)
والحقيقة قد استندت " قصيدة النثر" لأطروحات سوزان بهنار والتي رسمتها وفق ثلاث بنيات تفترضها كشروط لها.. وهي الإيجاز والكثافة ، التوهج - الإشراق ، وأخيراً الوجائبية واللازمنية.. إن هذه الدعامات أضحت عند شعرائنا الأولين لقصيدة النثر إدعاءات (17) ، ذلك ، كما يقول محمد الصالحي في ( شيخوخة خليله ...وقصيدة نثره ) أن " كل ما كُتب تحت يافطة قصيدة النثر في الشعر العربي ، خاصة في البدايات الأولى - مجرد هلوسات تختفي بفرضيتها، وثوريتها، فيما هي خالية تماماً من أية نفحة شعرية، متذرعة في ذلك بكونها سوريالية ، أو عبثية ، أو دادائية يختار الكتابة الآلية وسيلة " (18)
لا يتخيل القارئ الكريم أنني عندما أتكلم عن الوزن أو موسيقى الشعر أجرده من الأركان الأساسية الأخرى التي تجعل من الشاعر شاعراً شاعرا ، وإلا فهو ناظم ميت الإحساس بجسد شعري ميت ، ولكن أيضاً العوامل الأخرى لا تكتمل مطلقاً إلا بوجود العبقرية الموسيقية .
تعال معي رجاء لتقارن بنفسك ما جاء به الشاعر المعاصر من أصحاب الشعر الحر ، وأصبح أحد روّاد ما تسمى بقصيدة النثر، بل هو شيخها ، ألا وهو يوسف الخال ، اقرأ ، وأنا أتكلم عن الموسيقى والنغم ، لا عن عمق الفكرة ، ومضمون الشعر، يقول في ( البئر المهجورة) :
متى تُمْحى خطايانا
//ه/ه/ه //ه/ه/ه
مفاعيلن مفاعيلن
متى تلمسنا أصابع الشّكِّ
متى تلْمَ سناأصا بعشْ شكْ كي
مفاعيلُ مفاعلن مفاعيلن
//ه /ه/ //ه//ه //ه/ه /ه
الشطر الأول جميل (مفاعيلن مفاعيلن) ، وهو من الهزج .
الشطر الثاني مشكلة المشاكل ، تتبع معي قباحة موسيقاه ، ومدى كرهها من قبل الأذن ، إن لم نقل إنها عيب عروضي ، إذ توالت خمسة أوتاد ، بينها وتد مفروق واحد ، وهذا ما تمجّه الأذن السليمة الذوّاقة للشعر ، وتأباه ، وهذا ما فات على الشاعر ، ثم ( مفاعلن ) ليست من جوازات الهزج ، بل من جوازات مجزوء الوافر ، والنقطة الثالثة توالى زحافان في شطر واحد في تفعلتين متجاورتين وهما الكف والقبض ، وأخيراً كما ذكرنا في المقدمة أنّ شطر بحر الهزج يتشكل من تفعيلتين ، ولم يأتِ الهزج إلا مجزوءا ، بمعنى أن الأذن العربية لا تستسيغ هذه التفعيلة أكثر من مرتين ، لذا شعراء التفعيلة أنفسهم هاجروا هذا البحر إلى مجزوء الوافر . هذا شعر موزون - كما يزعمون - ، ومن شاعر كبير مثل يوسف الخال ، كيف تريدون منّا أن نقبل بما تسمى بقصيدة النثر ، بل ونصفق لمن هبّ ودبَّ ، وما هؤلاء بيوسف الخال الكبير جزماً ؟!!
أما كان الأجدر أن يقول مثلاً :
متى تُمْحى خطايانا
يمسُّ الشّــــكُّ دنيانا ؟!!
فيكون الشطر الثاني أيضا مثل أوله ( مفاعيلن مفاعيلن ) ، وهكذا يسير متناغماً في كل مسيرته الشعرية ، ليسهل حفط شعره كلّه ، ويغنى ، وتتداوله الألسن والأجيال !
ما أستشهدنا به عروضياً شطرين - كمثال عابر - من مقطع جميل ، يتضمن عدّة رموز ومدلولات وإشارات دينية من الكتاب المقدس للمسيحيين !!
