لساعات عشر مجنونة في سعيرها، في السادسة صباحاً من يوم الثلاثاء
28/ 9/ 2016
كنت أحتمي وحدي بسقف، وجدران بيتي في ( قدسيا )، لاشتباكات من جميع المحاور، غير مسبوقةٍ في حدّتها، طالت منطقة سكني..
كنت أسأل الله اللطف، وأحاور الجدران المهتزّة، عند كل انفجارٍ، أن تكون رحيمةً إذا احتوت جسدي المرتجف.
الاتصالات لم تهدأ، فقد انتقلت النيران إلى قلوب أهلي، وصحبتي، من كلّ حدبٍ، وصوبٍ.
ولدي البكر ( فراس ) أصرّ على المجيء، لإخراجي من البيت، أغلظتُ عليه الأيمان بألاّ يفعل، وبأني سأتدبرّ الأمر بنفسي، حال تهدأ الأصوات المرعبة..
وتسلّلتُ خارج منزلي، أُرتج الباب على بقايا دموعٍ، أودعتها المكان، ها أنا أغادره مرغمةً، رغم تشبّثي بقوّةٍ في أعتابه، رغم كلّ الظروف.
وفي بسمةٍ تشبه العلقم في مرارتها، تهكّمتْ روحي، وأنا أرنو بطرف عيني إلى باب جيراني، في الطابق الأول..أتذكّر صوتي الحاد، ووقفتي الواثقة، وأنا أواجه وحدي : مسلّحاً..حاول السطو على ممتلكاتهم، يحاول كسر القفل، كيف طلبت هويته حين ادّعى أنه يسعى لإيواء عائلةٍ مشرّدة، أصررت على الاجتماع بها، والتعريف بأفرادها، وأني سوف أقطع أي قدم غريبة تعيث شرّاً وإيذاء في عمارتنا، وكيف زعم بأنه سيجلب هذه العائلة، ولم يعد.
إييييه......صادفني جاري ( أبو ياسين) عند مدخل البناء، سألني وجهتي!! محذّراً بأن الطريق غير آمنٍ بعد..، خشية اندلاع الاشتباكات من جديد، وأن هذا الهدوء مخيف..لا يعوّل عليه...فقلت له أشير:
ـــ إلى حيث أولادي وسط البلدة
عرض عليّ مرافقتي، او إرسال ابنه الشاب معي...قلت حاسمة:
ـ لاااا مامن داعٍ، سأسلك ما أعرفه من دروب، تختصر المسافات إليهم..
وانحدر بي الدرب، إلى طريقٍ ترابيّ صعب الاجتياز ، ولكني في ثوانٍ تخطّيته بحذرٍ، وأنا أشمّ رائحة دخانٍ، وبارودٍ ، مازال طازج الجنون ، وأسمع رشقاتٍ متبادلةٍ على أطراف الشارع، من الجهتين.
وعندما وصلت إلى كتل البيوت المتراصّة قرب المسجد في الحيّ الأسفل ( شارع السلام ) سارعتُ الخطوات، لا أريد سوى اختزال الدرب، كي أصل إلى أولادي،
الشوارع كانت خاوية تماماً، إلا من طيفي المارق كالسهم، والعيون تتخفّى بذعرٍ خلف مداخلها ..
سألتني صبيّة صغيرة: ترتجف من الخوف، بحروفٍ بالكاد وصلت إلي: :
ــــ خاااالة شفتي لي شب صغير بطريقك، لابس كنزة حمرة
قلت لها : ـ لا والله ياخالة آسفة ما شفت..الله يطمنك عنه..
كلما اقتربت من وسط البلدة ، أشعر بأن نوعاً من الطمأنينة، بدأت تسري في عروقي.. فالبيوت
هنا متراصّة أكثر، وحركة الناس، والسيارات لها جلبة، تخرجك ولو آنيّاً من استفراد النار بك..
