مقدمة بعد مقدمة :
مصطلح ( شعراء الواحدة ) مجازي ، وهو شائك ومجهد ودقيق ، كما ذكرت في الحلقة الأولى ، وإلا كيف نتحقق من آلآف الشعراء بآلآف المراجع والمصادر والمؤلفات ، من أنّ لفلانٍ منهم أو علتان بيت شعرٍ يتيم ، أو نتفة ، أو مقطوعة ، أو قصبدة ، بل هل لديه ديوان صغيرأم لا ؟ وخصوصاً في هذا الخضم الزاخر من التراث والروايات والانتحال وتشابه الأسماء ، يكفي أن تعرف أنً القصيدة ( اليتيمة) - ستأتينا - خطب ودّها أربعون شاعراً حتى استقرّ التذبذب، والأخذ والرد على دوقلة المنبجي ...!! نعم يحتاج الأمر لجهد جمعي ، والباب مفتوح للباحثين ...
ولا جرم أن أنوّه أن بحثي يتجاوز ما بحث عن شعراء الواحدة في مؤلفات أو موسوعات ، أو صحف قطرية ، ليست لها مدى مكاني لكلً من يتكلم الضاد ، ولا عمق زماني يمتدّ لقرون حتى غربلها الزمان ، ونفذت لنا ، لذلك لا تتوقع مني أن أدوّن ما كتبه الأستاذ الباحث صلاح الزامل عن شعراء وحدته في جريدة الرياض (1) ، ولا ما ذكره الأستاذ الباحث علي عطوان الكعبي عن نقده لمصطلح ( شعراء الواحدة ...المعاصرون) (2) ، ولا أجشم نفسي عناء البحث عنهم في ( شعراء الغري ) و(البايليات) للشيخ علي الخاقاني ، ولا ما كتبه السيد محسن الأمين في ( أعيانه) ، ولا ما دوّن في معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين ...ولا غيره من الموسوعات الحرّة المعاصرة ، أكرر غربلة الزمن بعمقه البعيد وبقاء القصيدة خالدة ، أو انتشارها على ألسنة العرب دون حدٍّ محدود ، أو أفق ضيق محصور ، دليلٌ على تفردها كنتاجٍ خالد !!
إنّني سأجتهد - وربّما هي رمية من غير رامٍ - بتقسيم شعراء الواحدة القدماء إلى ثلاث طبقات :
أ -شعراء بقى ذكرهم أو خلدوا لقصيدة واحدة ، ولم يثبت لهم أي شعرٍ غيرها ، فهم : شعراء الواحدة .
ب - شعراء بقى ذكرهم أو خلدوا بقصيدة واحدة ، ولهم شعر قليل كنتف أو مقطوعات ، أو قصائد معدودة ، وربما جمعت على هيئة ديوان صغير ، فهم : شعراء بواحدة .
ج - شعراء مشهورون ، ولديهم شعرمتداول ، وقصائد أخرى و دواوين ، ولكن خلّدوا كعمالقة لقصيدة ذاع صيتها ، وتناولتها الألسن عبر التاريخ ، فهم : شعراء لواحدة .
سنأخذ أربعة شعراء من الطبقة الأولى ( شعراء الواحدة ) ، وهم :
1- خُراشَة بن عمرو العَبسي 2 - دَوْسَر بن ذُهَيْل القُريْعيّ 3 -ابن زُرَيْقِ الْبَغْدَادِي 4 - دَوْقَلَةُ الْمَنْبَجِي.
