في السياسة لا أحد يعمل من أجل الأيديولوجيا بل يستخدم الأيديولوجيا لخدمة مصالحه، والعمل السياسي لا يندرج بقائمة الأعمال الخيرية فهو عمل له ثمن وباهظ في أحيان كثيرة، وحديثى هذا ليس قدحاً فى السياسة بقدر ما هو توصيف صادق لها، فتلك هى السياسة وستبقى كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. واليوم تمر منطقتنا الشرق أوسطية بآخر مراحل البلازما نحو التصلب طويل الأمد وهى أخطر المراحل نظراً لأن أوراق اللعب فيها هى الأفعال لا الأقوال أو المواقف السياسية؛ ولأن هذه الأفعال ستكرس واقعاً يراد له أن يستمر لعقود قادمة ضمن جغرافيا سياسية مختلف عن تلك التى كانت لعقود سالفة ضمن توازنات دولية وإقليمية جديدة؛ ومن الواضح أن معالم تلك الجغرافيا يراد لها أن ترسخ بقاء النفوذ الأمريكى على منابع النفط والغاز فى المنطقة بتمويل ذاتى من دولها النفطية مع الحفاظ على بقاء إسرائيل القوة الإقليمية الأكثر تفوقاً عسكرياً وتكنولوجياً وعلمياً؛ بحيث تصبح الدولة النموذج فى المنطقة ضمن أى تحالف إقليمى قادم تحت مظلة الولايات المتحدة، ومن الواضح أن تحالف من هذا النوع يمر حتما عبر تسوية ما للقضية الفلسطينية وميلاد كيان فلسطينى ما، كما أنه من الواضح أن الكيان الفلسطينى لن يكون المولود الجديد الوحيد فى المنطقة، فالمنطقة الشرق أوسطية حبلى بالصراعات التى من المحتمل أن تُنجب المزيد من الكيانات والدول الجديدة ضمن توافقات وتوازنات روسية أمريكية وإقليمية كذلك؛ فالدولة أو الكيان الكردى بات أمر حتمياً خاصة فى شمال العراق، وليس مستبعدا قط أن نرى كيانات أخرى فى العراق وسوريا واليمن وليبيا على أساس قومى أو مذهبى أو حتى قبلى، لكن فى المحصلة لن تكون هناك إلا واحة واحدة في صحراء السياسة فى الشرق الأوسط ألا وهى اسرائيل نظراً لحجم التوافق العقائدى والأيديولوجى والسياسى بينها وبين الولايات المتحدة، وفى المقابل يبقى تأثير روسيا رغم حيويته حتى الآن ضعيف فى الجغرافيا السياسية المتشكلة رغم التدخل القوى المتنامى لها فى الاقليم، وربما يعود ذلك لأن المنطقة تعد تاريخياً ضمن مناطق النفوذ الغربى المتوارث ولكن من المؤكد أن روسيا لن تخرج خالية الوفاض من هذه البلازما نظراً لأنها دفعت فى رأس مال تشكيل هذه البلازما فى العراق وسوريا وليبيا ناهيك عن استثمارها المبكر الاقتصادى والتكنولوجى والعسكرى والسياسى لاحقاً في الملف النووى الايرانى، وبما أن السياسة ليس عملا خيرياً فإن روسيا ستحصل حتما على نصيبها حيث يوجد جيشها وجيوش حلفائها فى المنطقة بنفوذ سياسى وعسكرى يمتد من موسكو وصولاً لشرق المتوسط مروراً بشرق الخليج العربى وأجزاء من العراق وسوريا وضمن فاتورة إعادة الاعمار فى المناطق والبلاد التى دمرتها أعاصير الربيع العربى التى حولت الكثير من تضاريسها السياسية إلى حالة البلازما، وفى المقابل تبدو المهمة الأمريكية أصعب فى إرساء دعائم تحالفها السنى الجديدة القديمة ليس لحجم التناقض العقائدى أو التناقض الأيديولوجى بين الولايات المتحدة ودول المنطقة العربية لأن السياسة لا تعترف بالأيديولوجيا ولكن لحجم تناقضات المصالح بين دول تحالفها، وما الأزمة الخليجية مع قطر إلا حزء منها وهى الاختبار الأول للإدارة الأمريكية الجديدة في قدرتها على تسوية تلك التناقضات، ولكن الاختبار الأصعب سيكون حتماً فى ملف التسوية للصراع الفلسطينى الاسرائيلى، ويرجع ذلك لمحدودية قدرة الادارة الأمريكية فى الضغط على اسرائيل لإنجاز تسوية ما تكون مقبولة لتسويق التطبيع معها عربياً وهو أمر مشكوك فيه، وهو ما قد يدفع الادارة الأمريكية لطرح التطبيع مع العرب قبل التسوية رغم إدراكها لخطورة خطوة كتلك على الوضع الداخلى للدول العربية المطبعة؛ فى المقابل لا يعانى الحلف المقابل الشيعى بزعامة الروس إلا من تناقض عقائدى لا قيمة له في السياسة، وبما أن روسيا ليست قلعة من قلاع الليبرالية والديمقراطية كما توصف نظيرتها الأمريكية فلا يبدو حجم التناقض الأيديولوجى شاسع كما هو فى الطرف الآخر، كما أن التناقض فى المصالح بين أعضائه لا يكاد يذكر، فالمحور الايرانى العراقى السورى اللبنانى يبدو أكثر انسجاما وأقل تناقض فى المصالح .
إن كلا المحورين الروسى والأمريكى اللذان أوشكا على الاجهاز على ما عرف بتنظيم داعش سوف يكونان قريباً على موعد فى سوريا نحو حسم ما هناك بخطوة متقدمة على الأرض لمن يسبق مستفيداً من الفراغ العسكرى الذى تركه إنهيار داعش بأسرع مما توقع الجميع، وحتماً ستكون خطوة من هذا القبيل الأكثر دموية من كل ما سبق عند هذه اللحظة ستتوقف المدافع وستحط الطائرات وسيجلس الكبار لرسم معالم الجغرافيا السياسية الجديدة والتى ستتصدرها أدوار إقليمية وازنة لكل من إيران وتركيا وإسرائيل ولا يبدو للعرب فيها أى دور يسجله التاريخ .
0 comments:
إرسال تعليق