- أوّلاً: النّصّ
شرعيّةُ الفجْأَةِ والماء
فجأةً نولدُ… نلتقي
ونرحلُ فجأةْ
مسكونٌ بالفجأةِ هذا الوقتْ
لحظةُ ما بيننا مشحونةٌ بالدّهشةْ
زمنٌ يتفتّت في الدّمْ
أسودَ
أبيضَ
يُنْسَلُ من عدمْ
نَحْنُ المخلوقاتُ اللّا مرئيّةْ
نطفةً تسبحُ في الماءْ
تحيا بالماءْ
تعلو بالماء
تدنو بالماء
تدخلُ بالماءْ
تخرجُ بالماءْ
وتسكنُ في جنب الغيمةِ تُروى بالماءِ
وبالفجأةْ
نحن اللّا شرعيّون بغيرِ الفجأةْ!
- ثانياً: القراءة
بقدر ما أتى هذا النّصّ الشّعري لحظة متفجّرة من أعماق الشّاعر الفكريّة والرّوحيّة، مثيرة للتّساؤل الوجوديّ، تجلّت خارجة عنه من حيث طرح إشكاليّة الحياة والموت. إلّا أنّ الشّاعر استنطق اللّحظة ساكباً إيّاها في قالب شعريّ لطيف تماهى ونقاوة الماء كعنصر حيويّ أصيل باعث للحياة. من جهة أخرى تشكّلت هذه القصيدة المائيّة متداخلة مع عامل الوقت والفجأة. بيد أنّ الشّاعر فصل بينهما ليمنح الوقت معنى كونيّاً وجوديّاً، كدلالة على امتداد الخلق من البداية إلى النّهاية. وبرز عنصر الفجأة دخيلاً على الوقت، أو على السّياق الزّمنيّ الطّبيعيّ ليربك الحركة الإنسانيّة ويعطّل طموحها وأهدافها. بل إنّ عنصر الفجأة أتى مخالفاً للحرّيّة الإنسانية، فالشّاعر عبّر في السّطور الأولى عن لا قرار وجوديّ:
فجأةً نولدُ… نلتقي
ونرحلُ فجأةْ.
وهنا يبدو للقارئ أنّ الشّاعر ميّال إلى التّعبير عن قلق معرفيّ وجوديّ، يطرح تساؤلاً ليس بجديد. لكنّ الجديد بروز صوتين في هذا النّصّ، صوت الشّاعر وصوت إنسان الشّاعر. فالشّاعر في عالمه الخاص المرتقي يخضع لعنصر الفجأة من ناحية ولادة الفكرة الشّعريّة وحلولها في نفسه. وأمّا إنسان الشّاعر فيتأمّل سرّ الوجود ويتساءل، ويدعو القارئ للتّساؤل معه، مستفزّاً قلقه وتأمّله. (مسكونٌ بالفجأةِ هذا الوقتْ).
الشّاعر ذاته مسكون بالفجأة متماه معها، ويعوزه حضورها الفعّال، إلّا أنّ إنسانه يرفضها كعامل يغتال الوقت ويعطّل مساره الطّبيعيّ وقد يشكّل هذا العالم عدوّاً لإنسان الشّاعر. فالفرق بين الفجأة الشّعريّة والفجأة كلحظة مربكة للوجود الإنسانيّ أنّ الأولى أصيلة في عالم الشّعر وأمّا الثّانية فدخيلة مربكة تؤسّس لوجود الحياة وحضور الموت لا إراديّاً.
