بعد أن تهدأ موجة الغضب المنفلت من صدور الفلسطينيين المنتفضين على ليلهم الفاحم وكوابيسه التي باتت لا تحتمل ولا تطاق، ستنضاف على حائط "الضمير الانساني" بعض الصور والمفارقات الفريدة والتي قد تبقى في بطن التاريخ كتذكارات وشواهد على كيف يستأذب ابن آدم في يوم كله شمس وتنام في الليل الأساطير وتختفي الأقمار وتنتحب النجوم.
فوزي والعشرين بندقية
اسمه فوزي وهو من مواليد سنة 2001، يحتجزه الاحتلال في سجن "عوفر" القريب من بلدة بيتونيا الفلسطينية. قبل أيام قليلة قابله محامي "نادي الأسير الفلسطيني" في السجن، وذلك في نهاية رحلة عذاب كتلك التي تقرأون عنها في الروايات، وتشاهدونها في أفلام النفاق الهولوودية - فيها تكون الضحية شقراء بيضاء وغربية، والشرير يكون دومًا، هنديًا أو زنجيًا أو ذا ملامح شرقية.
كان يمشي في الشارع القريب من داره في أحد أحياء مدينة الخليل حين سمع صوت رصاص فهرب، مثلما فعل آخرون، لكن جنديًا إسرائيليًا اعترض طريقه وأوقعه على الأرض وبدأ يضربه بعقب بارودته وبرجله وهو عاجز عن المقاومة أو الكلام.
بعد لحظات قليلة وجد فوزي نفسه بين أكثر من عشرين "محاربًا" وكلّهم يشاركون في "حفلة صيدهم" ويشتمون أمه وأخواته ويضربونه بعنف ولذة. بعدها أوقفوه وأوثقوا يديه بمرابط بلاستيكية شدت على معصميه حتى غرقت في لحمه، وأمروه، بعد أن أعصبوا عينيه، بالمشي وهو محاط بغابة من الخوذات، وتقدموا في صورة ستبقى شاهدًا على همجية الإحتلال وبيّنةً على كونه مفاعلًا يفرغ جنوده من آدميتهم ويحوّلهم إلى روبوتات وحشية.
إنه ذلك الفتى الذي التقطته عدسة الصدفة كعصفور تائه في عين عاصفة "تورنادو". نصف جسمه كان مخفيًا وراء أجساد "مطهمة" كخيل المغول، وهو يلبس بنطالًا أزرق يشبه ما يلبسه شباب هذا العصر وعلى صدره سترة رمادية عادية تظهر عليها أحرف انكليزية، وينتعل حذاء رياضيًا أبيض، يداه لا تظهران في الصورة فقد ربطتا خلف ظهره.
أحد الجنود كان يشد رأسه إلى الخلف فظهر عنقه مصقولًا وناعمًا وانكشف وجهه العاجي وهو موشى ببعض آثار اللكمات السوداء. شعره كان بلون العنب. رغم العصبة التي أخفت عينيه، أخالهما بزرقة سماء الخليل، بقي أجمل من جميعهم.
كان الجنود يتحركون بتشكيلة عسكرية قتالية، كمن قبضوا على "سوبرمان "خارق نزل من الفضاء، ويحرسونه بتأهب ميداني كامل. من يساره التصق به جندي في الثلاثينيات من عمره وبيمناه يشد رأس فوزي إلى الوراء، وتضغط يده الأخرى على كتفه ككماشة وملزمة؛ قائد المجموعة يسير في المقدمة وهو مدجج كرفاقه بكل العدة والعتاد. في الصورة ظهر كأنه يتقدم إلى الوراء ويلتفت إلى فوزي بحركة تؤكد عبثية المشهد، وخلفه ينتصب جنديان وهما يرفعان سلاح "رامبو" الأوتوماتيكي، ويداهما جاهزتان على الزندين، بينما بدت الفرقة كلها كموجة من القفف العائمة في بحر بلون الخردل الفاسد.
أخذوه إلى معسكر للجيش قريب من المكان، وهناك في غرفة معتمة أكملوا طقوس "حفلتهم" حتى كاد أن يفقد وعيه، وذلك بعد سكب الماء البارد على قدميه العاريتين وقيامهم بالدوس عليها للإيجاع.
شعر بإعياء شديد، فكلما كان يطلب منهم التوقف كانوا يزيدون الحصة قنطارين.
نقلوه، بعد أن أفرغوا غيظهم، إلى مركز شرطة كريات-أربع حيث قام شرطي بالتحقيق معه لمدة ساعة تقريبًا وهو مكبل اليدين وفي حالة نفسية صعبة.
اتهموه بالقاء الحجارة فأنكر التهمة، لكنهم "أقنعوه" أن يوقع على إفادة كتبت بالعبرية، ثم نقلوه إلى مركز توقيف "عتصيون" حيث مكث هناك بضع ساعات اضطر بعدها المسؤولون إلى نقله لإجراء فحوصات في أحد المراكز الطبية، في أعقابها اقتادوه إلى سجن عوفر. وهو ما زال رهن الاعتقال.
قصة فوزي هي واحدة من عشرات القضايا التي رصدت مؤخرًا في زيارات المحامين لمراكز التوقيف والاعتقال الاسرائيلية، فمن المعطيات المتوفرة يظهر أن عدد المعتقلين الفلسطينيين، منذ اعلان ترامب بخصوص القدس ولغاية اليوم، تجاوز الخمسمائة معتقل، بينهم حوالي (١٥٠) قاصرًا، و (١١) فتاة وبعض الجرحى.