ولكن يوسف الخال نفسه في المقطع الآتي من قصيدته ( الحوار الأزلي ) كان موفقاً في ( هزجه):
عبيد نحن للماضي، عبيد نحنُ
للآتي ، عبيد نرضع الذلّ
من المهد إلى اللحد. خطايانا
يد الأيام لم تصنع خطايانا
خطايانا صنعناها بأيدينا،
لعل الشمس لم تشرق لـِتـُحـْيـِـيْـنـَا
مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن مـ
ــفاعيلن مفاعيلن مفاعيل
مفاعيلن مفاعيل مفاعيل
مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن
مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن
مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن
ومن جوازات ( مفاعيلن ) في الهزج أن تصبح : مفاعيلُ ، مفاعيلْ ، فعولن ، فاعلن ، وهو لم يأتِ من جوازاتها سو ( مفاعيلُ) ،وكما ترى التدوير في الشطر الأول !!
نسبة السرعة الافتراضية لبحور الشعر :
وسنأتي من الحسابات الرياضية في علم العروض سرعة البحور ، وسرعة البحور لوحدها لا تعطي جمالية للشعر العربي، وإن كثرت في أيامنا ، إذ لائمت العصر الحديث المتسارع بسرعتها ، ونغماتها الغنائية الراقصة، فرقص لها الراقصون، وتهافت عليها الملحنون، ونظم فيها الشعراء المعاصرون ، وسبقهم شوقي ليعارض أبا نؤاسه في كأسها الحبب ، والحصيري القيرواني في مضناك جفاه مرقده ، ثم تلاقف التفعيلات القصيرة السريعة شعراء التفعيلة - روّاد الشعر الحر - كالسياب في عيناك ونخيله ودرويش في خبز أمه ونزارفي قارئة فنجانه ، والحق أن لكل سامعٍ ذوقه ومزاجه وحالته ، بل لكل عقل جمعي عصره ومكانه وخصوصيته ، فالجاهليون استطعموا البحور المهابة الرصينة كالطويل والبسيط والكامل والوافر ، وسايرهم خليلهم من بعد ، فأبعد هذا المتدارك الخبب من بحور شعره ، واستقل شأنه ، وتداركه تلميذه الأخفش الأوسط ، فضمّه إليها ، واليوم تقام له المحافل والمراقص ، ولله في خلقه شؤون وفنون !!
لا أخالك بحاجة إلى جهد كبير لمعرفة نسبة السرعة الافتراضية لبحور الشعرالعربي ، مرت عليك المقاطع الصوتية الكمية .
أ - لنعطي قيمة رقمية افتراضية لكل مقطع حسب سرعة نطقه :
1 - المقطع القصير ( ب) وهو أسرع المقاطع ، فلتكن قيمته = 4 .
2 - المقطع الطويل (- ) أقل سرعة ، يحتاج إلى زمن أطول لنطقه ، فلتكن قيمته = 2 .
3 - المقطع زائد الطول ( ^ ) أ أقلهم سرعة ، لأنه يأخذ وقت أطول عند نطقه ، فلتكن
قيمته = 1 .
ب - لنأخذ الضابط الإيقاعي لبحر معين كـ ( الكامل) التام الصحيح بعروضه وضربه ، ونقسمه إلى مقاطع صوتية :
متَفاعِلن / متَفاعِلن / متَفاعِلن *** متَفاعِلن / متَفاعِلن / متَفاعِلن
ب ب - ب - / ب ب - ب - / ب ب - ب - *** ب ب - ب - / ب ب - ب - / ب ب - ب -
ج - نعوض عن المقاطع بما افترضنا من قيم رقمية :
24244 / 24244 / 24244 * ** 24244 / 24244 / 24244
د - اجمع القيم الرقمية للمقاطع = 96
هـ - عدد المقاطع في هذا البحر الكامل التام الصحيح = 30
و - قسّم القيم الرقمية على عدد المقاطع أي : 96 \30 = 2 .3
ز - 2 . 3 ، هذه هي النسبة الافتراضية لسرعة البحر الكامل التام الصحيح بعرضه وضربه ، وهو أسرع البحور .
طبعا تختلف السرعة الافتراضية للبحر الكامل حسب الزحافات والعلل التي تعتريه ، ربما تكون هذه التغييرات حسنة ، أو مقبولة ، أو قبيحة ، لنأخذ مثلاً على السريع ، من البحر الكامل نفسه ، ولكن من المجزوء بعروضته الصحيحة ، وضربه المرفل ( متفاعلاتن ) :
وإذا أسأتَ كما أسأ*** تُ فأين فضلك المروءة ؟
متفاعلن متفاعلن ******* متفاعلن متفاعلاتن
ب ب - ب - / ب ب - ب - *** ب ب - ب - / ب ب - ب - -
24244 / 24244 * ***** 24244 / 224244
القيم الافتراضية لمقاطع هذا النمط = 66 ، عدد المقاطع 21 ، فالسرعة الافتراضية أصبحت = 14 . 3
تأمل السرعة قلت ، لماذا ؟ لأن أصبح ثقل في قافية البيت ، إذ أضيف سبب خفيف (تن) إلى التفعيلة الأخيرة من البيت ، فأثقلته ، وقللت سرعته !!!