أحدهم كان يسقي الناس الخائفين، الراكضين هلعاً، وكثر كانوا يسألونني : أنت قادمة من منطقة الخياطين؟؟ كيف تركتها ؟؟ !! كيف صارت بيوتها؟؟!! هل تهدّمت ؟؟! كنت أطمئنهم بعبارات موجزة...من غير أن أتوقّف عن المسير.
وعند باب الفرن المنسيّ، منذ زمن بعيدٍ في البلدة، لاح لي البناء الذي يضمّ عائلتي، تلاحقتْ خطواتي أكثر..حتى وصلت بابه المقفل....طلبتُ ابنتي على هاتفي أمازحها:
ــ ماتفتحولي؟ ليش مسكرين الباب..ساعة الواحد بينطر لتفتحوا !!!
صاحت بدهشة : ــ ماما...ماما..أنت هوووون..لحظة....
واستنفرت باقي إخوتها من أجل استقبالي: ــ لك أجت ماما افتحوا لها بسرعة.
دلفوا جميعا يتسابقون نحوي..يضمّونني..والأحفاد الصغار يعانقون مني ما تطاله أياديهم الصغيرة
وعلى عادتي أتملّص من المواقف الموجعة، بدعابة تكسر حدّة الألم..دندنت لهم كلمات من أغنية الطفولة: ــ ( هي أمنا أجت نحنا اشتقنالا وكتير جعنا )
وأفردوا لي مكاناً بينهم..احتموا بجدرانه .. بعيداً عن النوافذ، يعدّون الطعام، بينما كنت أخفي عنهم تهشّما، ملأ الضلوع حزناً على بلاد الياسمين...حقاً لاحتراق الياسمين رائحة تكتوي بنارها الأفئدة، وحسراتٍ سوف تصيب كل من أشعل حريقها، وخان بياضها.
واستقبلتُ ليلتي الأولى بينهم، بجسدٍ منهكٍ، مزروعٍ بالألغام الهاجعة، تسكن في أذني أصوات القنابل، وفي محاجري سحائب من دخان أسود، يفوق الليل عتمة.
الجزء الثاني
*********************
بعد يومين من بدء الاشتباكات العنيفة في قدسيا، صرنا على مفترق طرق، لا ندري أيها نسلك: فإمّا أن تنضج المفاوضات، وتتحقّق المصالحة بمساعي مكتبها، ويرحل المسلّحون إلى مناطقَ، يُتفق عليها، بعد تسليم عتادهم، وإما أن تفشل ـ لا قدّر الله ــ وذلك يعني مزيداً من الأحداث المؤسفة، وسفك الدماء، والتشريد، والدمار..
ومن يقرأ العنوان العريض للدولة في الوضع الراهن، يدرك ذاك القرار الذي لا رجعة عنه.
طلب إليّ ولدي، أن يوصلني بسيارته إلى منزلي، لتوضيب حقيبة، أجمع فيها شيئاً من الثياب، والأوراق الثبوتيّة الهامة، فيما لو اضطررنا إلى الرحيل، بعيداً عن المنطقة، وطُلب إلينا ذلك.
وصرنا نتواصل مع أهلنا خارج البلدة، للبحث عن منزلٍ احتياطيّ بديلٍ نستأجره ، يجمع عوائلنا، كي نبقى معاً.
مسحتُ الغبار عن حقيبةٍ كنت أعدّها لرحلاتنا السعيدة: إلى حلبَ..إلى طرطوس..إلى حماة..
وصرت أستجمع فيها، بعضاً من ملابس شريك العمر ــ العالق في مكان عمله اليوم، وقد تعذّر عليه الدخول.. ــ أخاف عليه من بردٍ قادمٍ، كطفلٍ يحتاج الدفء، خاصة بعد الأزمة الصحية الصعبة التي تعرّض إليها في رمضان الفائت، وأشياء بسيطة لي، لم أتوقّف كثيراً عندها..
وحشرت الأوراق الثبوتية اللازمة في مظروفٍ مخصّص لها، وتوقّفتُ أمام مكتبي، لأستجمع ثروتي التي تعنيني: المجموعات القصصيّة الأربع، والرواية التي اجتزت بها المشاهد الأولى، والحاسب الشخصي.
