جامعة هلسنكي
غنيٌّ عن البيان أن أصحاب الحضارة في العالَم اليوم هم ُ الغربيون، أهالي الولايات المتّحدة الأمريكية وأوروبا الغربية. إن جوهر الحضارة هو العلم والعقلانية. نرى أن المصيبة النكراء في مجال الثقافة والفكر في العالم العربي هو ذلك الوضع المحبط والتعيس الذي يكون فيه صاحبُ الحلّ والربط في ذلك هو الحاكم ذو السلطان. بيده النار والنور في حين أن العلم والمعرفة هما في الواقع يجب أن يكونا السلطة. الحقيقة المطلقة لا وجودَ لها فهي نسبية ومتغيّرة. إنّ عملية الثقافة الحقيقية تأبى أن تكتفي بالموجود فهي في حركة مستمرة من البحث والتحليل لتفسير ما يجدّ من تساؤلات في حياة البشر. فالثقافة بمثابة الرصيد الروحي لحضارات الشعوب، وهي المبلورة لوجدانها وعقلها. ولدى العرب ما زالت الثقافة الشفوية هي الشائعة ومنابعها التاريخ والشعر والدين. كما أن مفهوم ”العام” و”الجماهيري” في العقلية العربية الراهنة يحتلّ مكانة وضيعة جدا
يجد القارىء المتأنّي للتاريخ العربي أنّ الحوار الحرّ العميق كان من السِّلع النادرة. كما أنّ جبروت الماضي ما زال مهيمناً على جلّ تصرفات الانسان العربي في شتّى أنماط الحياة. بعبارة أخرى، إنّ تراث الماضي يُلزم الأحياء ويكبّلهم. لا بدّ من إشباع التراث العربي بأكمله تفكيكا وتحليلا بغيةَ سَبر ما فيه لهضمه وتمثّله والتحرّر منه في آن واحد
من المشاكل الهامّة التي تُواجه الشعوب العربية برمّتها من المحيط إلى الخليج هي كيف يمكن إقناعُها بأن العاداتِ والتقاليدَ والنظرة إلى القِيم قد تتبدّل وتتعدّل بمرور الزمن. لا يجوز للمثقّف أن يموْضعها في خانة النهائي والمطلق. إذا أراد شعب ما أن يحافظ على أصالته المتمثلة في سِماته المميّزة فما عليه إلا اتّباع منحى التجديد والإبداع لا التبني الفكري بدلا من الإنجاب الفكري. يُقال إن أوّلَ التجديد هو أن نقتلَ القديمَ بحثاً وتمحيصا
قسم كبير من الثقافة العربية المعاصرة ما هو إلا اجترار وتكرار للماضي. هناك هالة وقوالب جاهزة شبه متحجّرة يتقوقع الانسان العربي المعاصر فيها. كما أنّ الفهم الشائع للثقافة لا يمتّ بالحياة والواقع بأوهى رباط، في حين أن الثقافة الحقّة يجب أن تتجلّى في كل شكل من أشكال الحياة. أيّ مستوى من الثقافة قد يسود مجتمعاً تنقصه إلى حدّ كبير الحرية السياسية والاجتماعية. أضف إلى ذلك أن ذلك المجتمع يرى أنّ أداة الثقافة الرئيسية - اللغة - هي الهدف في حدّ ذاته وليستِ الوسيلةَ لتحقيق الهدف وهو العلم والمعرفة والإبداع. هذا أمرٌ عظيم الأهمية والخطورة ولا مندوحة من إعادة النظر فيه مليّاً ووضع الأمور في نصابها الصحيح والنافع. إنّ تعلّم أية لغة في العالم يتمّ لتحقيق أهداف معيّنة، منها عادة القراءة والتكلّم والكتابة بتلك اللغة. هذه هي المهارات اللغوية الأساسية الثلاث التي يسعى كلّ طالب جادّ من أجل تحقيقها. هناك بالطبع غايات أخرى من وراء تعلم لغة ما مثل المقارنة اللغوية البحتة بينها وبين أخواتها أو فصائل لغوية متنوعة. المنحى العامّ في صفوف المستشرقين حتى يوم الناس هذا، هو معرفة اللغة العربية الفصحى نظريا فقط. بعبارة أخرى، أولائك المستشرقون والأساتذة يقرأون العربية ويبحثون فيها وفي الحضارة العربية عامّة ويدرّسونها ولا قدرةَ لهم لا على التكلّم بها ولا على الكتابة بها. ولا نكون مغالين إذا ما قلنا إن التلفاز بصحونه المتنوعة غدا ”مُخدّرا” جديدا بدلا من أن يكون أداة معرفة وتثقيف. كما أن الكتاب الجادّ شأنه شأن السينما والمسرح الهادفين في تقهقر مستمر والطلب الكاسح في السوق هو لمؤلفات دينية وغيبية وجنسية وطبيخية، العربي لا يقرأ