وهكذا تستطيع ببساطة متناهية أن تحسب سرعة كل البحور الافتراضية ، وكل أنماطها بعد دخول الزحافات والعلل ، ولا أخالك ستحتاج أكثر من هذا التوضيح والإسهاب الذي تناولته !! و الدكتور سيد البحراوي في كتابه ( العروض وإيقاع الشعر العربي ) تناول الموضوع نفسه حسب تسميات أخرى للمقاطع الصوتية ، وافتراضات رقمية ثانية وتوصل للنتائج نفسها بالنسبة لترتيب السرعة الافتراضية لبحور الشعر (12) ، وهي كما يلي :
1 - البحر الكامل : 2 .3
2 - الوافر : 08 . 3
3 - المتدارك : 66 . 2
4 - البحور : الطويل ، المديد ، البسيط : 58 . 2
5 - السريع : 54 .2
6 - البحور : المنسرح ، الهزج ، الرجز ، الخفيف ، المجتث ، الرمل : 50 . 2
ملاحظة الرمل قد دوّن سرعته الدكتور البحراوي : 36 . 2 ، ولم يخرج عندي هكذا ، وإنما العروضة التامة ولم ترد بالشعر : 5 . 2 ، والعروضة المحذوفة 2.52 ، وذلك من 60 |24 ، 58|23
وأخيرا أرجو مراجعة ما فصلناه عن المقاطع ، ففي المقطع الطويل (-) هنالك المفتوح مثل ( لا) ، والمغلق مثل (لم) ، لا ريب أن المفتوح أسرع قليلاً من المغلق ، لأن المغلق يستوجب توقفاً تاماً للسكون الملازم ، أما المفتوح فينتهي بحرف مد ، فيكون كمه الصوتي أقل قليلاً ، وبالتالي يكون أسرع قليلاً ، وكذلك بالنسبة للمقطع زائد الطول (^) ، هنالك المغلق بصامت واحد فقط مثل (دارْ) ، والمغلق بصامتين مثل (حبْرْ) ، لا ريب أيضاً أن المغلق بصامت واحد فقط أسرع قليلاً من من المغلق بصامتين ، لأن الأخير يُلزم بساكنين تامين ، وبالتالي كمه الصوتي يتطلب زمناً أكثر قليلاً ، فتكون سرعته أقلّ قليلاً ، بقى لدينا المقطع الأقصر مثل لام التعريف ( لـْ) أكثر سرعة من المقطع القصير (ب) قليلاً ، لأن الأخير زمن كمه أطول قليلاً لتضمنه حرف صامت بحركته ، كل هذه أيضاً تجاوزناها في حسابنا للنسبة الافتراضية لسرعة البحور الشعرية .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع والمصادر بلا أرقام الصفحات !!
(1)أشار الأخفش الأوسط ( ت 215 هـ ) إلى المقطع بمعناه الاصطلاحي ، بشكل غير دقيق ، ولم يستخدم المفردة نفسها ، ولكن الفارابي ( ت 339 هـ) له نص دقيق وواضح في كتابه الموسيقى الكبير ، يشير فيه إلى المقطع بقوله : " وكل حرف غير مصوت اتبع بمصوت قرن به ، فأنه يسمى " المقطع القصير " ، والعرب يسمونه الحرف المتحرك من قبل ، إنهم يسمون المصوتات القصيرة حركات ، وكل حرف لم يتبع بمصوت أصلاً ، وهو يمكن أن يقرن به ، فأنهم يسمونه الساكن ، وكل حرف غير مصوت قرن به مصوت طويل ، فأننا نسميه المقطع الطويل " راجع البحراوي : مصدر سابق ص الهامش ، نقلا عن : محمد عامر أحمد : الدوائر العروضية - رسالة ماجستير - دار العلوم - جامعة القاهرة - 1974م - - و حاول ابن رشد ( توفي بمراكش سنة 595 هـ/ 1198م ) في تلخيصه لكتاب أرسطو في الشعر ، أن يطابق مفهوم المقطع اليوناني القديم على اللغة العربية ، وعندهما صوت غير دال مركب من حرف مصوت وآخر غير مصوت ( المقطع المفتوح ) ، راجع : علي يونس : نظرية جديدة في موسيقى الشعر العربي ص - الهيئة المصرية للكتاب 1993م .