1 - خُراشَة بن عمرو العَبسي :
شاعر جاهلي من بني عبس وهو من الفرسان، لم تذكر له المصادر ترجمة إلا إشارات، ولم تعطِ أي تفاصيل عنه ، ولم يعرف من شعره إلا قصيدته الواحدة التي قالها في يوم شِعب جَبَلَة أعظم أيام العرب، وكان لبني عامر وعبس على بني ذبيان وتميم، وفيه قتل لقيط بن زرارة وأبو عكرمة ، وأسر حاجب بن زرارة، وافتدى نفسه بألف بعير. قال ابن قتيبة في (معارفه) : " وأكثر العرب فداء حاجب بن زرارة فدى نفسه بألف بعير، وكان مالك ذو الرقيبة القشيري أسره يوم جبلة، وقيل له ذو الرقيبة لأنه كان أوقص " (3) ،وقد جعل خراشة صدر قصيدته معرضا لصفة أطلال حبيبته وفخر بقومه بني عبس وبكثرة ساداتهم وكرم محتدهم وشجاعتهم وفي البيت 11 وصف حزن " أم حاجب " لمصرع ولدها لقيط وفي 12-14 يذكر فتك قومه ببني غنم يوم حبالة، وانتصار قومه على بني عذرة وبني كلب :
1 - أَبَى الرَّسْمُ بالجَوْنَيْنِ أَنْ يَتَحَوَّلاَ * وَقد زَادَ بَعْدَ الحَوْلِ حَوْلا مُكَمَّلاَ
2 - وبُدِّلَ منْ لَيْلَي بما قد تحُلُّهُ *** نِعاجَ المَلاَ تَرْعَى الدَّخُولَ فَحَوْمَلاَ
3 - مُلَمَّعَةً بِالشَّأْمِ سُفعاً خُدُودُهـــا ******كـــأَنَّ عليها سَـــابِرِيًّا مُذَيَّلاَ
4 - كأَنَّ جُنُوداً رَكَّزَتْ حَيْثُ أَصْبَحَت ** رِمَاحاً تَعَالَى مُسْتَقِيماً وأَعْصَلاَ
5 - فلا قَوْمَ إِلاَّ نَحْنُ خَيْرٌ سياســــةً ***** وخَيْرٌ بِقِيَّــــــاتٍ بَقِينَ وأَوَّلاَ
6 - وأَطْوَلُ في دَارِ الحِفَاظِ إِقامَــةً ****** وأَرْبَطُ أَحْلاَماً إِذا البقْلُ أَجْهَلاَ
7 - وأَكْثَرُ مِنَّا سَيِّداً وابْنَ سَيِّـــــدٍ *******وأَجْدَرُ مِنَّـــا أَنْ يَقُـــولَ فَيَفْعَلا
8 - قُرُومٌ نَمَتْنَا في فُرُوعٍ قديمــــةٍ ****** بِحَيْثُ امْتنَاعُ المَجْدِ أَنْ يَنَتَقَّلاَ
9 - حُماةٌ غَدَاةَ الرَّوْعِ يَأْمَنُ سَـرْبُنَا ****** إِذا دَهِمَ الوِرْدُ الضَّعِيفَ المَذَلَّلاَ
10 -مَصَالِيتُ ضَرَّابُونَ في حَوْمَةِ الوَغَا * إِذَا الصَّارخُ المَكْرُوبُ عَمَّ وخَلَّلاَ
11 - ونَحْنُ تَرَكْنَا عَنْوَةً أُمَّ حاجِـــبٍ ****** تُجاوِبُ نَوْحاً ساهِرَ اللَّيْلِ ثُكَّلاَ
12 - وجَمْعَ بَنِي غَنْمٍ غَدَاةَ حُبَالَـــةٍ **** صَبَحْنَ مَـعَ الإِشْرَاقِ مَوْتاً مُعَجَّلاَ
13 - بِكُلِّ سُرَيْجِيٍّ جَلاَ القَيْنُ مَتْنَهُ **** رَقِيقِ الحَواشِي يتْرُكُ الجُرْحَ أَنْجَلاَ
14 - وعُذْرَةَ قد حَكَّتْ بها الْحَربُ بَرْكَهَا *** وأَلْقَتْ عَلَى كَلْبٍ جِرَاناً وكَلْكَلاَ (4)
يطلع عليك الشاعر بقصيدته الواحدة المتبقية طلعة شاعر مجرب ولهان بأطلاله بالجوتين ، وهي قرية بالبحرين ، ودارس رسمه ، وهذه ليلاه كفاطم امرئ القيس ترعى البقر في متسع من الأرض ورحابها ما بين الدخول فحومل ، وما عطف بالواو ، وإنّما بالقاء ليضمّ الملا كلّه ، وكما ترى شاعرنا كان متأثراً بشعر امرئ القيس ، وأسلوبه الشعري، ولغته وصوره ، اقرأ للملك الضليل :
قفا نبك من ذِكرى حبيب ومنزل *** بسِقطِ اللِّوى بينَ الدَّخول فحَوْملِ
فتوضح فالمقراة لم يَعفُ رسمهاَ *****لما نسجتْها من جَنُوبٍ وشمالِ
نسير معه حيث يسير مع بقره الملمعة بألوانٍ شتى بسوادها المحمر ، تجر أذيال أتوابها السابرية الطويلة البيضاء ( زفّة عرس ...!!).