واستودعتُ بيتي عند مالك الملك، ثمّ قفلتُ عائدة مع ولدي، لا أدري أيّ مصيرٍ ينتظرني: ترى! هل سأعود، وتكتحل عيناي برؤية عشي الجميل؟ هل سأرحل تاركة حلمي الروائي، المطبوع على حافة فنجان قهوة، لم يكتمل ارتشافه ؟!
ترى أي سيناريو سنعيشه؟ هذا الغموض القاتل سيقتلنا، وهذه المناوشات المستفزّة، على الأطراف ، في البلدة التوأم : ( الهامة) مازالت تحفر سمومها في أعصابنا، خوفاً، وقلقاً، ومتابعةً..لارتباط ملفّها بملفنا.
اقترحتُ على ولدي أن تجتمع كل عوائلنا ـــ وقد انضمّتْ إلينا عائلة شقيق زوجي ـــ ..في بيت العمّة الكبرى لأولادي، لموقعه المحميّ بين الشقق السكنيّة، في الجهة الداخلية من البناء، وبُعده ــ حسب اجتهادنا ـ عن مصادر النيران القاذفة المتوقّع اندلاعها فجأة، وأن نأكل على طاولة طعامٍ واحدةٍ، نجتمع عليها، لنخفّف من هذا التوتر الذي يجتاحنا بشيءٍ من الاُنس ـــ خاصة وسط الدعابات المنفلتة من عقالها، يطلقها اليافعون ، المتلجلجون بين انكفاءٍ مرعبٍ، وجذوة حياة لا تريد أن تنطفئ ــ وتبادل الرأي، وتخفيف وقع الأخبار الصادمة ما أمكن..سيّما حين وصل إلينا أن المدة الممنوحة للمسلّحين في خيارهم، لن تتجاوز الساعات.
كان نومنا متقطّعاً، تملأه الهواجس، تعلوه الحيرة، والاضطراب، والإحساس المرير بالخوف..ما أقسى أن تخاف، وأنت تحت سقف بيتك، ووطنك ؟؟!!
يوم الجمعة 30/ 9 قررتْ لجنة المصالحة أن يكون لصوت المواطنين صداه في الساحة العامّة للبلدة، بعد صلاة الظهر، في وقفة اعتصامٍ صامتةٍ، تطالب المسلّحين بوقف القتال، ونزع السلاح، وتسوية الوضع، رحمةً بالبلاد، والعباد، كمطلبٍ جماهيريّ ، يحول دون الدمار، قبل فوات الأوان.
قرّرتُ مع بعض أفراد عائلتي من النساء، الذهاب كنواةٍ تؤسّس لصوت المرأة، في ساحة الميدان.
ووقفتُ مع حفيدتيّ المتفتحتين للتوّ، كزهرتين نديّتين، لما تتشقّق أكمامهما بعد، وقد رافقتنا زوجة ابني البكر، وابنة خال زوجي، وكنتها، في مكانٍ بارزٍ، حيويّ، اخترته عمداً.
الجامع يزدحم بالمصلّين، ومن لم يستطع الدخول، بسبب اكتظاظه، اتخذ الشارع المقابل للجامع، مصلّى له .
كانت العيون التي ترانا، تحملق بنا باستغرابٍ، لم يكن غيرنا من النساء نقف مثل راية فارقةٍ...تقدّمتهنّ كأمّ تخاف على صغارها، أتأبّط حقيبتي بكبرياءٍ، وثباتٍ، كي ينتقل إليهنّ هذا الإحساس العميق، بقوة المواجهة، والتحدي.
توقّفتْ أمامنا سيارة سوداء ضخمة، لرئيس مجموعةٍ مسلّحةٍ، في العقد الخامس من العمر، عرفته من سماته التي لا تخفى، ومن اللاسلكي الذي يتحدّث باقتضابٍ من خلاله، بقسماتٍ جادة..وبذّته المموّهة، وشعره المصبوغ باللون الرمادي، ولحيته الكثّة، التي تغطي النصف الأسفل، من وجهه.
