القرار الذي اتخذته الهيئة التنفيذية لمنظمة التربية والعلوم والثقافة "اليونسكو" ...يشكل انتصاراً للحق الفلسطيني،ولو كان هذا الإنتصار على الصعيد الثقافي والتراثي محدود القيمة،ولكن المعارك على الجبهات الثقافية والتراثية،أيضاً هي كالمعارك على الجبهات العسكرية والسياسية تعتبر مهمة يجب أن نعد لها كل الأسلحة والأدوات.
الصراع على هوية الأقصى جزء من صراع على هوية القدس وفلسطين،وهو ممتد لعشرات السنين...ونحن جميعاً نتذكر جيداً بأن اليهود اطماعهم في الأقصى أو ما يسمونه ب "جبل الهيكل" ليست بالجديدة فقد حاولوا في عام 1929 الصلاة على الرصيف المقابل لساحة البراق "حائط المبكى" وعلى أثر ذلك إندلعت اشتباكات عنيفة بين اليهود والعرب،ثورة البراق عام 1929 م،مخلفة خسائر بشرية حيث استشهد العشرات من المواطنين العرب،وقتل العديد من اليهود فيها،ولتقوم بريطانيا بتشكيل لجنة تحقيق عرفت بلجنة "شو" باسم صاحبها واحالت القضية الى عصبة الأمم وشكلت لجنة خاصة في 14/1/1930 والتي اكدت في توصياتها على ان ملكية الساحة والرصيف التابع لها جزء من المسجد الأقصى،وهي تابعة لمسلمين ،وتتبع الوقف الإسلامي،ومن الهام جداً ذكره ان بريطانيا اعدمت في تلك الثورة الشهداء الثلاثة محمد جمجوم وفؤاد حجازي وعطا الزير..
قرار "اليونسكو" الذي أكد على عدم وجود روابط أو علاقة دينية أو تاريخية أو تراثية ما بين اليهودية والمسجد الأقصى "جبل الهيكل" شكل صفعة قوة لدولة الاحتلال،والتي وصفت القرار بالهلوسة وبأن المنظمة الدولية فقدت شرعيتها ومصداقيتها وبأنها معادية لدولة الاحتلال،وأعلنت عن قطع علاقاتها مع المنظمة الدولية، وأزرتها في ذلك أمريكا التي أوقفت دعمها للمؤسسة الدولية "اليونسكو"،فهذا القرار مزج بين الجوانب السياسية والدينية والتاريخية في مواجهة التهويد وتزوير الحقائق والتاريخ،وقال لا حق لليهود في أي جزء من أجزاء المسجد الأقصى،وهو مكان مقدس للمسلمين دون غيرهم من أتباع الديانات الأخرى على الرغم من تأكيده على المكانة التاريخية لمدينة القدس لأتباع الديانات الثلاثة (الإسلام،المسيحية واليهودية)إلا أنه أفرد نصاً خاصاً للمسجد الأقصى للتأكيد على إسلاميته الخالصة،وفي هذا الإطار شددت اليونسكو في قرارها على :- أن باب الرحمة وطريق باب المغاربة والحائط الغربي للمسجد الأقصى وساحة البراق جميعها أجزاء لا تتجزأ من المسجد الأقصى والحرم الشريف، ويجب على الكيان الصهيوني تمكين الأوقاف الإسلامية الأردنية من صيانتها وإعمارها حسب الوضع التاريخي القائم قبل الاحتلال عام 1967.وأوضح القرار أن هناك فرقا بين ساحة البراق و(ساحة الحائط الغربي) التي وُسّعَت بعد عام 1967 ولا تزال قيد التوسعة غير القانونية المستمرة على حساب آثار وأوقاف إسلامية.
وطالب المجلس التنفيذي في القرار المدرج بوقف اعتداء وتدخل رجال ما يسمى بـ (سلطة الآثار الإسرائيلية) في شؤون الأقصى والمقدسات.
كما أكد المجلس على صون التراث الثقافي الفلسطيني والطابع المميز للقدس الشرقية، وأعرب عن أسفه الشديد لرفض العدو تنفيذ قرارات (اليونسكو) السابقة وعدم انصياعه للقانون الدولي، مطالبا إياه بوقف جميع أعمال الحفريات والالتزام بأحكام الاتفاقيات الدولية المتعلقة بهذا الخصوص.
