قد ننجح بوضع قائمة منجزات متواضعة تأتت لمصلحة الجماهير العربية في إسرائيل عقب تشكيل القائمة المشتركة في انتخابات الكنيست الفائتة، لكنها، كما ثبت على أرض الواقع، ستبقى تجربة خدوجةً لم تفلح مركباتها الأربعة بإنضاجها لتصبح مولودة جديرة بالحياة الطبيعية، وعلى ما يبدو لا توجد نية حقيقية عند آبائها لإخراجها من "الإنكوباتورات" السياسية المحفوظة في أقسام العنايات المكثفة عند أحزابهم؛ فمن توقع تحوّلها من وعاء واق إلى جسم ذي مضامين سياسية موحِّدة ومستحدثة خابت توقعاته، ومن تمناها مصهرةً يولد في أحشائها القدر وجدها ليس أكثر من ردهة تقي سكانها شدة المطر .
لا أنوي تعداد ميزاتها في هذه المقالة ولا تسمية مثالبها، لكنني أعتقد أن من أبرز إخفاقاتها، عدا فشلها بانتاج خطاب سياسي جامع موحد يفوق حرفة الشعار واغواءات المنابر، كان نكوصها بافراز قيادة يقر بمكانتها ووزنها ورجاحة خياراتها العدو قبل الصديق، فعلى الرغم من مرور السنوات ما زلنا نلمس كيف يتراجع كل صباح منسوب التقدير بين الجماهير العريضة لها ولمؤسسة "القائد" حتى غدت مكانة القيادة عرضةً للتجاذبات الفئوية الهابطة وفكرة مستهدفة عند عامة الناس ومستقواة حتى من جهات هلامية ورخوية.
اننا نواجه أزمة قيادة وطنية حقيقية، ليس فقط في صفوف القائمة المشتركة ومركباتها بل بشكل أعمق وأوسع، إليها نضيف ملامح حالة من الشلل البنيوي المتمكن في أجساد معظم مؤسسات المجتمع المدني وجمعياته غير الحكومية والشعبية، فنحن نعاني منذ سنوات من حالة فراغ قيادي خطيرة، وبما أن الطبيعة لا تقبل بالفراغ وجدنا أنفسنا تحت سطوة عناصر سلبية تتحكم في رقاب مجتمعاتنا وتضرب جذور بناها الحياتية وتمحو مكاسبها السياسية والاجتماعية تاركةً في أجسادنا ندوبًا وعاهات أخشى أن تصير مستديمة.
في مقالتي اليوم سأستعرض مشهدين عامين تداعت تفاصيلهما أمامنا في ظل غياب أو تأرجح دور الأحزاب والحركات ومؤسساتها التنظيمية، وفي كليهما سنرى بلبلة مزعجة أو تضاربًا في المواقف بالرغم من وضوح معالمهما وأؤكد انهما مجرد عينتين من حالات منتشرة بصورة مرضية.
بعض الظواهر بيننا استدعت عملًا موحدًا لصدها وعلى الرغم من خطورة الاوضاع ووجود ضرورة للعمل الوحدوي في وجه تلك الظواهر جاءت ردود فعل الأحزاب والحركات السياسية ضعيفة وغير مؤثرة لكونها مدفوعة، في الأساس، بحسابات حزبية شعبوية فئوية وبصورة تكشف وجود حالة من التكلس المزمن أدت عمليًا إلى تقزيم من كان أهلًا بالريادة وكفئًا بالصدارة، وأبقت على مسارح الأحداث مجرد هياكل قاصرة بوسطيتها ومترددة وتحترف العمل في المساحات الرمادية والسباحة في فضاء صارت فيه الطبطبة حذاقة والكيل بمكيالين أو أكثر تحول إلى ضرورة للبقاء تتحكم فيه مساطر معوجة والعدمية ويطغى عليه الالتباس.
عقارات الكنيسة، من شاب على الشيء..
