
لقد انداح هذا المعنى الأسطوريّ في متن الديوان الذي تفرّع إلى عدة عناوين، مع أنّ الديوان كله يشكل قصيدة واحدة، منسجمة في الإيقاع واللغة والأفكار، بحيث لو حُذِفت تلك العناوين الداخلية لهذه القصيدة لما شعر القارئ بأي خلل تركيبي، فاللغة المشتركة، وصياغة الجملة الشعرية الجارية في خط مستقيم متناغم، يمنح الدارس حق الانحياز إلى هذا الحكم. عدا ما في هذه المطولة من انغماس بموضوع واحد وانحياز إلى لغة الخطاب الموحدة من أول جملة إلى آخر جملة، إضافة إلى انتماء ألفاظ الديوان إلى حقل دلالي واحد.
وما يلفت النظر في الديوان أن الشاعرة قد اختارت ضمير المخاطب المؤنث، ولم يفارقها هذا الضمير الذي كان عاملا موحدا إضافيا لاعتبار الديوان قصيدة واحدة، وكأنّ من كتب الديوان شاعر وليس شاعرة، فكيف استطاعت الشاعرة الأنثى أن تتلبس صوت الرجل وروحه وتنطق بلغته دون أن تظهر الأنثى الشاعرة أم أن في المسألة أمرا مغايرا؟ هل أرادت الشاعرة من ذلك إثبات قدرتها على التحدث بلغة الشاعر العاشق أم أنها كانت تعبّر عن رغبتها في أن تكون لغة الشعراء على هذا النحو من الصياغة الشعريّة؟ وكأنها، وبطريقة غير مباشرة، تقدم للشعراء رسالة جماليّة، تتمحور حول كيفية خطاب الأنثى، ليرتفع الشعراء بمحبوباتهم إلى مصافّ "عشتار"، ذلك المثال الإلهي المكتنز بالحياة والحبّ.
هل باستطاعة الدارس أن يرى أبعد من هذه الاحتمالات التي يمكن أن يكون لها كلها سند من الحقيقة؟ فلعلّ الشاعرة في لا وعيها أرادت تقديم هذه الرسائل دفعة واحدة، وهنا لا بد من النظر في الديوان إلى ما هو أبعد من بنيته النّصيّة المباشرة.
لعلّ فيما اقترفته الشاعرة من "لعبة جماليّة" أبعد من كل تلك التأويلات. ربّما أرادت الشاعرة أن تجرد من ذاتها ذاتا أخرى، آمال الشاعرة، وآمال الإنسان، وتواجه نفسها بحقيقتها الجماليّة في الدرجة الأولى، ولهذا الرأي الذي أراه، وجاهته وله ما يؤيده في النص ذاته، وفي مواضع كثيرة عبر توظيفها لمجموعة من الألفاظ ذات الدلالات المفتوحة على التأويل، فكل عبارات الإيحاء "الأيروسيّ" في الخصب والهيام في دنيا العشق ما هو إلا تعبير عن حالة هيام آمال الشاعرة بآمال الإنسان، وكأن إحداهما قد دخلت في حوار مع الأخرى، مواجهة عيانا لا مواربة ولا مجازا، من هنا باستطاعة القارئ أن يفهم هذا الانفتاح على لغة خطاب المؤنث الذي لم يتعثر ولم يتخلف في أي مقطع لتصل الشاعرة إلى خلاصة هذا الحوار الذاتي بقولها في مقطع حمل من الإيحاء الكثير في الدلالة على ما أزعم، وقد عنونته الشاعرة بــ "ما مآلي إلاكِ آمالي"، ففيه تصرّح:
وما زلتُ في حوزة ماضيكِ
ألوذ بنبضكِ
ويشعّك بين اعوجاج أضلعي
بل إن الشاعرة تقترب إلى التصريح بهذا الذي أرادته عندما تعلن بعد عدة أسطر:
أنا من كنتُ طيفكِ الْــ
يتلوّن.. برقصةِ شفاهكِ
على مسرحِ فمي
ردّي إليّ نبعا كنتِه
ما عاد فيه سوى الفحيح!
لقد أوردت الشاعرة في هذا الجزء من الديوان كثيرا من أدوات الكتابة الشعرية، كالعزف والناي والمعجم، وعبارة "ينقش الضوء"، والإيقاع، ونزيف الجمال والشوق، إلى أن تقول موحدة بين ذاتيها؛ ذات الشاعرة، وذات الإنسان؛ لافتة النظر إلى ما بين الذاتين من صراع، وإن حاولت الشاعرة إخفاءه إلا أن يتسرب بين الكلمات:
أمتطي خيول خيالي
صوب جنوني
أتظلّ قوارير هوايَ
تنكفئُ على شظايا أهاتي؟
إن ما قدمته الشاعرة آمال عوّاد رضوان في ديوان "أدموزكِ وتتعشترين" من اقتراح جماليّ شعريّ يعكس انشغال الشاعرة بالشعر وصناعته على مثاله الأسنى، ولكنّه أيضا انفتاح الذات على الذات ليسمع الشاعر صوت نفسه، ولعلّه يحاكم نفسه شاعراً، أو لعله يحاكم الشاعر فيه إنسانيّته وصولا إلى صياغة مشتركة، يكون فيها الشاعر والإنسان منسجمين انسجاما متآلفا بذرات متماثلة متحدة حيوية، كاتحاد "عشتار" و"دموزي"/ "تموز" في دورة عشق تمنح الكون جماليّته والإنسان تكامله، بغض النظر إن كان حب الذات للذات أو حبّ الرجل للمرأة، ففي نهاية المطاف لا فرق بين الكينونتين، ولا مفرّ من أنهما واحدٌ يشكلان الحياة بأعمق مدلولاتها الفلسفية والفكرية، ولذلك كانت الأسطورة التي اتكأت عليها الشاعرة ذات دلالات عميقة ليس فنيّاً فقط، بل في تفسير مظاهر الحياة الإنسانيّة بكلّ تجلياتها الواقعية والجماليّة والروحيّة.
0 comments:
إرسال تعليق