" يمكن أن نسمي الحقيقة ما لا يمكن للمرء تغييره، إنها التربة التي نقف عليها والسماء التي تمتد فوقنا"1[1]
إذا كانت الأنظمة الديمقراطية قد تم تشييدها بالتزام التام بالقانون ونوايا احترام الدساتير وصيانة الحقيقة من كل تدنيس واختراق وإذا كانت الأحزاب السياسية هي المؤتمن المفترض على هذا الميثاق الديمقراطي وعلى سلامة الدولة من كل اعتداء فإن سياسة الحذر من المخاطر التي تظل الأمر القطعي زمن الانتقال السياسي العسير تلزم الديمقراطية نفسها على نبذ التعصب والارتداد والتمييز والقطع مع الكذب وتطلب من الفاعلين في واحة المواطنة أن تظل عيونهم مفتوحة على آفة الفساد وفتاوي التوريث وحيل الانقلاب.
من البديهي أن يحوز النموذج الديمقراطي على منزلة مرموقة ويقوم بدور تنظيمي في الأزمنة الحديثة بالانطلاق من الحقيقة القانونية والمعنى الإيتيقي والقيمة الحقوقية التي ساهمت في تأسيسه بشكل عقلاني. على هذا الأساس لا يوجد إلا سؤال ديمقراطي واحد: هل مازالت السياسة قادرة على شيء ما في الحياة ؟
الجواب يكون بالنفي بكل تأكيد لأنها عاجزة ومترددة وتراوح مكانها ولم يبقى لها سوى اختيار اللاّكرامة.
إن القادر على صنع المستحيل ليس السياسة وفاعليها وبرامجها فقط بل الشعب وقواه الحية والإرادة العامة والمشتركة التي تحركه نحو تجسيد رغبة العيش السوي ومقاومة الانحطاط والتردي و إلى إرادة الحياة2[2].
رأس المعضلة في الحياة السياسية هو أن : الاحتياج إلى توحيد سلطة القرار والحزم في التنفيذ والمتابعة يؤدي إلى ميلاد السلطة المطلقة والحكم الفردي من جهة والتشجيع على تكريس حق التعددية والتنوع يفضي إلى اشتداد الخلاف والتنازع وتزايد الصراع على السلطة وتعطل المرفق العمومي من جهة أخرى.
علاوة على أن الحقيقة التي يتم تقاسمها مع الشعب وإبلاغ المواطنين بها وبعض الناشطين في الأحزاب الحاكمة والمعارضة وفي هيئات المجتمع المدنية تظل ناقصة وخارج دائرة الصدق والمطابقة مع الواقع.
يصدر العجز السياسي من التنكر للوعود الانتخابية المنتفخة ومن فقدان الشكل التمثيلي للمصداقية والوفاء وبروز هوة فاصلة بين إصدار القرارات ومتابعة التنفيذ والإتمام لمشاريع القوانين والمجهودات التنموية.
لا يتم المحافظة على الحقيقة السياسية للسلطة ولا تعمل الهيئات الدستورية على ضمان الشفافية المطلوبة للنسق القانوني ولا تشتغل مكاتب التشغيل بالنجاعة اللاّزمة ولا تؤدي المرافق العمومية الخدمات الحيوية.
لهذا يتمثل الرهان التاريخي للسياسي في تحقيق المصلحة للدولة والقوة لنظام الحكم وتدعيم السلم الأهلي والاستقرار الاجتماعي والتمنية الاقتصادية والإبداع الثقافي والتقدم الحضاري ورقي التربية والأخلاق.
ان الوضع الجمهوري للدولة المدنية يقتضي الاستمرارية في المنهجية الدستورية التي فرضتها الثورة في سياقها الاجتماعية واستحقاقاتها التحررية والتنموية ويستوجب تشريك القوى المغيبة والطاقات المهدورة.
لكن ماهي الشروط التي تتوفر لكي يصبح الناشط السياسي فاعلا أساسيا ضمن عقلانية الدولة؟ ومتى يرتقي الوعي السياسي للمواطنين إلى درجة التعبير عن المصلحة العامة والرغبة المشتركة في الحق؟
قد يكون الفضاء العام في حاجة ماسة إلى إعادة تأسيس عن طريق إدخال جل المواطنين في مسارات من الأنسنة ومسالك من الدنيوة ودروب من العلمنة وذلك بالتخلي عن الشخصنة وعن وهم الحاجة إلى المنقذ.
لهذا تتمثل العلمنة في القدرة التناسبية على الاستقبال التي تمتلكها السياسة المضيافية والمصارحة الإيتيقية التي تجد فيها الخصوصيات التعبير عن ذاتها وتسمح بتشكل نظام علائقي من مبادئ حرية الضمير والمساواة في معاملة المواطنين رغم اختلاف قناعاتهم الروحية والتوجه الكوني للدولة نحو الخير العام3[3]. ان الحقيقة الجمهورية للدولة القانونية تحول دون الارتداد الى بدائل تقليدية وراثية وتيوقراطية.
على هذا النحو تحوز كل دولة على حقيقة سياسية يجب أن يتم تمريرها عبر المدرسة والإعلام والثقافة وأن تتقاسمها الأحزاب والهيئات بمختلف تموقعاتها وانتماءاتها وطموحاتها وتتمحور على ضرورة الدافع على المجتمع واحترام سيادة الوطن وإرادة الشعب وحقوق الناس وبناء الثقة بين المواطنين وصنع الأمل. بطبيعة الحال " لا يأتي المواطن الى العالم مسلحا بكل شيء، انه يتشكل ويتم تربيته، وانه شغل جماعي واسع الذي يعمل على منحه الوسائل الضرورية ( مؤسسات سياسية، مؤسسات إعلامية، تربية على المدنية)"4[4]. فمتى تصبح هذه الحقيقة السياسية للدولة بديهية ومعروفة بالنسبة للمواطنين بحيث لا يمكن حجبها أو تزويرها؟ وكيف يحتفل بالجمهورية بوصفها لحظة تأسيسية لدولة مدنية واعدة مكان حكم ثيوقراطي بائد؟
الإحالات والهوامش:
[1] Voir Arendt (Hannad), la Crise de la culture, édition Gallimard, Paris, 1989.
[2] Bayroux (Francois), De la vérité en politique, édition Plon, Paris, 2013.p204 .
[3] Entretien avec Henri Pena-Ruiz, Propos recueillis par Claude Obadia, in le Philosophoire, N°33, 2010, p33
[4] Bayroux (Francois), De la vérité en politique, op.cit.p138.
[1] Voir Arendt (Hannad), la Crise de la culture, édition Gallimard, Paris, 1989.
[2] Bayroux (Francois), De la vérité en politique, édition Plon, Paris, 2013.p204 .
[3] Entretien avec Henri Pena-Ruiz, Propos recueillis par Claude Obadia, in le Philosophoire, N°33, 2010, p33
[4] Bayroux (Francois), De la vérité en politique, op.cit.p138.
0 comments:
إرسال تعليق