قبل آينشتاين بقرون تناول بعض شعراء العربية مسألتي المكان والزمان بأشكال وصيغ شتى لكنهم ـ وهذا مثار الإستغراب والدهشة ـ ربطوا بينهما تماماً كما تقرر الفيزياء وقوانينها حيث أنهما ( الفضاء والزمان ) أزليان لا ينفصلان ومادة الكون هي ثالثة الأثافي.
فمن أين أتت هذه الحقائق الفيزيائية لبعض الشعراء وما الذي حدا بهم أنْ يستخدموها وهل وجدوا فيها ما يُضيف شيئاً جديداً لفنونهم الشعرية وهل حققوا النجاح المرتقب ؟ أرى أنَّ الأجوبة عن هذه الأسئلة " نعم ". حققوا النجاحات التي أرادوا بل وتجاوزوا التوقعات وأزالوا الخوف من الفشل.
لديَّ اليوم مثالان، وأرجو من يعرف أكثر أنْ يخوض في هذا الموضوع خاصة وإني وعلى حدّ معرفتي وعلمي بالشعر الجاهلي لم أجد أثراً في الشعر الجاهلي لمسألتي المكان والزمان الفيزيائيين... نعم، الفيزيائيين وليس مكان الطلول وخيام وآثار الحبيب التي درست أو كادت.
1ـ أبو الطيّب المتنبي
( 915 ـ 965 م / 303 ـ 354 هج )
قال المتنبي في قصيدته : " خيرُ جليسٍ كتابُ " وهي آخر ما كتب في مدح كافور الإخشيدي في مصر :
أعزُّ مكانٍ في الدُنى سرجُ سابحٍ
وخيرُ جليسٍ في الزمانِ كتابُ
ما خطر في بال الشاعر حين جلس ليكتب هذه القصيدة يمدح فيها أميرَ مصر حتّى جمع بين المكان والزمان ؟ ما دلالة ذلك وما موضعهما من النسيج الفني للقصيدة وهل في هذا البيت بالذات نبؤة ما تُشير بالخفاء أو في عقل الشاعر الباطن إلى قُرب الفراق والإنفصال مكانياً عمّن قد مدح ؟ كانت هذه القصيدة آخر ما قال في مصر وبعدها ترك هذا البلد عائداً إلى وطنه العراق فأقام في بغداد ولم يستطع حينذاك دخول مدينته الأصل الكوفة.
إختار الشاعر ظهر الحصان كأعزّ مكان في الدنيا ولكنَّ العزّة ليست بالدرجة الأولى للمكان، أي مكان فيزيائي، إنما العزة لِ " سرج الحصان ". ثم إنَّ هذا المكان ليس ثابتاً والأمكنة ثابتة إلاّ إذا حركتها قوة خارجية وحركة الحصان هنا هي بالضبط هذه القوة الخارجية المُحرّكة. أراد المتنبي بقوله هذا إكرام حصانه فضلاً عن تعدد وسائل الإفادة منه واسطةَ نقلٍ في أزمنة السلم وعنصر حرب زمان الإقتتال والغزو ورد كيد الأعداء. ولقد سبق وقال المتنبي في الحصان شعراً جيداً جميلاً من قبيل ما قال في قصيدة أخرى يمدح بها كافوراً الإخشيدي في " شوال سنة سبع وأربعين وثلاث مائة 958 ميلادية " :
ويومٍ كليلِ العاشقينَ كَمَنتهُ
أُراقبُ فيهِ الشمسَ أيّانَ تًغرُبُ
وعيني إلى أُذْني أغرّ كأنهُ
من الليلِ باقٍ بينَ عينيهِ كوكبُ
لهُ فَضلةٌ عن جسمهِ في إهابهِ
تَجئُ على صدرٍ رحيبٍ وتذهبُ
شققتُ بهِ الظلماءَ أُدني عِنانهُ
فيطغى وأُرخيهِ مِراراً فيلعبُ
وأصرعُ أيَّ الوحشِ قفّيتُهُ به
وأنزلُ عنه مِثلَهُ حينَ أركبُ
وما الخيلُ إلاّ كالصديقِ قليلةٌ
وإنْ كَثُرتْ في عينِ منْ لا يُجرّبُ
إذا لم تشاهدْ غيرَ حُسنِ شياتها
وأعضائها فالحسنُ عنكَ مُغيّبُ
هذا عن المكان النفسي والشعري للمتنبي وماذا عن الزمان ولماذا قرن الزمان بقراءته لكتاب ؟ المكان ثابت فيزيائياً إلاّ إذا حركته قوة خارجية ولكنْ الزمان متحرك لا يتوقف أبداً من هنا تأتي أهمية ربط الشاعر للزمن ( الوقت ) بعملية القراءة. القراءة عملية زمنية تجري في الزمن وداخل حدوده التي لا تعرف الحدود. فحتى لو قرأتَ حرفاً واحداً فهذه القراءة تأخذ منك وقتاً ( زمناً ). ظهر الحصان للشاعر أفضل وأشرف مكان ولكنَّ التفرغ لكتاب والجلوس لقراءته هما خير ما في الزمان. لا أدري أية عبقرية أخذت الشاعر المتنبي أنْ ينحو هذا المنحى ويربط حب القراءة بالزمن. صحيح إنه في عجز البيت هذا إنمّا يُمجّد الكتاب " خير جليس " ولكنْ ما الذي جعله أنْ يربط الكتاب بالزمان ؟