إعتقد الكثيرون من العرب وما زالوا بأن معرفة اللغة العربية الفصحى هي الثقافة بعينها. أن يُجيد الشخص صرفَ العربية ونحوها ومفرداتِها معناه بلوغ القمّة في المعرفة والثقافة. ينبغي أن ننوّه بأن استنتاج قواعد اللغة العربية وتدوينها انبثق من أجل الحفاظ على القرآن الكريم من اللحن. الغاية المركزية من تعلم قواعد اللغة هي، في المقام الأوّل، استعمال اللغة بمهاراتها الثلاث بشكل سليم وواضح قدر الإمكان. على كل مجموعة بشرية تتوق إلى التقدّم والمشاركة في الحضارة الإنسانية العالمية أن تلفُظ الغيبيات من قاموسها لفظَ النواة والعمل الجادّ وفق أسس عقلانية بصراحة وبعلنية وبحرية تامّة
في العالَم العربي الحديث نظرياتٌ عديدة بشأن العلاقة ما بين التُراث العربي الإسلامي والحضارة الغربية الراهنة. هناك مفكّرون وكتّاب كعباس محمود العقاد نهلوا من كلا المصدرين وآخرون كطه حسين قبلوا بعض التراث فقط وكلَّ الحضارة الغربية. طه حسين قال ”أن نسير سيرة الأوروبيين حلوها ومرها، وما يُحب منها وما يُكره، وما يُحمد وما يُعاب”. محمد عبده، على سبيل المثال، اعتمد على التراث بأكمله وانتقى نواحي معينة من التراث الغربي في حين أن بعض الآخرين كأحمد أمين غرف من هنا وهناك بعد أن أجرى بعض التعديلات. أما بعض الشعراء وكتّاب المسرحية والقصة فقد ابتعدوا عن كلا المصدرين. ثمّ أين دور المرأة العربية في عملية التعليم والتثقيف وهي، كما يقال مرارا وتكرارا، نصف المجتمع؟ للأسف ما زالت النظرة العامة إليها تعتبرها مخلوقاً قاصرا ومقتصرا على تأمين المتعة الجنسية واستمرار الجنس البشري.
هذه الأسطر التالية للأديبة السورية المعروفة، غادة السمّان، تعكس بجلاء إشكاليةَ الدمج بين مصدرين متضادين إلى حدّ كبير. مما يجدُر ذكرُه أن الأديب المشهور الدكتور يوسف إدريس كان قد نعت غادة السمّان بأنها ”... أفصح الكاتبات العربيات لأن لها أبجدية خاصّة بها... لا تقلّ فصاحةً أو شعراً عن الخنساء”. خطّت غادة السمّان في كتابها الثامن والعشرين ”عاشقة في محبرة” المطبوع عام 1995 ” ما يلي ص. 97 ”عاشقة في سهرة باريسية، كتبت في 13/1/1989:
ثمّة شيء هزلي في علاقتنا
تريدُ منّي أن أرتدي ثياب ” ديور
وأتعطّر مثل أميرة موناكو
وأحفظ الموسوعة البريطانية
واستمع إلى برامز
شرط أن أفكّر كما كانت تفكِّر جدّتي
تريدني متعلمة مثل ”مدام كوري
ومغرية مثل ”مادونا
راقصةً بجنون في ليلة رأس السنة
مثل ”لوكريس بورجيا”
شرط أن أظلّ )محافِظة( مثل رابعة العدوية
ولكنّك نسيتَ أن تقول لي كيف..
وفي الختام لا بدّ من الإشارة إلى أهمية فصل الدين عن العلم وضرورة ذلك لبناء مجتمع متقدم إذ أن القوانين الإلهية تتّسم بالثبات والكلية الشمولية في حين أن القوانين الوضعية غير ذلك. أهناك سبيل معقول لخلق مجتمع متقدم علميا من حيث المادّة والروح على حدّ سواء؟ تقنيات عالية وأخلاق حميدة؟
0 comments:
إرسال تعليق