كما طالب الاحتلال بعدم التدخل في أي من اختصاصات الأوقاف الأردنية الإسلامية في إدارة شؤون المسجد الأقصى، وأدان استمرار اقتحامات شرطة الاحتلال وتدنيسهم لحرمة المسجد الأقصى.
وشدد المجلس على الحاجة العاجلة للسماح لبعثة اليونسكو للرصد التفاعلي بزيارة مدينة القدس وتوثيق حالة صون تراث المدينة المقدسة وأسوارها.
والقرار حمل أكثر من رسالة،منها رسالة لدولة الاحتلال،بأن إستمرار بقاءه كدولة فوق القانون،لا يمكن ان تستمر الى الأبد،وان عليها أن تطبق قرارات الشرعية الدولية،وأن تنهي إحتلالها للأراضي الفلسطينية المحتلة،وبأن هذا القرار وعلى الرغم من أنه قد يضاف الى عشرات القرارات الأخرى المتعلقة بالقضية الفلسطينية والتي لم تجد طريقها لتنفيذ،فإن هذا القرار قد يشكل "تسونامي" لقرارات أخرى تدين دولة الاحتلال وتجرمها،مثل قضية الإستيطان وغيرها من القضايا الأخرى،وكذلك حمل رسالة للولايات المتحدة الأمريكية ،بأنه يتوجب عليها عدم الإستمرار في تشجيع إسرائيل على خرق القانون الدولي،وتشكيل مظلة من الحماية لها في المؤسسات الدولية من أية قرارات قد تتخذ بحقها او عقوبات قد تفرض عليها على خلفية خرقها للقوانين والمواثيق والإتفاقيات الدولية والقانون الدولي الإنساني.
إسرائيل بذلت جهوداً كبيرة من أجل أن تصدر "اليونسكو" قراراً يؤكد على صلة ما بين اليهودية والمسجد الأقصى "جبل الهيكل" ونجحت في جعل العديد من الدول تغيير موقفها من التصويت من المؤيد الى الممتنع،وراهنت على ان الحالة العربية المنهارة،قد تجعل الطريق أمامها سالكة لصدور مثل هذا القرار،المهم لها جداً في هذه الفترة بالذات،وخاصة أن صدور مثل هذا القرار قد تأجل من تموز الماضي حتى الثالث عشر من تشرين أول الحالي،ولكن قضية المسجد الأقصى وحدت العرب والمسلمين خلفها،وليأتي القرار مؤكداً بأن المسجد الأقصى والحائط الغربي تراثا إسلاميا ولا علاقة لليهود به لا من قريب أو بعيد.
هذا نصر دبلوماسي وثقافي محدود،يمكن لنا ان نبني عليه في تحقيق إنتصارات قادمة،وخصوصاً إذا ما توحدنا وفعلنا ماكنة اعلامنا وعملنا السياسي،فهناك العشرات من القرارات التي بإمكاننا أن نعمل على تفعيلها،ومنع القفز عنها او تفريغها من مضمونها ومحتواها،أو تحريفها،وخاصة ما هو متعلق بحق العودة والقرار الأممي رقم (194)،حيث تنشط الكثير من الدوائر المشبوهة من اجل إسقاط هذا الحق او الإلتفاف عليه بالشطب والحذف أو التحوير.
قرار "اليونسكو" قطع الطريق على الجهود الإسرائيلية لتهويد المسجد أو تقاسمه،وأخرج حكومة الاحتلال عن طورها،وأكد على الرواية الفلسطينية التي يتم تعميدها يوميا بالدم الفلسطيني داخل المسجد الاقصى والقدس وفي عموم أرض فلسطين .
مديرة عام "اليونسكو" ايرينا بوكوفا،يبدو انها كما هو حال الحكومة الفرنسية،تحت وطأة الإنتقادات الإسرائيلية للمنظمة الدولية والتهديد بقطع العلاقات معها أو قطعها،أرادت أن تفرغ القرار من مضمونه،حيث قالت في بيان لها إن "التراث في مدينة القدس غير قابل للتجزئة، وتتمتّع كل من الديانات الثلاث في القدس بالحق بالاعتراف بتاريخها وعلاقتها مع المدينة"، على حد زعمها.
ومن هنا يجب التصدي بحزم لمثل هذه البيانات والتصريحات التي من شأنها تفريغ هذا القرار من مضمونه خدمة لدولة الإحتلال.
0 comments:
إرسال تعليق