بادرته بنظرةٍ حادّةٍ تقول: أنا لا أخشاك، كائناً من كنت ــ أُسكتُ نبض قلبي المتسارع ــ بتقطيب حاجبيّ، وصرامة نظرتي وهي تحدّق في عينيه مليّاً.
نزل من السيارة بعد أن أنهى مكالمته، يرفع شباكها بزرّ جانبيّ، وعندما صار محاذاتي، رفع يده ملقياً السلام بنبرة هادئة، فرددت تحيته، دون أن يرفّ لي جفن: ــ وعليكم السلام ــ حينما كان يتجه نحو جموع المصلين، ويختفي بينهم.
صرنا نتصّل في تلك الأثناء بصبايا، ونساء العائلة..للحضور حالاً، وننادي من ترقبنا بفضولٍ من النوافذ، والشرفات...أن تعالي...ولا تكتفي بالنظر...حتى من نصادفها تعبرعفويّاً متجهةً للتسوّق، كنا نحاورها بتودّد، وحماسٍ..يثير في روحها حبّ البلد، والخوف على أبنائه، والسعي إلى إيقاف تلك النار التي تلتهم سقفه، وأركانه...وأهمية صوت المرأة في الميدان..باعتبارها العمود الأساس في تكوينه.... وحمايته.
نقنعها بالانضمام، ودعوة غيرها أيضاً، قائلات: هذا صوتك الحرّ، الذي يدفع عن بلدنا الدمار، لانريد السلاح، نريد السلام، أن نحمي أطفالنا، أن نعيد نبض الحياة المشلولة، إلى مرابعنا المحاصرة، المنسيّة، الكئيبة..
وانضمتْ إلينا كوكبة من تربويات رائعات..والكثير من الوجوه الصادقة.
شكّلنا نواة، أذهلتْ الرجال، عندما تقاطروا، من أبواب المسجد، عقب الصلاة..
وقف إمام، وخطيب الجامع يلقي كلمة روحانية بثّ فيها المشاعر الإيجابية، في أن يستجيب الجميع لنداء العقل، لنداء الضمير، كي تقف الحرب، ويعمّ السلام، ونفسح المجال للصلح، فهو سيّد الأحكام.
ومشينا..نجوب الشوارع الرئيسة في البلد، نحمل لافتات كرتونية، تنطق بالسلام، كمطلبٍ أساس...
كنا مثار إعجاب الجميع بهذه المشاركة الفاعلة، كنا أخوات الرجال بحقّ، وكان لنا صوتنا المسموع
وأذهلني مشهد توقفت عنده بشيء من الرضا.....نفس الشخص المسلّح الذي ألقى عليّ السلام..كان بين الجموع، يمشي باتزانٍ، وهدوء...يرمقني سريعاً، بلفتة عاجلة..وكأنه يقول:ـــ هل عرفتني من أكون يا ذات النظرة الغاضبة !!!! ...أنا ومجموعتي مثلك...نريد السلام، ونفسح مجالا للتسوية، كي نحميكم...
شاب مسلّح آخر توقف يخاطبنا: ــ نحنا طالعين كرمالكن..من الأول ما بدنا نأذيكم..بس الله لا يوفق اولاد الحرام.
قلت له : يا ولدي: الله يحمي كل مين يحمي ها البلد..ويدفع الأذى عنها...
وعند المساء، كنت سأنام قريرة العين..لولا أن وصل إلى أسماعنا: بأن بعض المسلحين، رفضوا الصلح، وتسليم السلاح، فعشنا كابوساً مرعباً لاحتمالات لاتطاق..وصلتْ بنا إلى سدّة اليأس، حتى أصبحنا على قرارٍ، لارجعة عنه، صباح اليوم التالي.
