ليس مهمّا أن يكتب الشّاعر قصيدة جديدة، وإنما يجب أن تكون القصيدة الجديد مدهشة، تبني عالما شعريّا مسكونا بالذّهول والرّهبة والجمال الآسر، لا أن يصف ما يعرفه القارئ حتّى وإن اصطنع البلاغة والصُّورة المتكرّرة المكرورة المعروفة الّتي أضحت عاديّة لا شاعريّة فيها ألبتة. ثمّة شعراء يقترفون اللّغة الّتي نعرف دون أن يكون ثمّة جديد مدهش، فيكون المولود نصّا بائسا عديم النّفع، عدا ما قد يظنّه مساكين الشّعراء الّذين رضوا واطمأنّوا إلى لغة سوقيّة وتعابير ركيكة ضحلة المعنى ملتصقة بالوحل، معتقدين أنّهم يمارسون الحداثة الشّعريّة في اتّكائهم على اليوميّ والعاديّ، وغاب عن أذهانهم أنّ اليوميّ المعيش يجب أن يغتسل بماء الشّعريّة فيفارق طبيعته إلى طبيعة إلهاميّة تدهش العاميّ، كما تدهش الشّاعر كذلك. ثمّة إخلالات يمارسها شعراء ضلّوا الطّريق وتاهوا...!
ثمّة شعراء آخرون يمارسون ضلالا شعريّا من نوع آخر، يكتبون قصائدهم البائسة بعقل السّياسيّ ويشرعنونها بمطر الأحداث الهاطلة، فتبتلّ لغتهم بحميم المطر النّازف، فتجرّهم إلى مخادعها وهي منهكة، ولكنّها تنظر إلى ذلك الهاطل الجارف، فستهويها، لتضلّ أصحابها عن مواكب الوحي، فتزرعهم في ساحة من الضّجيج، تعجّ بالنّاس الذّاهلين عن أنفسهم، هنا لا يرى الشّعراء مدى ما أحدثوا من صدوع بل شروخ في جسد القصيدة، فقد حوّلوها إلى جسد خشبيّ لا يصلح لأن يكون جسرا للمرور نحو الضّفة الأخرى من المتعة والرؤيا والأبّهة.
لقد وقع شعراء كثيرون في ضلال الأحداث، ودخلوا مناطق مزروعة بالألغام، منهم من تنبّه لذلك فابتعد، أو اعتذر، أو حتّى اختار الصّمت، وقتل المخلوقات الشّعريّة المشوّهة، أو ربّما مارس فعلا كتابيّا سرديّا جميلا، إنّ من فعلوا ذلك كانوا أكثر صدقا مع أنفسهم ومع القارئ ومع الشّعر ومع الضّمير الأخلاقيّ الأدبيّ، ألم يعتذر درويش عن بعض قصائده، وجمح شهوة الجماهير الهاتفة بقصائد معيّنة؟ ألم يدفع درويش الجماهير إلى ساحته، وتحصّن ضد أن تجرّه موجات التّصفيق إلى ذلك الشّعر الطّيني الطّنينيّ السّاذج؟ ألم يعتذر أيضا الجواهري عن بعض قصائد المديح، تلك الّتي اقترفها تزلّفا لحاكم أو أمير؟ مع أنّها كانت قصائد جميلة، سواء قصائد درويش أو الجواهري ولكنها لا ترضي طموح الشّاعر المحلّق الّذي يرفض أن يتدّنى ويتدلّى كعنقود عنب حامض يحجم عن تذوّقه كلّ مشتهٍ. لعلّها معضلة الشّاعر الّذي غاصت أفكاره في موضع أقدامه، وقصرت رقبته عن أن تنظر للأعلى، وكلّت بصيرته، وعمي بصره، وتحجّر فؤاده، ولم يعد يضخّ غير ماءٍ أحمر في عروق اللّغة الصّفراء الميّتة..!
الشّعراء الكبار فقط يعرفون متى يكتبون، وكيف يكتبون، ولكنّ المتصنّعين، فهم صنائع اللّحظات العابرة، ولذلك سينقلبون ويندثرون عندما تهبّ رياح جديدة، فتقلع خشباتهم الملصقة على جدران آيلة للسّقوط، ولم تعد تصلح إلا للتّدفئة في يوم شديد البرد في صحراء قاحلة إلّا من القاسيين؛ الليل والعطش الشّديد. لتبقى الحسرة قائمة في النّفوس، ويبقى الشّعر يتيما تتعاوره الأنامل المتساقطة على أوراق باهتة.
ما أجمل هؤلاء الشّعراء الّذين كانوا يعرفون السّرّ، فيتّبعونه، من من هؤلاء فهم ما عناه يوما كعب بن زهير بقوله؟:
ومن للقوافي شأنها من يحوكها
إذا ما ثوى كعب وفوّز جرولُ
يقول فلا يعيا بشيء يقوله
ومن قائليها من يسيء ويعملُ
يقوّمها حتّى تلين متونها
فيقصر عنها كلّ ما يتمثّلُ
كفيتك لا تلقى من النّاس شاعرا
تنخّل منها مثل ما أتنخّلُ
والأبيات خاتمة قصيدة طويلة جامعة المعنى زاخرة بالشّاعرية، تلّخص كل مشكلة شعريّة معاصرة تثار مع كلّ نصّ عديم الأهليّة في الانتساب إلى الشّعر أو حتّى قشوره، ربما على الكثير من المتشاعرين أن يصمتوا أو أن يتعلّموا قبل أن يمارسوا أفعالا شعريّة قبيحة، تستعدي النّاقد وتضلّ ذائقة القارئ الباحثة عمّا يروي عطشها من ينابيع الشّعر وجميل المعاني.
ألا يكفي القارئ العربيّ ما يعانيه من غربة واغتراب ووجع سياسيّ طويل الأمد، ليغرق في وحل من غثاء سيل الشّعراء الّذين يعانون من التّيه والتّوهان معا؟
0 comments:
إرسال تعليق