لا يظلُّ بالك مشغولاً بالريم ، للريم ربّ يحميها ، وجنود تحرسها مسلحين برماحٍ أعضلٍ صلبة ، لم تقوّم تقويماً ، أو قد ثقفت تثقيفاً ، هذي القرون ، قرونها كرماحِ.
نعرج معه حيث يعرج ، فالفخر بعد الطللية ميزة عربية ، جاهلية إسلامية :
فلا قوم إلا نحن خير سياسةٍ ******* وخير بقياتٍ بقين وأولا
وأطول في دار الحفاظ إقامةً *** وأربط أحلامًا إذا البقل أجهلا
القصيدة الجاهلية مبيّنة ، ماركة مسجلة ( ذاك... وَأينه) ، ستقول لي : وما المناسبة لهذا ؟ ومن اعترض عليك ، وشكّك في جاهليتها ؟ !! والله أنا أستبق الأمور !! سنأتي على القصيدة ( اليتيمة ) لدوقلة المنبجي ، وأقول لك ما سبب استطرادي ...؟!!
مهما يكن ، نبقى في فخره بعد أطلاله ، قال الضبّي : (دار الحفاظ) التي يقيمون فيها صبرًا عليها لعزهم، قال الشاعر:
ونقيم في دار الحفاظ بيوتنا *** زمنًا ويظعن غيرنا للأمرع
ومثله قول سلامة بن جندل :
يقال محبسها أدنى لمرتعها ***** وإن تعادى ببكء كل محلوب
قوله (وأربط أحلامًا) أي أثبت يريد أنهم لا يجهلون. وقوله (إذا البقل أجهلا) أي حمل الناس على أن يجهلوا وذلك إذا كان الربيع وأمكنت المياه و(البقل) تذكروا الذحول وطلبوا الأوتار لإمكان البقل والماء. ومنه قول الشاعر:
يا بن هشام أفسد الناس اللبن ***** فكلهم يعدو بسيفٍ وقرن
ومثله قول الآخر :
وقد جعل الوسمي ينبت بيننا***** وبين بني ذبيان نبعًا وشوحطا
ومثله قول الآخر :
وفي البقل إن لم يدفع الله شره **** شياطين ينزو بعضهن على بعض
يواصل السيد خراشة اعتزازه بقومه ، وتشريفه لهم كابراً عن كابر ، وسيداً ابن سيد ، يقولون فيفعلون ، قروم فحول من الرجال ، بناة مجدٍ رفيع كرفعتهم ، هيهات أن يتزلزلا ، نعم والنعم !!:
حماة غداة الروع يأمن سربنا **** إذا دهم الورد الضعيف المذللا
حماة الديار ، أنّى فزع فازع ، ودهمَ وردهم المذلل داهم ،مصاليت الجباه الظاهرة ، ضرّابون غير هيّابين في حومة الوغا ، يغيثون الصارخ المستغيث سيان عمّم ، أو خصّ خلانه خللا، والصارخ من الأضداد ، تستعمل للصارخ المستغيث ، والصارخ المستجيب ، يقول آخر :
إنّا إذا ما أتانا صارخٌ فزعٌ *** كان الصراخُ له قرع الظنابيب
عجيب أمر العرب الجاهلة في جاهليتهم ، تراهم يغيثون بصراخهم وسيوفهم الصارخ المستغيث ، ولا يبالون أن يتركوا أم حاجبٍ عنوة ظاهرة سافرة ، تنوح مع النائحات مقابلة ، إذ ثكلت حميمها :
ونحن تركنا عنوةً أم حاجـــــبٍ *** تجاوب نوحًا ساهر الليل ثكّلا
وجمع بني غنمٍ غداة حبالــــةٍ ***صبحن مع الإشراق موتًا معجلا
وعذرة قد حكت بها الحرب بركها * وألقت على كلبٍ جرانًا وكلكلا