الجزء الثالث:
*********************السبت 1/10/ 2016
لم نكدْ نرتشف شيئاً من القهوة الساخنة عند الصباح، بعد ليلٍ ثقيلٍ، طويلٍ، تلعلع فيه احتمالات اشتعال نارٍ ضروسٍ، ليس لها قرار...حتى سمعنا عبر مكبّر صوت المسجد: أن تجمّعوا يا أهل البلد في الساحة: كبيركم، وصغيركم لأمر هام.
لبّينا النداء، نتقاطر رجالاً، ونساء، شيوخاً، وأطفالاً، من كلّ زواريب البلدة، وتعاريجها نبتنا..
كان عدد النساء اليوم ملفتاً في حضوره، التربويات المناضلات أخذن مواقعهنّ بثقةٍ، وجدارة، ووجوه أحببتها،مرّت في حياتي، وأبعدتني الظروف عن رؤيتها..لاقيتها بفرحٍ لا يخفى، وسط دموع مختلطةٍ، بهيبة الموقف.
طُلب إلينا أن نتموضع على الدرجات العريضات، لمدخل المسجد العمري، وقفتُ بينهنّ شامخةً، أعتزّ بإرادتهنّ القويّة، أحسست بمكانةٍ، لها مدلولها القويّ، على أن السنين زادتهم لي محبة، وأن رسالتي التربوية لها تأثير قويّ، رغم تقلّب الأيام، والأحوال، والظروف.
هاهي المرأة اليوم قد خرجت من عزلتها.. كما أردت لها في مسيرتي التربوية، خرجت من وراء الأبواب المغلقة، والنوافذ، النساء يتحفّزن الآن لإطلاق صرخة، أدمت الفؤاد بكتمانها.
خرج رئيس لجنة المصالحة، يحكي بصوتٍ عالٍ: عن خطورة، وحساسية الموقف، مشيراً إلى المسلّحين:
ــــ يا جماعة ..هدول بعد ما وعدونا بالقبول :إما الخروج، وإما التسوية، والبقاء بلا سلاح، انقلبوا علينا، وغيّروا كلامهم، وقال ما بدهم .. شو رأيكم؟؟؟ والله العظيم الوضع خطير، والله العظيم بلدنا مهدّد بالدمار، شو رأيكم نعمل هلأ ؟؟ رح نقرّر مصيرنا، ونقول كلمتنا، معتصمين بحبل الله....موافقين ؟؟!!!
صاح الجميع: ـــ قدسيا حرّة حرّة..المسلّح يطلع برّه....بالروح، بالدم..نفديك قدسيا..
وصاح شاب، فارع القامة، بنبرة حماسيّة عالية: وهو يشدّ قميصه عن صدره متأهّباً:
ـ عا الموت وحياتك، والله على مقراتهم بنفوت، ونطالعهم..لك كلنا جاهزين.
صاحت النساء: ـــ ايد واحدة...ايد واحدة... (وقد أشبكتْ الأيادي، ترفعها عالياً ) ( طير وعلّي ياحمام..قدسيا بدها السلام) .
تقدّم رجل كهل، المرض بادٍ على وجهه الشاحب يقول:
لك يا جماعة فتلتْ قدسيا كلها، على على حبّة دوا، لوجع معدتي: معي قرحة..مالقيت..لك والله بيكفي
صاح آخر من المهجّرين القادمين من مناطق ساخنة:
ــ لك يا جماعة لا تساووا بحالكن متل ما صار بجوبر، ليكنا ضيعناها..ادّمرت..وكانت متل الملكة على عرشها، بعمرانها، وهندستها، ومشاريعها..لك اتشردنا، اتشنططنا...جعنا.. انكسرنا..وكنا من أصحاب الأملاك، والبيوت والجاهات...لك اتربوا فينا..وحافظوا على بلدكم.)
المسلّحون يرقبون الموقف، من بعيدٍ ، ثمّ شيئاً، فشيئاً .. تغلغلوا بيننا متأهّبين ، ونحن لا نكفّ عن التجمهر، والإلحاح في مطلبنا، دون أن نأبه لتواجدهم.