"عهد" بلا طفولة
قد تصبح صور الطفلة عهد باسم التميمي ابنة قرية النبي صالح، من أشهر أيقونات تحرير الشعوب من نير الاحتلالات وقمع جنودها؛ فهي ومنذ كانت بعمر الحسون أشهرت طفولتها الماسية في وجه فولاذ الجيش الإسرائيلي وعنجهية باروده.
لم تخش غزاوتهم ولم تصغر عند جنازير مركباتهم، بل حاولت قبل سنوات، وهي بطول فلة، أن تمنعهم من اعتقال والدتها، فعاندت وصرخت وبكت وركضت وراء الجيب العسكري، الذي سرق منها الطفوله وقلبها، وهي تنادي على حلمها وصوتها يملأ فضاء الشرق حرقة ولوعة؛
ثم بعدما صارت بطول ناي جاءوا ليعتقلوا أخاها الصغير، فوقفت أمام قبضاتهم "بشراسة" أم رؤوم تدافع و"تخرمش" وتتوعد، فحذار حذار من "وجعي ومن غضبي".
وبعد أن صارت مثل قوس قزح خاضت قبل أيام معركتها الثالثة، وكانت أوجع المعارك وأصخبها، فهي"المليحة" التي جاءت بشوك وردها لتصفع وتتحدى من حسبوا أنهم داسوا على عتبات كرامة الفلسطينيين وحققوا مرحلة اللاعودة.
وقفتها استفزتهم، فجنوا ومادت بهم الأرض وتموجت أصداغهم بعد أن تيقنوا أنهم خسروا.
اعتقلوها مع معظم أفراد بيتها، لتنضم إلى تلك الكوكبة من الأسيرات والأسرى الذين ينتظرون وراء القضبان بأمل انبلاج الصبح والحرية.
ميلاد وعهد
عهد هي عينة لأجيال فلسطين الحرة المولودة تحت حراب المحتلين وفي ظل القمع والحرمان والذل،
وهي مرآة ناصعة نقية تعكس عجز العرب والمسلمين، خاصة الذين يتساوقون، بالستر أو شبه العلن، مع مغتصبي الأرض والقدس وقامعي أهلها،
وهي، في نفس الوقت، مهماز فلسطيني ينقر في ضمائر كل من شاهدوها ويشاهدونها وهي تحترق على مذبح الكرامة الفلسطينية ولا يحركون ساكنًا ولا يحاولون لو هز أغصان الريح عساها تقلع وتمسح عن خدها الغض بقايا حسرة ودمعة حرّى.
عهد هي صلاة الفلسطيني الحر في فجر هذا الميلاد المجيد ووعد الملائكة بالرحمة والخلاص،
وهي الندى حين يبلل حناجر الخائفين من غدر العواصف وغضب الرعد.
عهد هي صدى لأماني الراحلين، وصوت "أيوب" عندما يصحو ولا يرضى بالفواجع نهج حياة ومصيرًا .
وهي الوردة الناتئة في سور عجز "الكبار"، وابنة الالتباس ومجاز للمستحيل.
عهد، أيا أيقونة مشرقة، يليق بك النصر والفرح، فأنت "الحسناء" في تراتيل "ابراهيم" والقلق الذي يقض راحة المحتلين، ولكن..
لولا حرقتي على قلب العصفور، وخوفي على حرير العينين، ومعرفتي بلؤم السلطان وشغفه بفرقعة السياط على خواصر الجياد، ودنفه بسحق الورد كي يصطاد قبرة ويسقط "طوقان"، لتمنيت لك مرتبة "القديسين" ومكانة أعلى من "جان دارك" وأبقى من أميرات الملاحم، لكنني أخشى عليك من غدر السحاب ومن الخديعة في السراب، فمن أجلك، وكي لا تقعين من على صهوة الأمل، سأصلي، وأنا المفطوم عنها، ومن أجل أترابك سأدعو، لا سيما ونحن على أعتاب ميلاد يسوع الناصري - التلحمي، ذلك الطفل الذي يجب أن يحبك لأنك مثله لا تنتسبين "لقيصر" وتعافين الظلم والظلمة، ومثله لا تكرهين أحدًا، لكنك لا ترضين بالمهانة والجوع وبالعيش في بطن التنين، ولأنك تنامين على أرائك منسوجة بالحب والصبر والتضحيات، ومثله لا تخشين الشوك ورفقة العراء،
فأنت من جيل صلى ويصلي من أجل السلام، لكنك تعرفين أنه لن يحل إذا بقي جيش "بيلاطس" والمرابون والعرافون وباعة الفسق يستوطنون جباهكم وساحات بيوتكم.
سأدعو من أجلكم السماء وأسألها كيف تسمح للأشرار أن يتاجروا بدم "المعلم" وباسمه ترتكب أكبر المجازر والمعاصي؟
وسأسأل الملائكة، في ليلة الميلاد، ألم تسمع أنين "عهد"، وأمنية "المريميات" وهن ينذرن أنفاسهن فداء "للقيامة" والخلاص وللمسرة بين الناس؟
لماذا تأخرتَ؟ وأين كنتَ، أيها "الفادي" منذ أكثر من قرن، وأنت، كما جاء في الكتب، سند لأحرار النفس ومطعم للجوعى ونصير للمظلومين وشفيع للمساكين ومنصف المحرومين؟
0 comments:
إرسال تعليق