تطرقت في مقالة سابقة إلى إنعقاد "المؤتمر الوطني لدعم القضية العربية الأرثوذكسية" في مدينة بيت لحم في الأول من أكتوبر المنصرم، وافترضت أن المؤتمر بمخرجاته سيتحول إلى علامة فارقة في جسد هذه القضية ومحطة مفصلية على طريق مكافحة ظاهرة تسريب عقارات الكنيسة المقدسية الارثوذكسية ورافعة لملاحقة من كانوا متورطين في إبرام صفقات بيع الأراضي من كهنة يونانيين مسؤولين ومستشاريهم القانونيين العرب وبعض المتعاونين والمنتفعين.
وقد تكون المظاهرة الحاشدة التي دعت أليها في حيفا، يوم السبت المنصرم، مؤسسات أرثوذكسية بارزة ناشطة داخل إسرائيل، محطة مفصلية ثانية على نفس الطريق ومن أجل نفس الأهداف الوطنية السامية؛ فنجاح المنظمين باستقطاب تلك الجموع يعد تطورًا هامًا وعاملًا في قياس أهمية الحدث، لكن مشاركة عدد كبير من قيادات الجماهير العربية الحزبية والمؤسساتية والشعبية يبقى العنصر الأهم في اعتبار تلك المظاهرة حدثًا تاريخيًا يعكس بداية حقيقية لتكريس ما خطه مؤتمر بيت لحم من موقف "ثوري" المفاهيم، حين أعلن المؤتمرون بالبنط الحاسم أن مسألة تسريب العقارات الكنسية كانت وستبقى شأنًا وطنيًا بامتياز واعتبروا قضية الكنيسة العربية الارثوكسية همًا تعيشه كل قطاعات الشعب الفلسطيني وجميع قياداته .
اشراك ممثل لجنة المتابعة المنبثقة عن مؤتمر بيت لحم السيد ماهر سحلية بين الخطباء حمل دلالة على وحدة الجرح الوطني المسيحي وعدد وتنوع الخطباء الذين تحدثوا يدل على متانة قاعدة التحالف وقوة الائتلاف وقلقه على مصير العقارات المباعة، وقد يكون ما عبر عنه رئيس "لجنة المتابعة العليا لشؤون الجماهير العربية في إسرائيل" السيد محمد بركة خير مؤشر على إصرار القيادات العربية الوقوف في وجه التفريط بعقارات الوطن وإدانة ما جرى ويجري في أروقة تلك الكنيسة ودهاليزها "فالأوقاف ألأرثوذكية هي ملك للشعب الفلسطيني، تمامًا كالأوقاف الإسلامية، ولا يجوز التفريط بها"، وفي إعلان غير مسبوق أضاف بركة مؤكدًا أن "هذا موقف إجماع في لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية. وعلى خلفية ما يجري من تسريب أوقاف، لا يمكننا أن نتعامل لا كطائفة ولا كجماهير عربية مع البطريرك الأرثوذكسي"، ثم توجه رئيس لجنة المتابعة من حيفا الكرمل "إلى القيادة الفلسطينية وعلى رأسها الرئيس محمود عباس، وإلى الأردن وعلى رأسها الملك عبد الله الثاني، لأن بمقدورهم أن يصلوا إلى الحقيقة، اذ لا يمكن ان تكون الحقيقة فقط في الصحافة الإسرائيلية، ونحن نعرف الحقيقة. وأنا على علم بالموقف الرسمي الأردني والفلسطيني بأنهم في حال تم القطع مع البطريرك فحينها سيكون في حضن اسرائيل، ونحن نقول إن البطريرك جالس كليا لدى إسرائيل، ولذا يجب سحب الاعتراف منه، وسحب شرعيته وعزله". قول فصل وموقف قاطع لا لبس فيه.
كان من المفروض أن تضع هذه المظاهرة حدًا لكل المناكفات الهابطة والقائمة، في قضية الكنيسة الارثوذكسية، بين نشطاء الأحزاب العربية الفاعلة بين المواطنين العرب في اسرائيل، خاصة أذا ما عرفنا أن ما قاله بركة وسائر الخطباء كان تعبيرًا عن إجماع جميع القوى المشاركة، فبالرغم من تفاوت التعابير واختلاف شحناتها بين الخطباء طيّرت المظاهرة "رسالة الكرمل" ومعها موقف الجماهير العربية في إسرائيل بلغة تقاطعت وتمازجت مع رسالة مؤتمر بيت لحم.