وإذ بحامل سلاحٍ، يتزعّم مجموعة ترافقه، تتقدّم نحونا من طريقٍ رئيسٍ، يشهر سلاحه، ويطلق نيران بارودته تشقّ الفضاء بعنفٍ، قاصداً ترويعنا يقول بلهجة آمرة: ـــ يا اللااااا كل واحد على بيته.
ماج الحضور، وارتجفت قلوب الأطفال، والعجائز...العديد من النسوة، تدافعن مرتدّات.. للدخول إلي المسجد، يحتمين بسقفه، وسط صيحات مذعورةٍ، أقرب إلى الولولة...والبعض منهن تريّثن ــ وكنت بينهنّ ــ ..نتابع مشهداً لا يصدّق:
إذ هجم الرجال كلّهم، كهبّة رجلٍ واحدٍ، يطوّقون المسلّح، وجماعته، كادوا أن يفتكوا بهم، من كلّ الزوايا، وسارع أحدهم بانتزاع السلاح منه مرغماً، يمشي ظافراً بسلاحه، يرفعه عالياً، يعود أدراجه، والجميع يصفّق، يردّد وقد بلغ الحماس أوجه: ــ قدسيا حرّه حرّه..المسلّح يطلع برّه..
ونحن النساء نهتف بحناجرنا الهادرة وأيادينا المتوافقة إصراراً، نضم أصابع يدنا اليمنى بقوة: نهزّها بحركات متتابعة: ما بنخاف..ما بنخاف...
فما كان من المسلّح إلا أن وقف يصيح رغم إنهاكه، وشدة الموقف عليه، وذاك الرفض المدوّي لسلاحه:
ـــ يا جماعة..أنا فلاح ابن فلاح..قبل ماكون مسلّح، أنا ابن ها الأرض، وما رح دمرها كرمالكن..أنتو أهلي، إذا هيك بدكن أنا معكن...وأنا ملّيت..وحياة الله ملّيت من ها العمر اللي صار بيقرّف، عايش بلا هدف، بلا أسرة، بالظلام..كل يوم عم عيش الموت ألف مرة..فقدت كتير من أهلي..راح بيتي..وأنا تعبت...كمان والله تعبت.
ثمّ دفعه الجميع نحو رئيس اللجنة ( الشيخ عادل ) معانقاً، معتذراً...موافقاً على رمي السلاح، وسط تهليلٍ، وتصفيقٍ عاصفٍ من الجميع..
إمام الجامع وخطيبه يحمد الله مردّدا: مبسملا: عزيز حكيم )) لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ عند كلّ مرّة تتحقّق فيها الموافقة..على رمي السلاح...من بقية المحموعات.
صار لزاماً على اللجنة استدعاء من لم يحضر من المسلّحين، أولئك الذين يضعون العقبات في وجه المصالحة، فعمدوا إلى استدعاء آبائهم، واحداً، تلو الآخر، يحيطونهم بحيثيات الموقف، وخطورته، فيشرع الآباء بالتفرّد بأبنائهم، مبصّرين بعواقبه الوخيمة لرفضهم، والفرصة الذهبية لقبول تسوياتهم..آمنين..مجنبين البلد دمارا..وويلات..ودماء..
على الرصيف، وقفت أم نحيلة، كانت تبكي بمرارة، تقدّم منها شاب أسمر، نحيل، يتبع على ما يبدو إحدى المجموعات المسلّحة، يقبّل يديها يرجوها قائلاً:: ببوس إيدك يا أمي روحي عالبيت، اركبي معي بالسيارة لوصلك.
تسحب يدها بجفاء تجيبه: ـــ لا والله مالي راجعة، لتسوّي وضعك، وترجع لعقلك، وتسلّم سلاحك، وتحمي بلدك، وقلبي غضبان عليك ليوم الدين...إذا مابتوقّع عا المصالحة هلأ...
يبتسم من جديد، ويقبّل يدها ثانية ـ خلاص وعد..بس قومي..بشان الله..أنت مريضة...ومو متحملة...واللي بدك اياه بيصير.