وهنا يكمن الصّراع بين الشّاعر والإنسان. فمن ناحية يطرح إشكاليّة اللّحظة الفجأة المعطّلة، ومن ناحية أخرى يحتاجها (لحظةُ ما بيننا مشحونةٌ بالدّهشةْ). قد لا يكون الشّاعر قد استخدم لفظ الدّهشة بمعناه الإيجابيّ إذا ما تشكّلت هذه الدّهشة كعنصر يعبّر عن كيفيّة حصول أمر ما. إنّما تعبّر الدّهشة ضمناً عن تأمّل عميق في سرّ الوجود الشّعريّ والإنسانيّ معاً ترمز إليه عدميّة الوقت/ الزّمن/ الحياة. كأنّ الشّاعر يريد إعادة صياغة التّكوين الآتي من العدم، من اللّاشيء ويمنحه طابعاً آخر، بل يبحث في دواخله عن أصول الوجود:
زمنٌ يتفتّت في الدّمْ
أسودَ
أبيضَ
يُنْسَلُ من عدمْ
يمنح الشّاعر العدم معنى فلسفيّاً آخر رابطاً إيّاه بعنصر الماء كدلالة حياتيّة حركيّة حيويّة.
نَحْنُ المخلوقاتُ اللّا مرئيّةْ
نطفةً تسبحُ في الماءْ
تحيا بالماءْ
تعلو بالماء
تدنو بالماء
تدخلُ بالماءْ
تخرجُ بالماءْ
وتسكنُ في جنب الغيمةِ تُروى بالماءِ
وبالفجأةْ
سيأخذ العدم في هذه السّطور معنى الحياة أو الحبّ. فالإنسان لم يأتِ من عدمٍ/ لا شيء كما هو مزعوم. وإلّا فقد الوجود الإنسانيّ الحرّيّة بالكامل. ولعلّ دلالة الماء في هذه القصيدة رمزت للحبّ الّذي أوجد الإنسان وهيّأ له الحياة، ويعود ليستقبله في ولادة النّهايات (وتسكنُ في جنب الغيمةِ تُروى بالماءِ). وبهذه الرّمزيّة يولي الشّاعر الماء أهميّة عظمى تؤكّد أنّ الوجود مصدره الحبّ وسيخلص إليه. وما تدرّج القصيدة المائيّة من خلال الأفعال (تسبح/ تحيا/ تعلو/ تدنو/ تدخل/ تخرج/ تسكن) إلّا رحلة الإنسانيّة من الحبّ وإليه. فلو كان الشّاعر مقتنعاً بالعدم كدلالة على اللّاشيء، لما أتى النّص تصاعديّاً ولما استخدم الماء بهذا التّكثيف الّذي أسّس للحياة ويهيّئ للموت كفعل انتقال واكتمال للحياة. وسيكتمل المعنى الكامن في قلب الشّاعر إذا ما دقّق القارئ في عبارة (نَحْنُ المخلوقاتُ اللّا مرئيّةْ).
وأمّا نحن المرئيّون حسّيّاً وماديّاً فلا مرئيّون من ناحية إنسانيّتنا الحقيقيّة. فما يُرى بحسب الشّاعر ليس سوى هيكلٍ يؤكّد الحضور الإنسانيّ وأمّا الأصل فلا مرئيّ داخليّ، يكمن في العمق حيث الحركة الحقيقيّة والحياة الفاعلة الخالدة. وسيتأطّر المعنى أكثر في اللّحظة الشّعريّة الحاسمة، حين ينتصر الشّاعر على الإنسان، وتغلب الحرّيّة القلق الإنسانيّ الوجوديّ (نحن اللّا شرعيّون بغيرِ الفجأةْ!).
بين (شرعيّةُ الفجْأَةِ والماء) كعنوان شمل الطّرح الفلسفيّ الشّعريّ العميق، متجذّراً في حقيقة الوجود وخضوعه للمفاجآت واللا إراديّة غالباً، و(نحن اللّا شرعيّون بغيرِ الفجأةْ!) يتفلّت الشّاعر من العدم والقلق، ليعلن حرّيّته الوجوديّة ومعرفته لها، ويقينه بأنّه يُخضع الفجأة لإرادته لا العكس. فالشّرعيّ أي الطبيعيّ أن يخضع الإنسان ويقبل لأمور شتّى قد لا يقوى على السّيطرة عليها. وأمّا اللّا شرعيّ فهو الحرّ الّذي يتعامل مع الوجود كفعل حبّ حرّ لا يخيفه شيء ولا يتحكّم به شيء.
0 comments:
إرسال تعليق