هذا الذي كان متوقعًا ومنتظرًا لكننا، كما قلنا، نعيش في فضاءات سياسية معطوبة وفي حالة تتآكل فيها مكانة المؤسسات القيادية وهياكلها التنظيمية، فما أن انتهت المظاهرة بدأنا نسمع ونقرأ على وسائل التواصل الاجتماعي وفي الصحافة ما عهدناه من ملاسنات تقليدية جارحة ومقيتة بين نشطاء معدودين على حزبي التجمع والجبهة وفي مشاهد أعادت إلى الذاكرة رائحة غبار تلك المعارك القديمة الدامية، وكأن المعسكرين يؤكدان لنا أننا في الشرق ما زلنا نحيا في أفياء قبائلنا، السياسية والاجتماعية، حيث "الثابت" في ردود أفعالنا تفرضه قوانين القبيلة وولاء أبنائها لأعراف سيوفها والبيارق و"المتحول" تخطه اللحظة والبرقة والمصالح العابرة وحسابات الضالعين في علوم الخسارة والربح القبليين.
ما بعد السعدي وكراسي المشتركة
من الصعب أن ننسى كيف انتهت نيابة المحامي أسامة السعدي واستقالته من الكنيست. قد يفيد التذكير بأن معظم من أدلوا بدلوهم في هذه المسألة كانوا قد طالبوا السعدي بضرورة الاستقالة الفورية من أجل تنفيذ اتفاقية المحاصصة، فالمقعد من حصة حزب التجمع فقط كما حسموا في حينه. كثيرون من منتقدي السعدي هاجموه بأسلوب خال من الرحمة أو الكياسة حين اتهموه والحركة العربية للتغيير بسطوتهم على مقعد ليس من حقهم ونوه هؤلاء للاضرار العامة التي يسببها تأخره بالاستقاله. نقاشات طويلة ملأت أسواق الاعلام ودهاليز السياسة الشعبية، وعلى الرغم من أن بعضها حاول التعاطي مع الحدث بمسؤولية ومن خلال تفكيك الأزمة واعادتها إلى عناصرها بموضوعية، إلا أن ضجيج الأكثرية طغى وطالب السعدي بالرحيل الفوري، مع أن معظمهم أقروا بكونه نائبًا بارزًا وناشطًا مؤثرًا ونجح بتقديم، على الرغم من قصر تجربته البرلمانية، نموذجًا فذًا للعمل الجاد والمسؤول لصالح القائمة المشتركة وجماهيرها العربية.
مرت الأسابيع وجاء بعد السعدي السيد ابراهيم حجازي الذي لم يمارس عمله نائبًا منتخبًا في الكنيست حيث استقال بعد مرور الشهر ليخلفه السيد يوسف العطاونة الذي بدأ عمله نائبًا عن الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة وما زال .
لا أعرف كيف سيتصرف النائب العطاونة ولا من يتلوه في قائمة المرشحين، لكنني أتساءل هنا أمام جميع من كتبوا في هذه القضية باسم قانون "المحاصصة" الحزبية وأهميتها في حماية وحدة القائمة المشتركة وعن ضرورة تنفيذ الاتفاقات بين الحلفاء ومعنى ذلك على المستويات الوطنية والاخلاقية والسياسية، لماذا تصمتون ولا تسمعونا رأيكم بما حصل ويحصل؟
المقلق في هذه القضية هو غياب المساطر العامة السليمة وكيل "الفقهاء" ووكلاء النخب على أنواعها واصحاب بعض الأقلام بمكيالين، فقد يكون الانقضاض على أسامه السعدي والحركة العربية للتغيير سهلًا، لكنهم في النهاية سيحتكمون لرأي الناس وتقييماتهم، أما المزعج سيبقى في كون الانتهازية هي مسطرة "ثابتة" في حسابات القيادات العربية والنخب، والوفاء والاستقامة وتوخي المصلحة العامة هي مجرد ومضات "متحولة" في مواقعنا، وفي المحصلة المجتمع والجماهير هم من يدفعون الفواتير والثمن . يتبع
0 comments:
إرسال تعليق