ابنتي في الروح ( مزيّن) التي آلتْ إليها الإدارة بعد استقالتي، طُلب إليها، أن تلقي كلمة ارتجالية، بين الجموع، فأشارت إليّ: ـــ لااا... لااا لن أقول كلمة بحضور مربيتي، وأمي...
.وبلا تردّد...أمسكت بمكبّر الصوت، ألقي بين الجموع كلمة عفوية..أودعتُ فيها كلّ قهري، وعذابات السنين، بكائي، أمنياتي المصلوبة، على جرحٍ، من نار...كلّ مابي من حبّ لبلدةٍ طيّبةٍ، تزوجت من فوارسها، وأنجبت عصافير داري..وأحببت أهلها...ورعيت بناتها، بوفاءٍ وثّقته السنون..
المسلّحون قد تداخلوا بين المحتشدين، كان عليّ أن تكون كلمتي جامعة، تقرّب وجهات النظر، كأمّ تخاف على أبنائها من التشرّد، والتفرّق، والضياع.. والغرق في مستنقع الموت،..خاطبت الجميع، أشير إليهم :
ـــ كلكم أولادنا، إخوتنا، علينا كلّ من موقعه أن نتعاون، وندفع الأذى عن بلدتنا، عن أهلنا، أن نعيد للمكان بهجته، وللطفل مدرسته، وللأسواق أرزاقها، وللبيوت أمانها..وللأمّ المكلومة، راحة نفسها.
حلّق صوتي عالياً..عالياً...ونسيت ذاتي، وأفقت على تصفيق مدوٍّ..أشعرني بأني قدّمتُ شيئاً، يسد دَين وطني علي..
أذهلني بعد ذلك موقف طالبة جامعية.. تهجّمت بصوتها على أحدهم، تشدّها عنه أيدي الرجال، والنساء حولها.. ( من مجموعة معروفةٍ ببطشها، وتحجّر عقلها...) عندما تحجّج: بأن وجودهم ما كان إلا للحماية، وردّ المظالم..وقد صارت محاذاته، تستنفر كلّ قوةٍ كامنة بها قائلة:
ـــ ولك حلّوا عناااا..أبي استشهد قنص..وتيتمنا، وما شفنا وشكن برغيف خبز، ولا بعلبة دوا لأمي المريضة..لك اخدتوا كل شي لجيوبكن...المولدات، المازوت، البنزين، الكهربا، المي، سمسرتوا علينا بالبضايع، ضاعفتوا سعرها عشر مرات، بقلب الحصار، مع الفاسدين متلكن من الحواجز..حطيتوا ايدكن على خيرات البلد..سرقتوها منا...لمصالحكن...لك انحرمت من جامعتي كرمالكن..خطفتوا البشر..وابتزيتوهن...سرقتوا الشقق..كسرتوا ابوابها بعد ما هجرها اصحابها..ركبتوا أفخم السيارات، أكلتوا اطيب أكل...والكل جوعان..اتدفيتوا..والكل بردان...ولك حتى شجر البساتين قطعتوه...وبعتوه...ولك حلّوا عنااااا..(.وصرخت كالمغشيّ عليها من البكاء)
الطائرة الهادرة تحوم في المجال الجوّي فوقنا، تحدث صوتاً مرعباً، يخلع القلب، والقذائف تناوش الأطراف الملاصقة لبلدة ( الهامة)، وفي مدخلها عند القوس، وبمنطقة ( الأحداث) وقد اقتربت الأصوات المتفجّرة، العنيفة شيئاً، فشيئاً..حتى لنكاد نتوقّع الشهادة في أي لحظة، ولكن لم نبالِ، كل منا كان مشروع شهادةٍ، من أجل الوطن.
