من ألطف وأعذب ما يُدغدغ شغاف السمعِ والعاطفة والمنطق هو سؤال الطفل لأمه حين تعرض عليه الخروج من المنزل : "إلى أين" ؟ وحين تطمئن براءة الطفولة لتمتع الصغير بما يحبه يبتسم ماداً يده كي تمسك بها والدته، ويشرعان في مشوارهما.
بالنسبة لنا كمواطنين من الذي سيمسك بأيدينا ؟ لن يفعل أحد ذلك طالما أننا لم نسأل زعماءنا، وقبلهم ذواتنا: "إلى أين" ؟
أظنه آن أوان سماع صليل خلع الأقفال الصدئة لإعتاق إرادتنا من قفص كبير اسمه ديمقراطية هجينة مفصلة تتناسب مع أحجام وتطلعات ورغبات زعماء ثمانية عشر طائفة، لا يجد بعض ممثليها حرجاً في المطالبة بـ "صحة التمثيل- (تمثيل الطائفة)" ، والذي هو في الحقيقة ليس سوى نسخة أخرى عن تمثيل القبائل في مجلس الـ "لويا جيركا" الأفغاني، أو أي مجلس عشائري آخر. والحال على ما هي، ألم يكن الأجدر بنا الاقتداء بالأطفال الذين يسألون : "إلى أين" .
أتخمونا بهذر إعلامي فائض عن "ديمقراطيتهم"، نسوا أو تناسوا بأن المقصود من الديمقراطية أصلاً هو أن تكون كما أريد لها أن تكون :" من الشعب، وباسم الشعب، ومن أجل الشعب" وليس من الطائفة وباسم الطائفة ومن أجل الطائفة أو القبيلة أو العشيرة أو العائلة أو الحزب. ولذلك ذُرَّتْ كالرماد في ليل عاصفة هوجاء جهود المصلحين الإجتماعيين والنشطاء الذين حاولوا بذل جهود مشكورة بهذا الصدد، أسسوا أحزاباً وجمعيات كي تشكل حجر الأساس لبناء مواطنين يحملون الهوية في عقولهم وقلوبهم وليس في جيوبهم فقط، لكن .. وا حسرتاه!! ماذا كانت النتيجة لغاية الآن ؟
نعرف جميعاً بأن خرق جدار الـ "لويا جيركا" المنيع يستوجب رأس حربة تحدث خرقاً في قوقعة حصون الطوائف، ويستلزم الشروع في تنشئة أطفالنا وشبابنا والأجيال الطالعة على الولاء للوطن أولاً. وهنا يبرز سؤال آخر : "من أين نبدأ" ؟ كامتداد للسؤال الأول : "إلى أين" ؟
إذا أخذنا بنظرية البقاء للأفضل فكرياً وثقافياً وحضارياً سوف تكون أولى محطات قطار التطور والتنمية هي التنشئة الوطنية في المدارس وفي البيوت، حيث التعليم هو بمثابة سفينة نوح المستقبل بالنسبة لمصيرنا، كون الغد هو ملك أولئك الذين يُعِدُّون له اليوم كما قال مالكولم إكس.
تفعيل قبس الأمل لن تضيئه فوانيس الأمنيات وشحنات التذمر، بل يستلزم تحريك القدم خطوة إلى الأمام، وتقديراً حقيقياً واعياً ونزيهاً لمكامن الضعف والقوة ، بالضبط كأي مخطط لخوض معركة. كفتا الميزان في هذه المعادلة هما الدولة والطائفة، خطان متوازيان لا يلتقيان، ولا يجب أن يلتقيا لأن لكل منهما وظيفتة المختلفة كلياً عن الأخرى، فلا الوطن يمكن أن يحلّ محل الطائفة ولا الطائفة محل الوطن، علماً بأن السعي العلمي الجاد لجعلهما متكاملين لن يتطلب معجزة، شرط أن نبدأ.
في عالمينا الإسلامي والعربي، وعلى الأخص في لبنان، تعمل الوطنية والطائفية ككفتي ميزان ترجح الواحدة منهما على حساب الأخرى، بينهما تتأرجح جموع رعايا يرتدون أحدث صيحات الأزياء الغربية، اختاروا، أو أجبروا على الإختيار، بين الدولة والطائفة، الأغلبية استسهلت الأقرب القائم والمتجذّر في الوجدان الجمعي. وطالما بقيت كفة الطائفة هي الراجحة سوف يلجأ المواطنون إلى مظلتها كرعايا.
