في الاسبوع الفائت، كانت واشنطن تعج ببطاركة ومطارنة المسيحيين من المشرق العربي. لقد جاؤوا لحضور المؤتمر السنوي "من أجل الدفاع عن المسيحيين" .وقد تأسس هذا المؤتمر من أربع سنوات بسبب الخوف والقلق على الوجود المسيحي في الشرق.
هناك ما يبرر هذا الخوف، ونحن نعرف ان الخطر على الوجود المسيحي هو بالفعل خطر حقيقي. ولكن علينا بلورة رؤيا جديدة تحررنا من الافكار المجمدة والمتطرفة. رؤيا تؤمن بان الانسان واحد وبأن الدفاع عن المسيحيين لا يكون بحمايتهم بقدر ما يكون بتفعيل دورهم. وقبل أي كلام لا بد ان نسلط الضوء على نقطتين أساسيتين: أولا، ان الحروب المستعرة في هذا الشرق لم تقتل من المسيحيين وتهجر منهم بقدر ما قتلت من المسلمين وهجرت منهم. وثانياً، ان الضحية الكبرى لهذه الحروب لم تكن الدين المسيحي بل كانت دين الإسلام. لقد جعلت هذه الحروب الإسلام مرادفاً للإرهاب. وهذا ما كانت اسرائيل تخطط له وتصبو اليه. ففي اعتقادي لم يعتد أحد في التاريخ او في الحاضر على الاسلام كما اعتدى عليه هؤلاء الذين اعتنقوا الاسلام المتطرف دينا وحملوا السلاح وقتلوا باسم الاسلام وباسم الله. وأكبر خطأ يقع فيه المسيحيون هو ان يحاربوا التطرف الديني الاسلامي بتطرف آخر، تطرف ديني مسيحي، وان يعتقدوا ان حمايتهم تكون بإرساء حلف بينهم وبين المسيحيين المتطرفين في الغرب ضد اخوانهم وأهلهم من المسلمين في الشرق. وكلنا ثقة بأن القيميين على المؤتمر يعرفون ذلك جيداً، إذ طلب المؤتمرون من الغرب مساعدتنا على القضاء على الارهاب وإرساء السلام. هذا ليس لحماية المسيحيين وحدهم، بل أيضاً لحماية المسلمين و جميع البشر.
أرضنا هذه هي أرض الهداية. هنا ولدت الاديان السماوية الثلاث: اليهودية والمسيحية والاسلام. ولكن بدل ان يكون هذا التراث الديني العظيم قوة لنا جعلناه قوة ضدنا. لقد أنزل الله علينا الدين ليرفعنا الى فوق، فإذا بنا ننحدر الى تحت ونصبح ضحية لهذا الدين. لم تكن المشكلة في الدين ذاته. بل كانت ولا تزال في الفكر الديني. وكما نطالب اليوم بنهضة في الفكر الاسلامي لمحاربة التطرف الاسلامي، كذلك نطالب بنهضة في الفكر الديني المسيحي. نهضة تؤمن بان الدين وجد لخدمة الانسان وليس العكس. وأن الانسان أهم من الدين. نهضة تؤمن بان الانسان هو الإمام. ألم يقل الله انه خلق الانسان على صورته؟
والمسيحية كانت هنا وكانت قبل الاسلام. هذه الارض هي أرضها قبل ان تصبح أرض الاسلام أيضاً. ولا تكون هذه الارض في مجدها إلّا عندما تكون المسيحية والاسلام في انصهار بالمحبة. في تاريخ العرب وفي العصر العباسي بالذات، كانت بغداد عاصمة الحضارة وكان المسيحيون والمسلمون يعملون معا لبناء نهضة فكرية وعلمية. وفي التاريخ الحديث كان رواد النهضة العربية مسيحيين من لبنان وسوريا ومصر، مسيحيين جاؤوا بمفاهيم جديدة. مفاهيم تتمحور على القومية، وفصل الدين عن الدولة، والايمان بثقافة العلم والمعرفة، والحرية.
في مفهوم القومية، حدد العرب المسيحيون مفهوم الدولة وشددوا على ان يكون الانتماء أولاً الى الوطن قبل ان يكون الى الدين، وان نكون مواطنين قبل ان نكون مسيحيين ومسلمين. وعملوا مع أخوانهم المسلمين لبلورة مفهوم العروبة. وأما قادة الاحزاب اليسارية على مساحة العالم العربي كله من الحزب السوري القومي الاجتماعي الى الحزب الشيوعي الى حزب البعث العربي الاشتراكي، فكانوا في معظمهم من المسيحيين. ونحن اليوم في لبنان يجب أن نعمل على ارساء قومية لبنانية اجتماعية، خارج اطار الدين والطائفة يكون دينها الولاء للبنان.