إتهم بعض الكتاب المتنبي بأنه لا يحب الثقافة ورددتُ عليهم بمقال منشور ولا مجال اليوم لإعادة الرد على مزاعمِ هذا النفر. أيقولُ مثلَ هذا البيت رجلٌ لايحب الثقافة ؟
إذاً الكتاب والفروسية وخوض غُمار الحروب كانتْ هي الشغل الشاغل للشاعر أبي الطيّب المتنبي وليس اللهو وحب النساء ومعاقرة الخمور وقد قال في هذا وأبدع :
وللسرِّ منّي مَوضعٌ لا ينالهُ
نديمٌ ولا يُفضي إليهِ شَرابُ
وللخَودِ مني ساعةٌ ثم بيننا
فلاةٌ إلى غيرِ اللقاءِ تُجابُ
وما العشِقُ إلاّ غِرّةٌ وطَماعةٌ
يُعرّضُ قلبٌ نفسَهُ فيُصابُ
وغيرُ فؤادي للغواني رَميّةٌ
وغيرُ بناني للزُجاجِ رِكابُ
2ـ الولاّدة بنت المُستكفي
ليس لديَّ ما يُشير إلى سنتي ميلادها ووفاتها غير أنها عاصرت ابن زيدون وبادلته الحب وقالت فيه شعراً رائعاً يهمني منه بيت واحد جمعت فيه، كالمتنبي، المكان والزمان وأمراً آخرَ لا يقوله إلاّ أئمة المتصوفة ممن نعرف. ما قالت بنت المستكفي من شعر وجّهته لإبن زيدون ؟
أغارُ عليكَ من نفسي ومنّي
ومنكَ ومن زمانكَ والمكانِ
" أغارُ عليكَ من نفسي ومنّي "
لماذا انقسمت هذه المرأة الشاعرة إلى أنا " منّي " ونفسي ؟ وأين موقعها كإنسانة لا كشاعرة من هذين الأمرين ؟ هل من الممكن أنْ ينشق الإنسانُ إلى " أنا " و " نفسي " لا يجمعهما جامع وما آلية هذا الفصم والشق ؟ نفسها تغار عليه وكذلك هي تغار عليه فأية غيرة أكبر وأكثر تأثيراً وبلاغة ؟ إنه شعر فيه مسحة تصوف فهل عاصرت مُحيي الدين ابن عربي صاحب الفتوحات المكية. هل نتعاطاه كشعر أم كإنطلاقة ـ شطحة ـ من شطحات الصوفية ؟ إنها على أية حال سبقت علماء النفس المعاصرين الذين قسّموا الإنسان إلى أنا وهو والذات الأعلى وغير ذلك من التوصيفات والتصنيفات. إنها التزمت بوحدة أو مقولة ثنائية لا أكثر :
نفسي ـ منّي فمتى تمثّل الأنا ومتى تمثل النفس وهل " أناي أو أناتي " في تعارض مع " نفسي " ؟ الأجوبة بالطبع عندها لذا سأنتقل إلى صُلب موضوعتي الرئيسة : الزمان ـ المكان.
قالت الشاعرة الولاّدة بنت المستكفي :
أغارُ عليكَ من نفسي ومنّي
ومنكَ ومن زمانكَ والمكانِ
إنها تغار على مّنْ أحبت حتى من الزمان والمكان. قد نعلم كيف تغار عليه من الأمكنة التي يكونُ أو يحلُ فيها أو يسافر إليها ولكن كيف تغار عليه من الزمن ؟ تغار عليه من المكان لأنه قد يضمه مكان أو مجلس مع بعض النساء جاراتٍ أو مغنيات أو من ذوات القُربى وغيرهنَّ من النساء.
أجلْ، كيف تغار شاعرة على حبيبها من الزمان ... كيف ؟ الزمان لا يُرى ولا يجمد فهو دائب ودائم الحركة وُجد مع المادة والمكان أو الفضاء وهو عام للجميع لا يتكلم وليست له مشاعر وعواطف ولا يجالس أحداً ولا يفضّلُ أحداً على أحد وكلنا فيه لكننا زائلون وهو وحده الباقي فكيف يغار بشرٌ من هذا الزمان ؟
أخيراً يحضرني في هذا المقام قول لعليّ بن منصور الحلاّج هو :
( عليك بنفسكَ إنْ لم تشغلها شغلتك ) !
هنا " أنت / حرف الكاف في عليك " و " نفسك " فمن أنا ومن هي نفسي وهل من فُرصة لإجتماعهما متى وكيف ولماذا انشقا وانفصلا ؟ صوفية الحلاج معروفة ولكن ما بال صوفية السيدة ولاّدة بنت المستكفي ؟
أعرف كيف أشغل نفسي لكنّي لا أعرف كيف تشغلني نفسي عنّي ! من أنا بدون نفسي ؟ أيمكن أنْ يكون الإنسانُ بدون نفس ؟
أترك الأمر والأجوبة للقراء الكرام فأنا في حيرة من هذا الأمر.
ملاحظة : كل ما أوردت من أشعار ومعلومات تخص المتنبي مأخوذة من ديوانه طبعة دار بيروت 1400 هجرية ـ 1980 ميلادية.
0 comments:
إرسال تعليق