والحال على هذا المنوال، يحق لنا أن نتخيَّل مدى "صحة التمثيل" الفعلي والعادل في "لويا جيركا المعرض" في حال جرت الإنتخابات القادمة على أساس النسبية، أو المختلطة، أو أي قانون نكون فيه مجرد أرقام ورعايا، نعتقد بأن معظم الناخبين سوف يدلون بأصواتهم كرعايا وليس كمواطنين. ما يُرجّح هذا التوقع هو ما سمعناه عما حدث في جولات انتخابية سابقة خلال زيارة أحد المرشحين لقطب مؤثر من طائفة وحزب آخرين حين قطع القطب وعداً للمرشح بأنّه سوف يمنحه "خمسة آلاف صوت وحبة مسك" . أليس فيما نرى مجزرة ديمقراطية أحد ناحريها من الوريد إلى الوريد أفكار خرافية وغيبية وولاء أعمى أو أعور أو أحول.
رغم أسوَد السحاب الثابت المتلبِّد في أجواء ديمقراطيتنا لدينا أمل في حال زاد الحراك المدني جرعة حركته، وثابت الأحزاب العلمانية إلى رشدها وابتعادها عن التبعية، سوف يتمكنون من استقطاب المزيد من المؤيدين لنهجهم، سوف ينتزعوا اعترافاً أولياً بوجودههم ككتلة ناخبة تفتح شهية كتلة أكبر للتحالف معهم ، ما يتيح لهم الحصول على مقاعد نيابية عبر أحد "البواسط" أو "المحادل". وتحت قبة البرلمان سيسهل عليهم أمر مطالبتهم بإلغاء الطائفية السياسية طبقاً للمنصوص عنه في المادة 95 من الدستور اللبناني. فإذا حصل الحزبيون العلمانيون الحقيقيون والحراك المدني وحلفاؤهم من جمعيات أخرى مماثلة في أهدافها على مقعدين أو ثلاثة مقاعد سوف يشكلون في بعض المراحل التنافسية المفصلية والحساسة بين الكتل الكبرى بيضة قبان تخولهم مقايضة موافقتهم على تأييد مطلب كتلة أو تيار أو حزب معين مقابل مؤازرتهم في انتزاع مطالبهم-مطالبنا خطوة خطوة، وتثبيت وجودهم كرقم دائم في مجلس النواب، على أمل أن تنمو تلك الكرة لتعبّر بالتدريج المتصاعد عن "أصوات الذين لا صوت لهم"، وهم كثر حسبما نعلم، والذين أصابهم اليأس من استحالة تغيير الحال البائس الراهن إلى حالٍ أفضل فصاروا يفضلون التمتع بنزهاتهم أيام الإنتخابات.
يقول الشاعر : "لا خير في حلم إذا لم تكن له / بوادر تحمي صفوه أن يتكدّرا" . ولكن حلمنا المشروع يمتلك الكثير من البوادر المنذرة بخير يحمي صفوه من التكدُّرِ، ونكاد نرى اختراق شعاع شمس التغيير لغيوم تثبيت الطائفية التي كانت قبل انعقاد مؤتمر الطائف ميثاقية عرفية غير مكتوبة في الدستور، وبعده صارت دستورية عرفية وميثاقية.
على أهميّة الهويّات التي نحملها في جيوبنا، أو في حافظات نقودنا، سوف تبقى الهوية الأهم هي الهوية الأم التي تشير إلينا حقيقة وبصدق، تُعرِّفنا بأنفسنا بالدرجة الأولى، بوطننا، ثم تُعرّف الآخرين عنا، تُعلمنا أين نحن ، أين كنا، وإلى أين نسير.
للتاريخ جذور كالشجر. في غياب الهوية الوجدانية يبتلي الحكام والشعوب بالوقوع في فـخِّ قابلية فطرية لتغيير الهوية، لن نتطرق إلى تحولات أكروباتيكية دراماتيكية يقوم بها البعض في سبيل استمرارية نفوذه وسلطته، بل سنكتفي بذكر حادثتين تاريخيتين، لعلّ الذكرى تنفع:
1- كان الملك هنري النافاري (Henry of Navarre) والذي أصبح يعرف لاحقاً بالملك هنري الرابع على المذهب البروتستانتي الأقلّوي في فرنسا، وحين وجد بأن مصلحته تقتضي تغيير مذهبه اعتنق الكاثوليكية عام 1589.
2- في المراحل الأخيرة من حرب الثلاثين سنة (1618-1648) بين البروتستانت والكاثوليك، نشب صراع كاثوليكي – كاثوليكي بين حكام آل بوربون الكاثوليك الفرنسيين وحكام آل هابسبيرغ الكاثوليك أيضاً، الذين كانوا يسيطرون على النمسا وأسبانيا في حينه. يومئذٍ، أعلن آل بوربون الكاثوليك تأييدهم للقضية البروتستانتية بغرض توسيع رقعة نفوذهم على حساب آل هابسبيرغ.
ختاماً، أتذكر بهذه المناسبة قولاً للأمين العام للجبهة الديمقراطية نايف حواتمة في سبعينات القرن الماضي : " طالما أنهم يعرفون مصلحتهم ويتكاتفون ويعملون من أجلها لما لا نتكاتف ونفعل مثلهم" ؟
وإلى اللقاء في مقال آخر.
0 comments:
إرسال تعليق