وأما في قضية فصل الدين عن الدولة، فقد تعلم المسيحيون في الغرب انه ليس في الإمكان بناء الدولة المدنية دون فصل الدين عن الدولة. "الدين لله" ، أما الدولة فهي للإنسان. فكل انسان مواطن في الدولة. هناك من يقول ان فصل الدين عن الدولة غير ممكن في الاسلام، إلّا ان دولاً اسلامية كبيرة مثل اندونيسيا وماليزيا تمكنت من هذا الفصل وأحرزت تقدماً هائلاً.
وفي قضية العلم والمعرفة، الجهل هو من أهم أسباب التخلف الحضاري، وهو أيضاً من أهم اسباب نشوء التطرف الديني الراديكالي. ان الجهل يفرق، أما العلم فيجمع. والمعرفة تحرر. ألم يقل المسيح "تعرفون الحق والحق يحرركم". لقد تعلمت انه كلما غصت في المعرفة عمقاً كلما اقتربت، ليس فقط من الله، بل أيضاً من أخيك الانسان. أنا لم أرَ في طبي جرحاً مسيحياً وجرحا مسلماً. ولم أر قلباً مسيحياً وقلباً مسلماً. ان الله خلق الانسان واحداً. لكن الانسان جعل أخاه الانسان، عدوا له.
وماذا نقول في الحرية؟ نقول إنها البوابة الى الحضارة. دونها لا تعيش ولا تنمو الحضارة. ونقول إن المسيحيين كانوا وما زالوا دعاة الحرية في هذا الشرق. شيء آخر، غير ارساء السلام، يجب ان يطلبه المسيحيون من دول الغرب. سؤال بسيط. أتريدون حقاً الدفاع عن المسيحيين في الشرق؟ اذاً أدعموا سيادة لبنان واستقلاله؛ لان لبنان هو هيكل المسيحية في الشرق. اذا انهار هذا الهيكل، انهار الحضور المسيحي كله في هذه المنطقة من العالم وسدل الستار على الحرية فيها. ويل للمسلمين إن يوماً فرغت هذه الارض من مسيحييها.
وقبل الختام يجب ان نعترف بأن هذا الشرق ينزف من مسيحييه من زمان. من قبل ان يأتي الارهاب بـ"القاعدة" و"النصرة" و"داعش". وهو لا يزال ينزف لان المواطن لا يثق بالحاكم. لقد بنينا دولاً من ورق، دولا فولكلورية. وان لم نبني دولاً حقيقية، سيفرغ هذا الشرق ليس فقط من مسيحييه بل ايضا من مسلميه. وأود ان اقول لمسيحيي هذا الشرق ومسلميه: أنا مسيحي من لبنان وأومن بالمسيح وبرسالته، ولكنني في الوقت نفسه احترم الاسلام واحب أخي المسلم. كما أقول إنه ليس هناك مستقبل للمسيحيين مستقل عن مستقبل للمسلمين، وكذلك ليس هناك مستقبل للمسلمين مستقل عن مستقبل للمسيحيين. هناك مستقبل واحد وهو للوطن. وان لم نتمكن من الارتفاع فوق الدين لن نتمكن من بناء الوطن. ان الارهاب يريد ان يفرض علينا معادلة جديدة. فهو يخيرنا اليوم فإما التطرف الديني وإما الدكتاتورية السياسية. نحن نرفض الاثنين معا. نحن دعاة بناء الدولة المدنية.
تعالوا نعترف أمام الله مسيحيين ومسلمين بأن مسؤولية الحروب في هذا الشرق كانت مسؤوليتنا، وكذلك اليوم فمسؤولية ارساء السلام هي مسؤوليتنا أيضا. نتحاور ونعمل مع دول الغرب كما نتحاور ونعمل مع دول الشرق ومع جميع دول العالم، إلّا ان مسؤولية قدرنا يجب ان تبقى دائما في أيدينا نحن لا في أيدي غيرنا .ان الذين يضعون قدرهم في أيدي غيرهم، لا يصنعون المستقبل. فالذين يصنعون المستقبل لا يلومون غيرهم للفشل.
0 comments:
إرسال تعليق