طلبتْ إليّ ابنتي التي شاركت بالاعتصام، رغم ثقل حملها..ان أستريح قليلا في البيت.ثم أعود...لأني بلا فطور، وأقف لساعات طويلة، بين الجموع من غير ان أستريح..وقد اقتربنا من المغرب..فرفضت.أشكرها...لأني أعلم ضرورة وجودي بين كوكبة رائعة، من النساء المناضلات...ذكرنني بنساء المعارك في تاريخنا العربي القديم..وأهازيجهن الحماسية، التي تبثّ مشاعر الصمود، والإرادة في قلوب الفرسان..: ــ إن تقبلوا نعانق..ونفرش النمارق..أو تدبروا نفارق......
أحزنتني جدا...امرأة طاعنة في السنّ..حكت لي عن مخاوفها من التشرد، والنزوح مرة ثانية عن (قدسيا ) التي أحبّتها، وأهلها..لأنها مهجرّة مع عائلتها الكبيرة..بما فيها من أبناء ، وكنائن، وأحفاد..قادمة من ( عين ترما)...وهم الذين كانوا يمتلكون عمارة من أساسها، حتى أعلاها، ومعملا لصنع الحقائب الجلدية..جعلهم في بحبوحة من العيش قبل ان يذوقوا طعم الفقر.بعد أن تهدّم كل شيء..وفقدوا كلّ شيء..
.حتى أنها لم تجد هذا الصباح، ما تسدّ به رمق أحفادها الصغار، فعركتْ لهم شيئا، من دقيقٍ، وماء..ثم قلته في الزيت..كوجبة فطور ...
.ولما أتى لي أبنائي بزوادة طعامٍ، ..وزعته بينهم بلا تردد..أتأمل تعابير وجوههم الطفولية البريئة، وهم يلتهمون المحتوى غير مصدقين..
مسلّحٌ غريب عن البلد...يحاول أن يرهب الحضور، بحركاته الاستعراضية التي ترافق سلاحه الثقيل..المرعب.....يقول: ـ وين لجنة المصالحة..؟؟ ليش متبيين؟؟ شو خايفين ؟؟!!
...فيجيبه الرجال بصوت واحد...ـــ ليش ليخافوا ولك عمي..هون نحنا كلنا أهل ببعضنا...وكلمتنا وحدة..ومافي غريب بيناا...والأيد اللي بدها تأذي حدا..منقطعها...
فما كان منه إلا أن قال: ـــ مبتلعاً طعم الجواب الذي وصل إليه، يشعره بأنه غريب، منبوذ، ولا وزن له بينهم..
ـــ.على كلّ نحنا طالعين..ولو طلبتوا منا انو نبقى ما رح نرضى..بس هه ( ووضع يده على طرف شاربه) والله لتندموا بعد ما يفوتوا الشبيحة لعندكم ويدوقوكن الويل ويعتدوا عليكن وعلى نسوانكن..ساعتا لتقولوا إن لله حق..//
فتهلل الحضور لإزماعه الخروج من البلدة..فرحين بهذا القرار..فهم لا يريدون غير ذلك الخبر، وحسب.وسدّوا آذانهم عن باقي كلماته المستفزّة.، المحرّضة على الكره.
وفي الختام، وقف رئيس اللجنة، يعلن موافقة الجميع على المصالحة، والتسوية بكلّ شروطها، وهاهم في طريقهم إلى القيادة، لرفع القوائم، شاكراً كلّ الحضور، على تعاونهم، يطالبهم بفكّ الاعتصام السلميّ، بعد أن حقّق مبتغاه.
ولم نكد نصل إلى بيوتنا، حتى قرأنا خبراً صادراً عن الجيش، بوقف العمليات العسكرية في قدسيا، وفتح ملفّ المصالحة..واستكمال بنود خروج المسلحين في اليومين التاليين، وتسوية أوضاع من أراد البقاء..
ولما فتحت حقيبة السفر أفرغ محتوياتها، في خزانة الثياب.. وعلى مكتبي..تبسّمت في سرّي مرتاحة الخاطر..أرى (قدسيا) ، مرفوعة الرأس في الساحة، كصبيّةٍ جميلة الطلعة، تقف بصلابة،.تطلق صرختها المدويّة، وتشقّ أكفانها
0 comments:
إرسال تعليق