(2) بعد اندفاع الهواء المضغوط من الرئتين نتيجة لتقلص وانبساط عضلة الحجاب الحاجز وغيرها ، يندفع الهواء عبر أوتار الحنجرة ، ثم أعضاء النطق على شكل موجات صوتية تخترق الوسط المادي ، وعادة ما يكون الهواء ، فيكون لكل إنسان صوته المميز ، وهنالك خصائص تميز كل صوت ، فمدى آتساع الموجة - حسب الجهد المبذول - هو الذي يحدد علوه. ...طوله..نبرته..جهورته ، أما التردد - عدد الذبذبات الصوتية في الثانية - فهو الذي يحدد درجة الصوت ونغمته ، وأخيرا نوع صوت المتكلم كأن يكون امرأة أو رجل أو صبي ، هذا تحدده نوع الموجات البسيطة المكونة للموجة المركبة ، وليس للنوع علاقة بالمقاطع الشعرية (راجع البحراوي ) .
والنبرة : هي ازدياد وضوح نطق مقطع من مقاطع الكلمات عقبى آلية النطق وسلامته خلال الجهاز الصوتي , والنبر على ثلاثة أنواع ، النبر الآولي : وهو أول نبر حسب آخر الكلمة ، موجود في كل الكلمات ، والنبر الثانوي : وهو النبر الذي لا يوجد إلا في الكلمات متعددة المقاطع ، وهو يلي النبر الأولي بأتجاه أول الكلمة ، والنبر الضعيف وهو يتحقق في بقية مقاطع الكلمة . للإستفاضة راجع د تمام حسان : اللغة العربية ..معناها ومبناها ، د سلمان حسن العاني :التشكيل الصوتي في اللغة العربية .
(3) علي يونس : المصدر السابق.
(4) البحراوي :ص بتصرف .وراجع ابراهيم أنيس : الأصوات اللغوية ، مكتبة الأنجلو المصرية 1999م .
(5) والقرطاجني نفسه يقر بوجود السبب المضاعف ، (منهاج البلغاء : المصدر السابق ) ، وهو: مقطع صغير + مقطع زائد الطول
ملفوظ .
(6) يسميه حسّان تمام ( المقطع الأقصر ) ، لأنه استعمل تصنيفا {خر راجع :اللغة العربية معناها ومبناها ، عالم الكتب ط4 ص .
(7 ) راجع ، علي يونس : نظرية جديدة في موسيقى الشعر العربي -الهيئة المصرية للكتاب 1993م.
(8) الخطيب التبريزي : الكافي في العروض والقوافي و تحقيق الحساني حسن عبد الله - الناشر دار الخانجي - القاهرة - 1994 يورد قول أحدهم ( قد جبّر الدينَ الإلهُ فـَجَبَرْ) .
(9) راجع :علي يونس ، المصدر السابق .
(10) نحن ذكرنا الفكرة الأساسية ، وهذا ما سنسير عليه ، راجع بحوث د عبد العزيز غانم (مدخل الى العروض الرقمي القياسي ) ، على موقع:
(11) راجع د .علي يونس : المصدر السابق ص -. نقلا عن د.طارق الكاتب : موازين الشعر العربي بإستعمال الأرقام الثنائية ص - مطبعة مصلحة المؤانىء العراقية البصرة ط1 -1971م . أحمد مستجير :في بحور الشعر - الأدلة الرقمية لبحور الشعر العربي - مكتبة غريب - القاهرة - بلا.
(12) (13) م . ن .
ابن رشيق ) – العمدة – م. س.
(14) الجاحظ : كتاب الحيوان ، تحقيق الأستاذ عبد السلام هارون - مكتبة الخانجي.
(15) حازم القرطاجني : منهاج البلغاء وسراج الأدباء، ص تحقيق محمد الحبيب بن ( الخوجة - دار الكتب الشرقية.
(16 ) مقدمة للشعر العربي - دار العودة بيروت 1983م.
(17) حسن إغلان - شعرية الإيقاع.. قصيدة النثر وسؤال الوجود والمعنى.
جريدة ( الرياض)الخميس السنة : التاسعة والثلاثون.
( 18) محمد الصالحي : ص " شيخوخة الخليل - بحثاً عن شكل قصيدة النثر العربية "
(19 ) راجع : د . سيد البحراوي : ( العروض وإيقاع الشعر العربي ...) : الهامش ص
. الهيئة المصرية العامة للكتاب 1993 م . م. س .
0 comments:
إرسال تعليق