قال الضبي: (الجران) باطن العنق. و(الكلكل) الصدر. ويقال الجران باطن الحلقوم. يريد أن الحرب بركت عليهم. وإنما هذا مثل أي إنا فنيناهم. و(البرك) الصدر. إذا فتحت الباء أسقطت الهاء وإذا كسرت الباء أثبت الهاء .(5)
نكتفي بهذا القدر المقسوم مع خراشة العبسي ، وإلى الملتقى مع شاعر الواحدة التالي دَوْسَر بن ذُهَيْل القُريْعيّ ، ولكلّ حادثٍ حديث ، والله المستعان على الحديث !!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) قصيدة واحدة خلدت أسماءهم.. فذاعت شهرتهم : صلاح الزامل - صحيفة الرياض : الخميس 26 مارس 2015 م / جمادي الآخرة 1436 هـ العدد 17076
مما يذكره ولا نعتد به : من أشهر الذين ليس لهم إلا قصيدة واحدة الإمام فيصل بن تركي رحمه الله
محمد بن مهدي رحمه الله التي قالها في رثاء زوجته
الشاعر راعي عودة سدير الأب أبو دباس والابن اسمه دباس والأب اسمه محمد وقصتهما...
ومن الذين نظموا قصيدة واحدة شخص من أهالي عنيزة عاش في القرن الثاني عشر الهجري وهو شايع الحسن رهن نخله بسبب تراكم الديون التي في ذمته وكان له ابن في العراق فأرسل له قصيدة يشكو حاله.
راجع المقالة وما ذكره من شعراء الواحدة المغمورين
(2 ) شعراء الواحدة .. المعاصرون! : علي عطوان الكعبي ... موقع النور بتاريخ 30 / 08 / 2008 م
( 3) المعارف : ابن قتيبة الدنيوري - 1 / 126 - الوراق - الموسوعة الشاملة
(4) راجع معهد آفاق التيسير :
http://afaqattaiseer.net/vb/showthread.php?t=9642#.VwiCu3pk9-w
6 - دار الحفاظ: التي يقيمون فيها صبرا عليها لعزهم. أربط أحلاما: أي أثبت، يريد أنهم لا يجهلون إذا البقل أجهلا: أي حمل الناس على أن يجهلوا وذلك إذا كان الربيع وأمكنت المياه والبقل، تذكروا الذحول وطلبوا الأوتار
8 - القرم: الفحل، أراد السيد المعظم. الفروع: الأعالي
9 - السرب: المال. دهم: فاجأ وأتى غفلة. الورد: الإبل الواردة
10 - المصاليت: الظاهر و العز، اشتق من قولهم "سيف صلت" وهذا المعنى لم يذكر في المعاجم، وسبق تفسيرها بغيره في 15: 33. عم: يعني استغاث استغاثا عاما لم يخص أحدا وهذا الحرف "استغاثا" مصدر لم يذكر في المعاجم. خلل: خص، أو دعا خلانه.
12 - حبالة: موضع، وهو في ياقوت "هبالة" بالهاء.
13 - سريجي: سيف نسب إلى "سريج" اسم رجل كان صانعا للسيوف. الأنجل: الواسع. وهذا البيت زيادة من نسختي فينا والمتحف البريطاني.
(5 ) المفضليات : المفضل الضبي - تحقيق وشرح : أحمد محمد شاكر و عبد السلام محمد هارون رقم الترجمة 121 - ص 405 - 406 - الطبعة السادسة - دار المعارف - القاهرة - مطبوعات ديوان العرب .
0 comments:
إرسال تعليق